لماذا توحشت إسرائيل الآن أكثر من أي وقت مضى؟

تزعم إسرائيل أن لديها «الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم»، وهي مقولة تصلح للسخرية فقط، ذلك لأن إسرائيل نفسها مشروع إمبريالي قائم على العدوان والتوسع والعنصرية، وجيشها يمارس البطش والتوحش منذ تأسيسه، وهو متفرغ للتنكيل بالفلسطينيين، وانتهاك حقوقهم الإنسانية.
وعلى مدى سنوات الاحتلال الطويلة والبشعة كان جيش الاحتلال يقتل ويقصف ويهدم بلا رحمة، بوتائر متباينة، تقل حينا وتشتد أحياناً، وفقاً لتعليمات وسياسات محددة، ويمكن القول إن آلة بطشه كانت منضبطة إلى حد ما؛ فمثلاً عمليات الاغتيال كانت تستهدف أشخاصاً بعينهم، وكذلك الاعتقالات، عمليات اقتحام البيوت كانت تحاول مراعاة المحددات الاجتماعية، وحتى هدم البيوت يُنفذ بعد التبليغ وإعطاء فرصة للاعتراض أمام المحاكم، قمع التظاهرات بالهراوات، ثم صار بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز، وفي الاجتياحات يستهدف الجيش مواقع محددة سواء بالقصف أو بالاقتحام، وعلى الحواجز كان يجري إذلال المواطنين بالانتظار الطويل، أو بإرجاعهم، أو باعتقال أحدهم.. ومع كل هذه المحددات إلا أن هذه الإجراءات تعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان ومخالفة للقوانين الدولية، وهي قطعاً غير مقبولة، وتبرر مقاومتها بكل الوسائل. 
إلى حد ما كانت إسرائيل تحاول مراعاة القانون، وتأخذ بالحسبان وجود صحافة ورقابة ورأي عام محلي وعالمي؛ فمثلاً كانت تقتل الفدائيين الذين ينفذون عمليات ضدها، وتعتقل من نجا، بما في ذلك عمليات شهيرة وكبيرة مثل «السافوي»، و»عملية دلال المغربي»، و»الدبويا».. وغيرها، وفي العام 1986، اختطفت مجموعة من الجبهة الشعبية الباص 300 وعلى أبواب دير البلح، أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على الباص وأنهت العملية، وقتلت منفذيها، واعتقلت أحدهم، لكنها زعمت أنهم جميعا قُتلوا خلال الاشتباك، إلا أن صورة للفدائي ظهرت وهو مقيد اليدين فجّرت فضيحة في الأوساط الإسرائيلية ظلت تتفاعل لسنوات طويلة، وتم توجيه انتقادات لاذعة لأفراد الشاباك بأنهم تورطوا بإعدام مواطن كان معتقلا بين أيديهم..
وفي الانتفاضة الأولى طالب رابين جيشه بتكسير أطراف الفلسطينيين، ولكن بعيداً عن الكاميرات، وقد أحدثت صورة تكسير يدَي مواطن في نابلس ضجة كبرى وهزت الضمير العالمي، وظلت تتردد في وسائل الإعلام لفترة طويلة. 
اليوم، كل شيء تغير، ولم تعد هناك أي محددات ولا محاذير على سلوك الجيش، وقد أُطلقت يداه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه. 
في السجون الإسرائيلية ومنذ العام 1967 بلغ  شهداء الحركة الأسيرة 236  شهيداً، أغلبهم نتيجة الإهمال الطبي وسوء ظروف الاعتقال، والقليل منهم استشهد بالضرب.. اليوم ومنذ 7 أكتوبر استشهد نحو 30 أسيراً نتيجة الضرب المبرح، كما تم سلب الأسرى كافة حقوقهم المكتسبة، ويتم التنكيل بهم بصورة بالغة في القسوة والوحشية، وبدرجة غير مسبوقة.
في الضفة الغربية تستغل إسرائيل التغطية الإعلامية على حرب غزة، وتقوم بمصادرة الأراضي وتوسعة الاستيطان، وإطلاق يد المستوطنين لممارسة إرهابهم ضد القرى، كما زادت وتيرة الاعتقالات حتى اقترب عدد المعتقلين من العشرة آلاف معتقل، فيما قتلت نحو 500 فلسطيني، وهو رقم غير مسبوق.
أما في غزة، فهناك الجنون والإجرام وبأبشع صوره، فقد قتل الجيش حتى الآن نحو 35 ألف مواطن (منهم 14 ألف طفل)، فيما تجاوز عدد الجرحى الثمانين ألفا، أغلبهم بإصابات بليغة وإعاقات دائمة، وتم هدم نحو 80% من البيوت والمنشآت والبنية التحتية، وتشريد نحو مليوني مواطن، والجديد في هذا الإجرام ما يقوم به الجنود من مباهاة بأفعالهم، وتصوير جرائمهم وانتهاكاتهم، وسرقتهم للبيوت، وعرضها علانية على وسائل التواصل.. الجديد أيضا عمليات الإذلال العلنية للمواطنين، ممن يتم اقتيادهم وتعريتهم وتعذيبهم، بما في ذلك ما تتعرض له النساء من تنكيل وتحرش وإهانة (وهناك شهادات عن عمليات اغتصاب وتعرية). والجديد أيضا عمليات التجويع والتعطيش وقطع كافة الإمدادات الإنسانية الأساسية، والجديد أيضا عمليات قصف ومحاصرة واقتحام المستشفيات، وقصف المدارس ومراكز الإيواء، وتنفيذ المجازر الجماعية، وقد تم اكتشاف عشرات المقابر الجماعية، وعمليات سرقة أعضاء بشرية.  
في تموز 2002 اغتالت إسرائيل القائد القسامي صلاح شحادة، بقصف منزله بطائرة F16، ما تسبب باستشهاد 15 مدنياً معه، منهم طفل، وعلى الفور استنكر الرئيس الأميركي بوش العملية وأدانها.. اليوم قتلت إسرائيل أزيد من 14 ألف طفل، وما زالت أميركا تعتبر ذلك دفاعاً عن النفس! وما زالت تدعم إسرائيل وتمدها بالسلاح والمال. 
السؤال المطروح: ما الذي تغير على إسرائيل؟ هل توحشت أكثر، وفقدت آخر ذرة عقل لديها؟ أم أنها أساساً متوحشة، وبلا عقل، والآن بدأ يتكشف وجهها الحقيقي؟ (راجع مقالتي: توحش الصراع، «الأيام «8،2،2016).
لماذا، وكيف حظيت إسرائيل بكل هذا الدعم الأميركي والأوروبي؟ وهذا الصمت والتواطؤ الدولي؟! لدرجة أنها لم تعد تعبأ بالصحافة؛ بل إنها قتلت 135 صحافياً! ولم تعد تهتم بالمنظمات الدولية؛ بل إنها قتلت أزيد من مائتي موظف يعملون في الوكالة وغيرها من المنظمات الدولية! ولم تعد تهتم بمجلس الأمن، سيما وأن أميركا استخدمت الفيتو خمس مرات خلال العدوان! ولم تعد تهتم بالمعارضة الداخلية، ليس لأنها موحدة ضد الفلسطينيين، بل لأنها قبل ذلك أنهت كل وجود لما يمكن اعتباره يساراً إسرائيلياً، وقوى معتدلة، وأصوات عقلانية.  
لم تصل إسرائيل إلى هذا المستوى من العنف والبطش والتقتيل والتدمير طوال العقود السبعة المنصرمة، لا في النكبة، ولا في النكسة، ولا في الانتفاضتين الأولى والثانية، ولا في حروبها الخمس على غزة.. هي تسوّق ما تفعله إعلامياً على أنه دفاع عن النفس، أو لفرض عقوبات جماعية ضد المدنيين لأنهم يحتضنون المقاومة، أو للانتقام من هجمات 7 أكتوبر، أو لاستعادة قوتها الردعية وهيبتها العسكرية.. وكل هذا غير صحيح..
صحيح أنها تنتقم وبلا رحمة، لكن ما تفعله أكثر بكثير من الانتقام، واستعادة الهيبة.. ما تفعله جزء أصيل من عقليتها وطبيعتها العدوانية.. كانت سابقاً تضبط نفسها لاعتبارات سياسية وإعلامية وقانونية، وخشية من ردود الأفعال، وتحسباً لأسوأ الاحتمالات، لكنها لم تتوقف يوماً عن إجرامها، صحيح أن تغيرات نوعية طرأت على سياساتها واقتضت منها تغيير إستراتيجياتها، وبالتالي تبني مقاربات أمنية وسياسية جديدة ومختلفة، تمثلت ذروتها في هيمنة اليمين على مقدرات الدولة والمجتمع، لكنها كانت دوماً تمشي بوتيرة متصاعدة، وضمن مخطط مدروس، وكانت تهيئ الظروف لمثل هذا اليوم، وكانت تنتظر الفرصة السانحة التي توفر لها الدعم الأميركي والدولي.
كانت تنتظر الذريعة القوية لإطلاق كامل قوتها مرة واحدة. وهذا ما حصل.

عن الأيام

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *