لا انتصارات بدون القدس والمقدسيين
عندما تقاوم القدس تنتصر، إن انتصارات القدس لا يمكن فهمها دون تأمل المقدسيين وفعلهم الاحتجاجي الجماعي العابر للطائفية السياسية والدينية، كما أن المقدسيين يُغلبون الفعل الوطني على الفعل السياسي، ويرفضون الوصاية والهيمنة بكل أطيافها ومنابتها، ويجترحون مقاومتهم وصمودهم وقياداتهم من الميدان وفي ساحات الاشتباك؛ ويتمسكون بفضائهم الاجتماعي والجغرافي ويدافعون عنه حتى الرمق الأخير، فدرج باب العامود بالنسبة للمقدسيين رئة القدس ومتنفسها، وفضاء اجتماعي طور المقدسيون علاقتهم معه عبر سنوات طويلة من ممارسات التجمع والاحتجاج والفرح وغيرها.
تتصاعد ملحمة القدس المعاصرة منذ عام 2014، فقد مثل حدث احراق الطفل محمد أبو خضير وهو حي على يد المستوطنين إبان عدوان على غزة عام 2014، كرة الثلج التي تدحرجت في القدس، واشتعلت هبة السكاكين في القدس في الأعوام اللاحقة 2015-2016، وتبعتها انتصار المقدسيين صيف عام 2017 وإزالة البوابات الإلكترونية عن أبواب المسجد الأقصى، وأردف المقدسيين النصر بنصر آخر في شباط/ فبراير 2019 بفتح مصلى باب الرحمة في الجهة الشرقية من المسجد الأقصى. وما بين تلك الهبات والانتفاضات والهبات الانتفاضية؛ لم تستكن مدينة القدس وريفها، فمثلًا قرية العيساوية خلال الأعوام الأربعة الماضية لم تتوقف عن مواجهة الهجمة الصهيونية الاستعمارية ضدها.
تجسدت المقاومة في القدس كمقاومة يومية أو جَسَدَ المقدسيين الحياة اليومية كمقاومة، وكسروا منطق السياسة كما خبرها بعض الفلسطينيون، واخرجوا الفعل السياسي من رتابة السياسيين ومحللي السياسة أصاحب الوعظ والافتاء الجاهز في كل شأن، فالفعل السياسي لدى المقدسي هو الحد الفاصل ما بين الصداقة والعداوة بمنطق كارل شميت؛ أي أن السياسية المقدسية فعل مواجهة ومقاومة ومنازلة وتفاوض على الحق وعلى عتباته وفي ساحة الفعل وعلى “درجاته”؛ كما ظهر في مقطع الفيديو الذي بين رفض المقدسيين إقامة فعالياتهم في ساحة باب العامود دون الدرج؛ لأن “حلاوة رمضان بالدرج”.
لقد أعاد المقدسيون عبر الصمود المقاوم والاشتباك اليومي الكرامة لفلسطين، وحرروا على مدار السنوات الأربعة الماضية القدس والمسجد الأقصى من براثن مخطط التقسيم الزماني والمكاني؛ فالمحطة الأولى كانت بتفكيك البوابات الإلكترونية عام 2017 ودخولهم المسجد الأقصى دون أي قيد أو شرط وفتح باب حطة وعدم المساومة على ابقائه مغلقًا، والمحطة الثانية عام 2019 تحطيم الأقفال عن مصلى باب الرحمة وفتحه للصلاة والعبادة، والاستمرار في الدفاع عنه ليبقى مفتوحًا للعبادة، اعتقل الاحتلال بعض حراس المسجد الأقصى وشباب القدس بعد كل صباح يفتح فيه المصلى، أما المحطة الثالثة فهي إزالة الحواجز الحديدية من ساحة ودرج باب العامود وهزيمة المنظومة الاستعمارية وميليشيات المستوطنين وسحق إرادة المستعمِرين.
دشن المقدسيون عبر صلابتهم ومقاومتهم البطولية دروس القدس ومقاومتها التي تستحق التأمل والتعلم والتعميم؛ وأهم تلك الدروس:
درس الرفض المطلق؛ يرفض المقدسيون أي إجراءات إسرائيلية جديدة بحق مدينة القدس، وخصوصًا المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وينشطوا لعدم السماح بتثبيت أي تغيير على الوضع القائم، والنضال الدائم والمستمر لتفكيك أي ممارسات أو إجراءات استعمارية بحق القدس ومقدساتها وفضائها الجغرافي والاجتماعي، وصنع المقدسيون معادلتهم الخاصة؛ فالرفض المطلق يأتي بالحق المطلق دون أي تنازلات.
درس الفاعلية الوطنية فوق الحزبية؛ يثور المقدسي من أجل القدس والكرامة وفلسطين؛ يتمايز الفعل الوطني في القدس عن باقي الأفعال في فلسطين بأنه فعل وطني فوق حزبي (عابر للحزبية)؛ أي انه فعل يتلاقى مع الهوية الفلسطينية بمكوناتها السياسية والثقافية الدينية ويجسدها في الميدان، فلا ينحاز المقدسي للسياسة الحزبية أو يعبر عنها، بقدر ما يعبر عن ذاته الفلسطينية المقاومة المنحازة للأرض والشعب والرواية الفلسطينية، وعلى الرغم من محاولة بعض الفواعل الحزبية خطف الأضواء أو توجيها بهتافات هنا أو هناك، أو تصريحات رسمية أو التقاط الصور ومحاولة تبني الحالة المقدسية، إلا أن المشهد المقدسي المقاوم يسقط تلك الغرائز الحزبية، ويبقى بريق الفاعلية الوطنية المقدسية لامعًا.
درس الفعل الكايزمي؛ يجسد المقدسيون خلال نضالهم ضد المنظومة الاستعمارية فعل نضالي يعتمد على الصمود المقاوم، والمقاومة اليومية بكل ما يمتلك المقدسيون من إمكانيات الحشد والتجمع والهتافات والأغاني والنكات وصلاة الجكر وفعل الدندرة (التندر بالاحتجاج والمقاومة)؛ ليجسدوا نموذج مقاومة جماعية تقاوم في الميدان وتفاوض في الميدان وترفض أي شروط إسرائيلية إلا باستعادة الحق المقدسي كما كان قبل المساس به.
درس البوصلة الفلسطينية؛ إن المقاومة في القدس تعيد معادلة الصراع إلى مربعها الأول كصراع بين حركة تحرر وطني ومنظومة استعمار استيطاني صهيوني، وتكون المواجهة والصراع في ساحات باب العامود والمسجد الأقصى وباب حطة وطريق المجاهدين والشيخ جراح ووداي الجوز والعيساوية كصراع بين مستعمِر ومستعمَر، وبذلك تسقط كل الخطابات والمقاربات والتحليلات السياسية البائسة والمبتورة في توصيف الحالة الفلسطينية، واقتراحات الخروج منها، كون المقدسيون لديهم الخميرة للفعل والبطولة والنصر.
درس النقطة صفر؛ تمتاز الهبات المقدسية بسرعتها في مفاجأة الجميع، إن انسيابية المواجهة واشتعال الهبة تكون عند النقطة صفر من وقوع الاعتداء الاستعماري الإسرائيلي، فالمقدسي يشتبك في ساحة المواجهة من نقطة صفر فهبة البوابات الإلكترونية عام 2017 كانت عند النقطة صفر (باب الأسباط وباب حطة وطريق المجاهدين) وكذلك في مصلى باب الرحمة، وفي ساحة باب العامود فالنضال والصمود والمواجهة كانت في الميدان وامتدت لتشتعل في أحياء أخرى من القدس. كذلك جسد المقدسيون وأشبالهم شجاعتهم في المواجهة والمقاومة من النقطة صفر في مواجهة أنياب المنظومة الاستعمارية، وجهًا لوجه، ومن النقطة صفر، ولم ترهب المنظومة الاستعمارية بجنودها وميليشيات المستوطنين وفرق الخيالة وكل أدوات القمع الإرادة المقدسية التي تمتلك سر انتصارها.
درس الفشل الاستعماري؛ تقدم المنظومة الإسرائيلية الاستعمارية ذاتها على أنها متفوقة من الناحية الأمنية والعسكرية، وتقوم باستعراض عضلاتها وتكنولوجياتها لتسويقها لحلفائها الإقليميين والدوليين، وتدعي كذلك امتلاكها بومة منيرفا؛ كونها تتنبأ بشأن الفلسطينيين، وهناك طواقم تعمل تحت بند الأنثروبولوجيا الاستعمارية لفهم الفلسطيني والسيطرة عليه؛ لكن كل تلك المنظومات المعرفية والسياسات الأمنية والقوة الناعمة الاستعمارية تسقط على يد المقدسيين عند “درجات باب العامود” ومن قبلها سقطت عند عتبة باب الأسباط وباب حطة وباب الرحمة.
درس المستقبل؛ لا يتحقق للفلسطينيين نصر كما حقق المقدسيون، إلا بتعلمهم درس القدس والمقدسيين، فالقدس انتصرت لفلسطين وللكرامة، أنتصر المقدسيون بدعم معنوي من كل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، وكان نصرهم يوم الجمعة الماضي 23/4/2021 بدعم من أهالي أم الفحم وشبابها في فلسطين المستعمَرة عام 1948، فكان تجمهم وصمودهم أمام باب حطة هو المسبب المركزي في فتح الباب الذي اغلقته الشرطة الإسرائيلية؛ ولا تستغرب العلاقة بين أم الفحم والمسجد الأقصى فهناك كيمياء خاصة بين أم الفحم والقدس ومقدساتها عبر العقود الماضية؛ فالنصر هو فعل جماعي تقوده القدس عبر انتصارها على تقسيمات الجغرافيا الاستعمارية.
دائمًا تقدم القدس نموذجها المتمايز في المقاومة والصمود والملحمة، وتتركنا القدس وشبابها للتوقف أمام رمزية القدس التي لا تقبل بالمساومة، فالمقدسي يمتلك عالمًا روحيًا ونفسيًا يستحق التأمل وهو يدافع عن قدسنا، وعالم المقدسي يمزج الهوية الوطنية بالذكريات الجماعية والبطولات والانتصارات والانتكاسات والنكبات التي حلت على المدينة، فلا يرى المقدسي نفسه إلا في القدس مقاومًا ومرابطًا ومنتصرًا.
لا مقاومة بدون القدس… لا كرامة بدون القدس… لا انتصارات بدون القدس!