لبنان يخطو نحو أزمة غذائية حادّة: 5 مؤشّرات مُقلقة
2,5 مليون شخص في لبنان يعانون حالياً من أزمة غذائية حادّة بحسب «شبكة أنظمة الإنذار المُبكر بالمجاعة»، وهو ما يشكّل أكثر من 45% من العدد المُقدّر لسكّان لبنان قبل تصعيد العدوان الإسرائيلي. إلا أن هذه النسبة لن تبقى ثابتة، بل تتوقّع الشبكة أن ترتفع مع استمرار الحرب والغارات الجوّية. ومن المتوقّع أن تشهد محافظات الجنوب والنبطية وبعلبك-الهرمل الأكثر تعرّضاً للاعتداءات، وكذلك عكار والشمال اللتان تعانيان بالأساس من حرمان وفقر مُدقع وتضمّان النسبة الأكبر من اللاجئين السوريين الفقراء، أزمة غذائية حادّة بحلول أيار/مايو 2025، بمعنى أن يعاني أكثر من 20% من سكّان هذه المناطق صعوبات في تأمين حاجاتهم الغذائية ما قد يجبرهم على التخلي عن الإنفاق على الحاجات غير الغذائية الأساسية، مثل الأدوية والرعاية الصحّية من أجل تأمين حاجاتهم الغذائية. أمّا في المحافظات الأخرى، ولا سيما بيروت وجبل لبنان والبقاع، التي تستقبل النسبة الأكبر من النازحين جراء الحرب، فمن المتوقع أن يواجه عدد مُتزايد من الأسر أزمة غذائية حادّة، ولو أن النسبة قد تبقى أقل من المحافظات الأخرى.
يعمّق العدوان الإسرائيلي على لبنان أزمة الغذاء ويجعلها مُقلقة للغاية. إن ارتفاع عدد النازحين داخلياً باطراد يعطّل سبل عيش السكان التي كانت قائمة في أماكن إقامتهم الأساسية، ويزيد الضغوط على أسعار السلع الغذائية في المناطق المضيفة ويستنزف قدراتهم الشرائية، وسط انخفاض حادّ في المداخيل والمساعدات الإنسانية، ونقص في فرص العمل المُتاحة، وإغلاق المعابر الأساسية مع سوريا وتعطيل إمدادات السوق وسلاسل التوريد بسبب القصف وتدمير البنية التحتية.
والأسوأ أن تداعيات الحرب تترافق مع أزمة اقتصادية متواصلة منذ العام 2019 ساهمت بانهيار العملة تراجع المداخيل وارتفاع التضخم من 3% في العام 2019 إلى 221.3% في نهاية العام 2023، وارتفاع مستويات الفقر ثلاث مرات في عقد واحد وصولاً إلى 44% في العام 2022، وتفكّك مؤسّسات الدولة واضمحلال أدوارها الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن معاناة الاقتصاد اللبناني من هشاشة بنيوية نتمثّل بضعف القطاعات الإنتاجية ولا سيما الزراعة والاعتماد المفرط على الاستيراد الذي يلبّي 80% الحاجات الغذائية. والواقع أن الحرب تلقي أثقالاً هائلة على الواقع الغذائي في لبنان وتهدّد أمنه الغذائي وانحدار نسبة أكبر من سكانه إلى أوضاع مأساوية يعجزون فيها عن تأمين حاجاتهم الأساسية.
أولاً، تراجع الواردات الغذائية وتدهور الإنتاج المحلي
توفّر الواردات الغذائية حوالي 80% من متطلّبات الاستهلاك المحلي في لبنان فيما يوفّر الإنتاج المحلي حوالي 20%، إلا أن الحرب المستمرّة منذ أكثر من سنة وتصعيد حدّتها منذ منتصف أيلول/سبتمبر الماضي يهدّد مصادر الغذاء في البلاد.
في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بلغت قيمة الاحتياطيات الأجنبية (غير الصافية) لدى مصرف لبنان نحو 10.2 مليار دولار بالمقارنة مع 9.1 مليار دولار في تشرين الأول/أكتوبر 2023. إلا أن «شبكة أنظمة الإنذار المُبكر بالمجاعة» تتوقّع انخفاض هذه الاحتياطيات بسبب تراجع الاستثمارات والخسائر والأضرار التي لحقت بالقطاعات الاقتصادية الرئيسة وقدّرها بالبنك الدولي أخيراً بنحو 8.5 مليار دولار. وهو ما قد يؤدّي إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية على الرغم من محاولات مصرف لبنان الحفاظ على تداولها عند حوالي 89 ألف و700 ليرة مقابل الدولار الأميركي. والقلق الأكبر الناتج عن تراجع الاحتياطات وانخفاض قيمة العملة هو التأثير الذي يلقيه على قدرة القطاعين العام والخاص على استيراد الغذاء الكافي، ما قد يؤدي إلى تراجع كمّيات المواد الغذائية المتوافرة، وبالتالي تسجيل زيادات حادّة في أسعارها مقارنة بالعام 2023، لا سيما بعد تعطّل جزء كبير من الأراضي الزراعية بسبب العدوان.
تعرّض ما لا يقل عن 25% من الأراضي الزراعية في الجنوب والبقاع لقصف عنيف من الجيش الإسرائيلي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023
إلى ذلك، دمّرت الحرب جزءاً كبيراً من مقوّمات الزراعة في لبنان. تتوزّع المناطق الزراعية الرئيسة على طول الشريط الساحلي وفي سهل عكار وجبل لبنان وسهل البقاع والتلال الجنوبية. ويتركّز معظم الإنتاج الزراعي في سهل البقاع الذي يمثل حوالي 40% من إجمالي الأراضي المزروعة. بحسب المركز الوطني للبحوث العلمية، تعرّض ما لا يقل عن 25% من الأراضي الزراعية في الجنوب والبقاع لقصف عنيف من الجيش الإسرائيلي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأدّى استخدام الفسفور الأبيض إلى تدهور الأراضي الزراعية ولجوء بعض المزارعين إلى الحصاد المبكر لتجنّب الخسائر، ما قلّل كمّيات المحاصيل المنتجة، أو عدم حصاد آخرين لمحاصيلهم بسبب نزوحهم.
وبحسب «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة»، من المرجّح أن تركّز العمليات البرّية للجيش الإسرائيلي على تطهير منطقة الشريط الحدودي، ما يعني تدمير القرى والأراضي الزراعية في تلك المنطقة والمزيد من النزوح الجماعي. وعليه سوف تتراجع المساحة الإجمالية للأراضي المزروعة بالقمح بالتوازي مع رفع الحكومة الدعم عن القمح المستورد. وتترافق تأثيرات الحرب على قطاع الزراعة مع عوامل أخرى مثل تراجع كمية الأمطار بين تشرين الثاني/نوفمبر وشباط/فبراير إلى أقل من المتوسط السنوي نتيجة تأخر بداية هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة اليومية عن المعدل الوسطي حتى شهر أيار/مايو على الأقل، ما قد يسبّب في إجهاد الرطوبة في المراعي وتقليل توفر المياه في خلال موسم زراعة القمح والشعير، وبالتالي تسجيل خسائر في المحاصيل وسط مستويات منخفضة بالفعل من الزراعة.
ثانياً، تآكل القدرة الشرائية بحكم التضخّم المحلّي
بالإضافة إلى المخاوف من تأثير انخفاض قيمة الليرة اللبنانية على أحجام وأسعار واردات الغذاء، من المتوقع أن تستمر الحرب في التسبّب في تعطيل وظائف السوق وتدفقات التجارة، وخصوصاً بسبب تدمير البنية الأساسية التي تؤثّر على نقل الغذاء والقدرة على تشغيل الأسواق، بما في ذلك المعابر الحدودية مع سوريا، ولا سيما معبر المصنع الذي أغلق حتى إشعار آخر. وهذه المعابر تعد شرايين رئيسة لحركة الأشخاص والسلع والبضائع. وبحسب «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة»، هناك مؤشرات على تخزين المستهلكين واكتنازهم تحسباً لنقص مُحتمل. وبالنتيجة، تتوقّع الشبكة أن تؤدّي هذه العوامل مجتمعة إلى نقص دوري في بعض السلع بدرجات متفاوتة وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية.
وشهدت أسعار الغذاء ارتفاعات مُتتالية في خلال الأشهر التي سبقت تصعيد العدوان الإسرائيلي، واستمرّت على المنحى نفسه في شهر أيلول/سبتمبر الماضي. وبحسب إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 0.94% في أيلول/سبتمبر 2024 بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل شهر في آب/أغسطس 2024، وبنسبة 19.68% بالمقارنة مع ما كانت عليه في أيلول/سبتمبر من العام 2023، ويأتي ذلك على الرغم من استقرار سعر الصرف منذ أكثر من عام وتراجع معدّل التضخم العام. وتبيّن المؤشّرات المُستقاة من مسوحات أجراها برنامج الأغذية العالمي في المحافظات اللبنانية أن هذه الأسعار استمرّت في الارتفاع في خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي أيضاً.
باتت الأسر تنفق على الغذاء أكثر من المُعتاد في ظل انخفاض القدرة على الوصول إلى فرص توليد الدخل، وهو ما يجهد القدرة الشرائية للأسر
وبحسب «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة»، باتت الأسر تنفق على الغذاء أكثر من المُعتاد في ظل انخفاض القدرة على الوصول إلى فرص توليد الدخل، وهو ما يجهد القدرة الشرائية للأسر ويقلّل من القدرة على الوصول إلى الغذاء.
ثالثاً، فقدان الوظائف وتراجع المداخيل
يُقدّر البنك الدولي أن حوالي 166 ألف فرد فقدوا وظائفهم بسبب الحرب، وبالتالي تكبّدوا خسائر في الدخل تصل إلى 168 مليون دولار سنوياً. وفيما لجأ بعض النازحين إلى أشكال مختلفة من العمالة المؤقتة الهشّة، تعيش النسبة الأكبر منهم من دون عمل وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من الجمعيات المحلّية أو من أقاربهم المغتربين، وهو ما يؤثّر في قدرتهم على تأمين حاجاتهم الغذائية والأساسية. أما بالنسبة إلى الأسر الصامدة في الأماكن الأكثر استهدافاً بالغارات الإسرائيلية، ولا سيما في الجنوب وبعلبك الهرمل والضاحية الجنوبية لبيروت، فلا تتوافر لها سوى مصادر قليلة من الغذاء والدخل.
تتراجع فرص العمل بسبب الإحجام عن استئجار معدات الحصاد وتدمير الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الغارات الجوية، وانخفاض المساحة الإجمالية المزروعة
تتوقّع «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة»، أن تكون فرص العمل محدودة في مختلف القطاعات. ففي خلال موسم الزراعة الحالي ستتراجع فرص العمل بسبب الإحجام عن استئجار معدات الحصاد وتدمير الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الغارات الجوية، وانخفاض المساحة الإجمالية المزروعة، وهو ما سوف يؤدي إلى انخفاض الدخل الناجم عن بيع المحاصيل واضطراب الأسواق والنزوح والظروف الاقتصادية الكلية السيئة. أيضاً من المتوقع أن يؤدي الطلب المحدود على العمالة في الصناعات الرئيسة، ولا سيما السياحة والبناء، إلى جانب المنافسة الشديدة على فرص العمل، إلى قمع أجور العمالة المؤقتة المنخفضة بالأساس. وسوف تؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى استمرار انخفاض دخل الأسر في لبنان وقدرتها الشرائية.
رابعاً، استهداف البنية التحتية للمياه والصرف الصحّي والصحة
أدّى استهداف وتدمير البنية الأساسية الرئيسة للصحّة والمياه والصرف الصحي إلى جانب انخفاض القدرة على الوصول إلى الغذاء إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض المعدية، التي ترتفع معدّلاتها بالأساس في خلال فصل الشتاء، وتساهم في ارتفاع مستويات سوء التغذية.
يستنزف الاكتظاظ السكاني في المناطق الأقل تعرّضاً للاعتداءات قدرات البنية التحتية للمياه والصرف الصحي
يؤثر هذا الاستهداف الممنهج للبنى التحتية المدنية في مفاقمة الأزمة الغذائية، بسبب تراجع قدرة هذه المرافق على خدمة المستفيدين منها ما يؤدي إلى زيادة انتشار الأمراض، وبالتوازي مع تراجع كميات الغذاء تضعف قدرة الأجسام على المواجهة. في جنوب لبنان، تعرّضت أكثر من 34 منشأة مياه للتدمير أو لأضرار متفرقة، وهي تخدم بالأساس عشرات الآلاف المقيمين. وفي بعلبك – الهرمل، أشار تقييم حديث إلى أن الآلاف من النازحين يعيشون في مدارس وكنائس ومنازل خاصّة غير مجهزة بالبنية الأساسية الكافية لاستيعاب التدفّق السكاني الهائل. ويستنزف الاكتظاظ السكاني في المناطق الأقل تعرّضاً للاعتداءات قدرات البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، إذ تشير التقديرات الحالية إلى تركّز أكثر من 54% من السكان في 6 أقضية حالياً تشكّل نحو 20% من مجمل مساحة لبنان.
خامساً، تراجع المساعدات الغذائية والإنسانية
خصّص صندوق الاستجابة للطوارئ المركزي وصندوق لبنان الإنساني 22 مليون دولار أميركي لتلبية النداء العاجل لتوسيع نطاق جهود الاستجابة للطوارئ. ومع ذلك، لا تتوفر تفاصيل عن عمليات تسليم المساعدات الغذائية لناحية الأشخاص المستفيدين منها والمناطق الموزعة فيها والوحدات الحرارية التي تتضمّنها. وبين 23 أيلول/سبتمبر و23 تشرين الأول/أكتوبر 2024، تلقّى 255 ألف نازحاً داخلياً مساعدات غذائية طارئة، أي نحو 28% من مجمل النازحين داخلياً، ومن ضمنهم 192 ألف نازح في مراكز الإيواء و63 ألفا خارجها.
تنخفض المساعدات الغذائية المنتظمة التي كانت تُوزع عادةً على الأسر اللبنانية الفقيرة واللاجئين لصالح توسيع نطاق المساعدات للسكّان المتضرّرين من الحرب
وفي حين تتوقّع «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة» أن تتوسّع المساعدات الغذائية، قد تستمر الحواجز اللوجستية الناجمة عن الحرب وانعدام الأمن في تركيز التوزيعات في مراكز الإيواء الجماعية، فيما يحرم النازحون الذين يعيشون في مجتمعات مضيفة منها. وأن تنخفض المساعدات الغذائية المنتظمة التي كانت تُوزع عادةً على الأسر اللبنانية الفقيرة واللاجئين لصالح توسيع نطاق المساعدات للسكّان المتضرّرين من الحرب، أولاً بسبب عدم كفاية هذه المساعدات لتلبية جميع الحاجات، وثانياً بسبب السياسات التقشّفية التي تعتمدها الدولة حتى في ظل الحرب. وهو ما قد يؤثر على قدرة السكان على تلبية حاجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية.
عن موقع صفر