لا وجود لدولة اسرائيل إنها اليوم بلا دفاع أو غطاء

في مقالة تضمنت نقدا لاذعا لعبارة “شعب الله المختار”

* بقلم: جوستاين غاردر

ترجمها عن السويدية: إبراهيم عبد الملك**

قلما أثارت مقالة ضجيجا وصخبا كالذي أحثته هذه المقالة التي كتبها الروائي النرويجي المعروف جوستاين غاردر، فقد انقسم الرأي العام في النرويج والسويد وغيرهما ما بين مؤيد ومعارض لفكرة غاردر سحب الاعتراف بإسرائيل بسبب ما ارتكبته من انتهاكات وفظائع أثناء عدوانها على لبنان. وتنبع أهمية هذه المقالة وحساسيتها من قدرتها على التأشير إلى وعي أوروبي يتحدى التابوهات السياسية ويضع نفسه في مرمى المساءلة والنقد والاتهام أقله بمعاداة السامية. وقد ترجم المقالة عن السويدية الكاتب العراقي إبراهيم عبدالملك.

لن نعترف باسرائيل بعد اليوم

لا خط للرجعة. يجب علينا الآن أن نتعلم درساً جديدا: نحن لا نعترف بدولة إسرائيل بعد اليوم. لم نستطع سابقاً الاعتراف بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولا نحن نعترف بنظام طالبان الأفغاني، وكثيرون لم يعترفوا بعراق صدام حسين أو تصفية الصرب العرقية. علينا اليوم أن نعوّد أنفسنا على فكرة أن دولة إسرائيل بشكلها الحالي ليست إلا شيئاً من التاريخ.

نحن لا نؤمن بمفهوم شعب الله المختار، ونضحك هازئينَ بمحارق هذا الشعب ونبكي بسبب خطاياه. إن الظهور بمظهر شعب الله المختار ليس غباءً وتكبُّراً وحسب، بل هو جريمةٌ ضد الإنسانية، نطلق عليها عادةً تسمية “العنصرية”.

إن لصبرنا حدودا. فنحن لا نؤمن بالوعود الإلهية دافعاً للاحتلال والفصل العنصري، فقد تركنا العصور الوسطى وراء ظهورنا. إننا نبتسم بأسى في وجه من يظنون أن ربَّ الحَرْثِ والأنعامِ والمجرّاتِ قد اختار شعباً ما ليكون المُفَضَّلَ لديه، مانحاً إياهم ألواحاً حجريةً وأَجَماتٍ مشتعلةً ورخصةً للقتل.

إننا نسمي قَتَلَةَ الأطفالِ قَتلَةَ أطفالٍ ولا نقبل أن يكون لهؤلاء مسوِّغٌ إلهي أو تاريخي يبرر جريمتهم المشينة. كل ما نقوله هو: تباً لكل أشكال الفصل العنصري، تباً للتصفية العرقية، تباً لكل أشكال القتل الإرهابي ضد المدنيين، سواءً أكان ذلك من فعل حماس أو حزب الله أو دولة إسرائيل.

نحن نعترف ونحمل على عاتقنا مسؤولية أوروبا عن قدر اليهود، مسؤولية المضايقات المهينة الكريهة، مسؤولية المذابح المنظمة والهولوكوست. لقد كان حصول اليهود على وطنٍ خاصٍ بهم ضرورةً تاريخيةً وأخلاقية، ولكنَّ دولةَ إسرائيل ذاتها، وبسلاحها المقرف الفظيع نفسه، سفحت دم شرعيتها. لقد خرَقَتْ وبشكلٍ نظامي كل ما يتعلق بحقوق الشعوب والاتفاقيات الدولية وعدداً لا يحصى من قرارات الأمم المتحدة، وليس لها توقُّعُ أيِّة حمايةٍ من هناك. لقد فجَّرَتْ اعتراف العالم بها. ولا بأسَ، فالأوقات العصيبة ستنقضي قريبا. لأن دولة إسرائيل قد شهدَتْ “سويتو”  خاصةً بها. إننا على مفترق طرق، وما من رجعة. دولة إسرائيل اغتصبت اعترافنا بها ولن تنال سلاماً قبل أن تلقي بسلاحها.

بلا دفاع، بلا غطاء

فلتعصف الريح والأقدار بأسوار الفصل العنصري في إسرائيل. لا وجودَ لدولة إسرائيل. إنها اليوم بلا دفاعٍ أو غطاء، فلتنظر عين العالم بشيءٍ من الرحمة إلى السكان المدنيين. فنبوءة يوم الحساب لا تتوجه بالتهديد ضد الناس العُزَّل.

إننا نريد الخير لشعب إسرائيل، بالفعل، لكننا نتمسك بحقنا في الامتناع عن أكل برتقال يافا ما دام طعمها كريهاً وما دامت سامّة، وليس من العسير على الإطلاق تدَبُّرُ أمورِنا من دون عناقيد الفصل العنصري الزُّرق.

إنهم يحتفلون بانتصاراتهم

إننا لا نعتقد أن إسرائيل تحزن على أربعين قتيلاً لبنانياً حزنَها على تلك الأعوام الأربعين، من التيه في الصحراء، التي ظلت – إسرائيل – تشتكيها طوال ثلاثة آلاف عام. إننا نرى كيف يحتفل كثير من الإسرائيليين بانتصاراتهم بالطريقة نفسها التي هلَّلوا فيها ذات مرةٍ للآفات المُرسَلَةِ من الرب “عقاباً ملائماً” لأهل مصر، (في تلك القصة ظهر إله إسرائيل بمظهرِ ساديٍّ حقيقي) إننا نتساءل إن كانت حياة فردٍ إسرائيلي أكثر قيمةً من حياة أربعين فلسطينياً أو لبنانيا.

لقد رأينا صوراً لبناتٍ صغيراتٍ يكتبن رسائل ملؤها الكراهية على قنابل أُلْقِيَتْ على مدنيين في لبنان وفلسطين. ليست البنت الإسرائيلية الصغيرةُ حلوةً وهي تُراوغُ، جذلى، موتاً ومعاناةً يصيبان الجهة الأخرى خلف الحدود.

جزاء الثأر

نحن لا نعترف بخطاب الدولة الإسرائيلية. إننا لا نعترف بنابض جزاء الثأر القائل: “العين بالعين والسن بالسن”. إننا لا نعترف بمبدأ عشر عيون أو ألف عين عربية نظير عين إسرائيلية واحدة. إننا لا نعترف بالعقاب الجماعي أو التجويع سلاحينِ سياسيينِ، فقد مر ألفا عامٍ منذ انتقد حَبْرٌ يهوديّ  عقيدةَ “العين بالعين والسن بالسن” البالية.

لقد قال: “عاملوا الناس كما تحبون أن يعاملوكم”. إننا لا نعترف بدولةٍ تقوم على مبادئَ معاديةٍ للإنسانية وعلى أطلال ديانةٍ قوميةٍ غابرة و دين حرب. أو كما قال ألبرت شويتزر: “الإنسانية هي أن لا يُضَحّى بإنسانٍ من أجل قضية”.

رحمة وعفو

إننا لا نعترف بمملكة داود القديمة على خريطة الشرق الأوسط بعد عبور العام 2000. لقد صرَّح الحبر اليهودي قبل ألفي عام أن مملكة الرب ليست إعادةَ بناءِ مملكة داود بالحرب، بل إن مملكة الرب قائمةٌ فينا وبيننا. إن مملكة الرب عفوٌ ورحمة.

لقد مضى ألفا عام منذ نزَعَ الحبر اليهودي سلاح الخطاب الحربي القديم وأنسَنَه. وبينا كان يلقي كلماته، كان أوائل الإرهابيين الصهاينة فاعلين منذ ذلك الحين.

إسرائيل لا تصغي

طوال ألفي عامٍ دعونا مراراً للإنسانية، ولكن إسرائيل لا تصغي. لم يكُن فِريسيّاً  من أعانَ الرجُلَ المُلقى على قارعة الطريق بعد أن سلبه اللصوص مالَه، بل كانَ سامِريّاً  – أو فلسطينياً كما نسميه اليوم. إننا بشرٌ، أولاً وقبل أي شيء، ثم نكون مسيحيين ومسلمين ويهود بعد ذلك. أو كما قال الحبر اليهودي: “أن تُحَـيّوا أحبّتَكم بمودة، أهوَ حقاً كثير؟”. إننا لا نقبل بخطف جنود، لكننا كذلك لا نُقِرُّ بنفي الجماعات ولا بخطف النوّاب المُنْـتَخبينَ قانونياً أو أعضاء حكومةٍ ما.

إننا نعترف بإسرائيل 1948، لا بإسرائيل 1967. إن دولة إسرائيل هي من لا يعترف ولا يحترم ولا ينحني أمام دولة إسرائيل الشرعية التي وُجِدَت العام 1948. إسرائيل تريد المزيد، مزيداً من المياه، ومزيداً من القرى. ولتحقيق ذلك يريد البعض، بمعونة الرب، إيجادَ حلٍ نهائي للقضية الفلسطينية. الفلسطينيون لديهم الكثير من الدول، يقول بعض الساسة الإسرائيليين، بينما نحن لدينا واحدة فقط.

الولايات المتحدة أَمِ العالم

أو كما تقول المُدافعة الأعلى عن إسرائيل: “فليستمرَّ الرب بمباركة أميركا”. لقد تساءلت طفلةٌ صغيرةٌ عن مغزى هذه المقولة إذْ التفتت إلى والدتها قائلةً: “لماذا ينهي الرئيس خطابه دائماً ببارَكَ الرب أميركا؟ لماذا لا يقول بارك الرب العالم؟

ثم جاء بعدها شاعرٌ نرويجي ليقول: “لمَ كل هذا البطء في تقدم البشرية؟”. إنه نفسه الذي كتب بكل عذوبةٍ عن “اليهودي” و”اليهودية”، لكنه رفض فكرة شعب مختار من قبل الرب. كان يسمي نفسه “محمّدان”.

الاتزان

إننا لا نعترف بدولة إسرائيل. لا اعتراف اليوم، لحظة هذه الكتابة، آنَ الحزنِ والغضب. إن حدَثَ وسَقَطَت الأمة الإسرائيلية على يدها ذاتها، لِيُجبَرَ الكثير من الناس على الهرب من المناطق المحتلة عائدينَ إلى شتاتٍ آخر، فسنقول: عسى أن تجدوا اتزاناً ورحمةً لدى من يحيط بكم من الناس. إنها لجريمةٌ أبدية، ما عدا بعض الحالات، أن تُرفَع يدٌ بوجه اللاجئين ومن لا دولةَ لهم.

عسى أن لا يجد الذين يتم إخلاؤهم من السكان المدنيين إلا السلام والطمأنينة في مرورهم وقتَها. لا تقصفوا اللاجئين! لا تُصَوِّبوا سلاحكم نحوهم! إنهم في تعرضهم للأذى كالحلزون من دون قوقعة، تماماً مثل القوافل البطيئة من اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين، عُزَّلٌ لا من السلاح بل من أي وسيلةٍ للدفاع كالنساء والأطفال والعجزة في قانا وفي صبرا وشاتيلا. امنحوا اللاجئين الإسرائيليينَ مأوىً، امنحوهم اللبنَ والعسل.

لا تجعلوا الأطفالَ الإسرائيليينَ يدفعون حياتَهم غرامةً لما تفعلون. فالكثير الكثير من الأطفال والمدنيين سبَقَ وأن قُتِلوا..

*جوستاين غاردر: روائي نرويجي بارز، صدر له مُتَرجَماً إلى العربية: “عالم صوفي” و “فتاة البرتقال” 2003 و”سر الصبر” 2006 عن دار المنى في ستوكهولم.

**إبراهيم عبد الملك: شاعر ومترجم عراقي مقيم في ستوكهولم.

عن صحفة بانتظار غودو

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *