قبل لحظة من بدء الشرق الأوسط بالتغير بعد مبادرة الرئيس ترامب، يجب على دولة إسرائيل إعادة تعريف مفهومها الأمني ​​بما يضمن حقوقها التاريخية، واحتياجاتها الوجودية، والاستجابة اللازمة للتهديدات المتغيرة . ولتحقيق ذلك، يجب عليها أيضًا أن تأخذ زمام المبادرة السياسية بشأن القضية الفلسطينية، في إطار خطة ترامب . إذا لم نفعل ذلك، فسنجد أنفسنا نواجه ضغوطًا دولية غير مسبوقة لإقامة دولة فلسطينية، مما سيشكل تهديدًا وجوديًا لدولة إسرائيل.
إن التقصير المريع الذي تسبب بمجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول نبع، من جملة أمور، من أخطاء تاريخية في مفهوم دولة إسرائيل الأمني، وبالتالي يتطلب منا ذلك إجراء تغييرات جوهرية في هذا المفهوم . لا مزيد من احتواء وإدارة صراع على نار هادئة . لا مزيد من جيش صغير ذكي أو اعتماد أعمى على التحذير من الحرب، وعلى التكنولوجيا كمكون حصري تقريبًا . يجب أن يتبنى المفهوم الأمني ​​الجديد مبادئ المبادرة والتنفيذ كجزء أساسي في مواجهة التهديدات متعددة الساحات الموجهة إلى إسرائيل. هذا التغيير يتبلور أمام أعيننا. رأينا ذلك في مبادرة الاستيلاء على أراضي سيطرة في سوريا، وفي الهجوم على قادة حماس وحزب الله، وخاصةً في الهجوم على إيران، رغم المخاطر التي انطوت عليها. إلا أنه ، لا يمكن لأمن دولة إسرائيل أن يعتمد على قوتها العسكرية فقط ، بل يتطلب الأمر أيضًا مبادرة سياسية ترتكز على حقنا في وجود وطن قومي للشعب اليهودي على أرضه، ويضمن احتياجاتنا الأمنية.
إذا لم نتصرف بهذه الطريقة، فستجد إسرائيل نفسها مضطرة لصد محاولات فرض مبادرات عربية أو أوروبية أو أمريكية علينا ، والتي يعتمد معظمها على الرواية المألوفة وغير القابلة للتطبيق “دولتان لشعبين”. لذلك، نؤكد على ضرورة تبني النهج الاستباقي أيضاً في الساحة السياسية .
فمنذ نهاية حرب الأيام الستة واستيلاء إسرائيل على أراضي الضفة الغربية وغزة التي كانت في أيدي الأردن ومصر، امتنعت إسرائيل عن اتخاذ قرار لا لبس فيه بشأن وضع هذه المناطق من البلاد وبشآن وضع السكان المحليين فيها . وفي غياب رواية إسرائيلية واضحة، تستند إلى حقنا الوطني التاريخي (وأيضًا من حيث القانون الدولي)، تبنى معظم المجتمع الدولي الرواية الفلسطينية، التي تعتبرنا محتلين وتعترف بحق الفلسطينيين في إقامة دولة داخل حدود 4 يونيو 1967 .
وخلال هذه الفترة، تم بذل جهود عديدة للتوصل إلى اتفاقيات سلام من شأنها إنهاء الصراع . واستندت المقترحات المختلفة إلى حد كبير على المنطق نفسه – تنازل إسرائيل عن معظم أراضي الضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية على هذه الأراضي، مقابل استعداد الفلسطينيين لوقف الكفاح المسلح والاعتراف بإسرائيل. كان من المفترض أن يُؤدي حل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وأن يُفضي إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجميع الدول العربية . الا أن
منطق اتفاقيات أوسلو شكل جذور فشلها . فالحل الذي اقترحته لم يُرضِ أياً من الطرفين . لا يمكن لإسرائيل أن تعيش بأمان كشريط ساحلي ضيق إلى جانب دولة فلسطينية معادية، تقع على جبال الضفة الغربية . أما الفلسطينيون، فقد أوضحوا من خلال أفعالهم أنهم لا يريدون حقاً إقامة دولة إلى جانب دولة إسرائيل، بل دولة تُبنى على أنقاضها من النهر إلى البحر.
لقد رفض الفلسطينيون جميع المبادرات والمؤتمرات التي عُقدت بين الطرفين، بل وحتى استعداد رئيسي الوزراء الإسرائيليين أولمرت وباراك لقبول معظم المطالب الفلسطينية . وحماس والسلطة الفلسطينية تستمران في تعليم الإرهاب وكراهية إسرائيل، وتعزيز الرواية المعادية للسامية التي تظهر في مواثيقهم ، والتي تظهر أيضاً في الكفاح المسلح الذي تتبناه حماس .

كانت اتفاقيات إبراهام أول محاولة إسرائيلية أمريكية للالتفاف على العقدة شبه المعقدة بين القضية الفلسطينية والتطبيع مع الدول العربية. إلا أن هذه الخطوة التاريخية تركت مجددًا القضية الفلسطينية جمرة ملتهبة ، حيث عرّض هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول استمرار التطبيع مع العالم العربي والإسلامي إلى خطر ملموس.
تضع خطة السلام الحالية للرئيس ترامب هدفًا طموحًا لتغيير وجه العالم عمومًا والشرق الأوسط خصوصًا. في السياق الفلسطيني، تتضمن الخطة إعلان نوايا عام قابل للتأويل . في الأيام الأخيرة، تناول جاريد كوشنر هذه القضية، مشيرًا إلى أن تعريف “الدولة” بحد ذاته يتغير في نظر مختلف الأطراف، وأن الهدف الرئيسي هو إنشاء آلية مستقرة تسمح للأطراف بالعيش جنبًا إلى جنب. وهذا وقت مناسب لإسرائيل. حيث أن وجود إدارة أمريكية متعاطفة جدًا مع دولة إسرائيل يسمح بالتفكير المتجدد والإبداعي في الحلول الممكنة للقضية الفلسطينية ، حلول تتناول المشكلة بطرق مختلفة عن نموذج حل الدولتين، الذي يُعرّض وجود إسرائيل للخطر .
من الحكم المركزي إلى الحكم العشائري :
كشفت حرب غزة عن قسوة حركة حماس، ليس فقط تجاه إسرائيل ، بل أيضًا تجاه خصومها المحليين . منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، شنت حماس حملة تطهير ضد العشائر والقيادات الغزية التي سئمت حكمها. أبرزها وأشهرها أبو شباب، ولكنه ليس الوحيد . هذا الصراع الداخلي هو غيض من فيض الصراع المتجذر في المجتمع الفلسطيني بين الخطاب الوطني، الذي تروج له السلطة الفلسطينية وحماس، وبين البنية الاجتماعية التقليدية للمجتمع الفلسطيني، المبنية في معظمها على العشائر والقبائل . وطالما استمرت الفصائل المعترف بها في الهيمنة على المجتمع الفلسطيني وتعزيز الخطاب الوطني، المبني في معظمه على الدعوة إلى تدمير إسرائيل، فلن تكون هناك فرصة للحفاظ على الروح الحقيقية لخطة ترامب، التي تتطلب نزع التطرف ، والتعايش ، والازدهار الاقتصادي ، والتعاون الإقليمي. من اجل إتاحة الفرصة لتحقيق مبادئ الخطة، التي تسعى إلى تمكين إسرائيل من العيش بأمن، وللفلسطينيين العيش بكرامة في ظل حكومة مستقلة، على إسرائيل أن تُعزز مبادرتها السياسية الخاصة. مبادرة تتيح المجال لمنح الحكم الذاتي لحكم محلي يستند على التركيبة العشائرية للمجتمع الفلسطيني . طُرحت هذه الفكرة في عدة نسخ، بما في ذلك في خطة الإمارات للدكتور مردخاي كيدر، الذي اقترح إنشاء سبع دول – مدن على أساس محافظات السلطة الفلسطينية.
هذا الامر ليس مجرد أمنية ، فهذه فكرة يوجد لها مؤيدون أيضًا من الجانب الفلسطيني. مؤخرًا، نُشرت مبادرة من عشائر الخليل بقيادة الشيخ الجعبري لفك الارتباط مع السلطة الفلسطينية . في رسالة بعث بها إلى الوزير بركات، أعلن الشيخ الجعبري استعداده للانضمام إلى اتفاقيات إبراهام، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، والعيش معها بسلام وتعايش . وينبغي على إسرائيل أن تُعزز هذه الفكرة، التي لها القدرة على إحداث تأثير الدومينو ، وأن تدعم القادة المحليين الذين يتبنونها .
سواءٌ تم إقرار هذه المبادرة أو نسخةٌ مشابهةٌ منها، فإنها ستُشكّل بديلاً عن فكرة “دولتين لشعبين” هذه الفكرة البالية وغير القابلة للتطبيق. طرحُ المبادرة سيتيح لإسرائيل المجال لأن تكونَ الطرفَ المُبادرَ في حلّ الصراع، الطرفَ الذي يطرحُ أفكاراً خلاقةً تتوافقُ مع مبادرة ترامب، وتُتيحُ مخرجاً لمأزق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الدامي والمستمر منذ عشرات السنين .

المصدر: يديعوت احرونوت

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *