لغز قناة “الجزيرة”
من أكثر الألغاز استعصاء على الفهم في هذا الزمن العجيب هذا التوافق والتطابق بين قرار قادة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الجماعية على امتداد فلسطين الانتدابية وفي مناطق اللجوء. والقرار – الذي سبقه ببضعة أشهر – لقادة المستعمرة الاستيطانية الصهيونية التي تقود حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لاستئصال الشعب الفلسطيني من الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والمستقبل، وتوافقهما سويا على إغلاق قناة الجزيرة القطرية، لذات الاتهامات بالتضليل والإساءة .
وما يعمق استعصاء الفهم أكثر، أن دولة قطر التي تمتلك القناة وتوجهها، تحظى بصداقة الطرفين الفلسطيني / سلطة ومعارضة/ والصهيوني منذ عقود، وما تزال، وتقبلها الأطراف كافة كوسيط تفاوضي بين القاتل والقتيل !
فأي قوة تمتلكها وتنفرد بها دولة قطر العظمى لتوافق العدوين النقيضين على مصادقتها. وعلى اتهام قناتها الإعلامية الرئيسية بالتآمر عليهما ، وتوافقهما سويا على إغلاقها في مناطق نفوذهما ؟!
يثير هذا التوافق الشكوك بتماثل مأزق القيادتين الفلسطينية والصهيونية، رغم الفوارق الهائلة في موازين القوى التدميرية لصالح الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيونى العنصري، الذي يبدو أنه يتقدم ويوشك على بلوغ أهدافه في كامل فلسطين الانتدابية وجوارها اللبناني والسوري والعربي ، وعموم الإقليم.
مشكلة القادة المزمنة تكمن في اعتقادهم بأن الشعوب قاصرة. وأنهم أوصياء على شعوبهم وأكثر وعيا بحقوقها ومصالحها . لتقرير المسموح لها بالاطلاع عليه. ولتبرير الحجب بما يحظر عليها معرفته. وإغفال حقيقة أن السماح والحجب بات عديم الجدوى في عصر ثورة المعلومات والاتصالات . وأن مواصلة استخدام سطوة القوة في تقرير المسموح والممنوع قد ينفع حينا لكنه يفشل في معظم الأحيان. ويتناسون أن مواجهة الزيف بالحقائق، والإعلام المستنير الذي يحترم الشعب هو السبيل الوحيد لكسب ثقته بقادته ونخبه، وأن القوة مهما طغت إلى زوال، وأن الحقيقة كالشمس لا يحجبها غربال .
خلاصة القول فيما يخصنا كفلسطينين أن وعي الشعب الفلسطيني الذي يخوض منذ أكثر من قرن صراع البقاء، لا تشكله قناة الجزيرة ومثيلاتها. ولا قنوات الإعلام الموجه لخدمة المتسلطين عليه من الاعداء وذوي القربى على السواء . وانه قادر على التمييز بين الغث والسمين، لأن وعيه يتشكل وينضج حسيا بالتجربة التي يدفع ثمنا باهظا لامتلاكه، بدماء أبنائه الزكية التي ما تزال تتدفق على مدى أجياله المتتابعة . الشعوب قد تمهل حينا ، لكنها لا تهمل في محاسبة كل من استغفلها بشعارات براقة واستباح حقوقها ورفع كلفة بلوغها .
عوضا عن إغلاق قناة الجزيرة التي تحترف نقل الأحداث بمهنية عالية بعضها مفيد لكشف حقيقة ووحشية العدو الصهيوني، وكثير منه لخدمة مآرب خارجية ذات علاقة بإعادة هندسة الإقليم. يكون فقط بإعلام فلسطيني مهني ملتزم بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني . يحترم عقل الشعب الفلسطيني المصمم على بلوغ حقوقه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات . إعلام مهني يجهر بالحقائق التي بات يدركها غالبية أبناء الشعب الفلسطيني الذي صقلت وعيه حرب الإبادة الجماعية التي تستهدف جميع مكوناته على امتداد فلسطين الانتدابية المحتلة وفي مواطن اللجوء، ولم تعد تنطلي عليه الذرائع ما لم تقترن بسياسات وسلوكيات فلسطينية مغايرة، تقنعه بأهلية قادته ونخبه في قيادة نضاله التحرري .