كُن هنا بوعي ولا تعتذر
لقد خصّص الراحل المميّز إميل حبيبي (تصادف ذكرى وفاته اليوم) جهدًا ملموسًا في كتابتِه لتفسير الحالة المركّبة للفلسطيني الذي بقي في وطنه (المتشائل مثلا). وهو من جيل بقي في وطنه ربّما في إطار خطأ ما في المشروع الصهيوني. وما دام بقي كان عليه أن يعيش هنا في وطنه لكن تحت سيادة الآخر اليهودي، لا بطولة منه بل محصّلة حاصل. ومن يومها يُلازمنا هذا التوتّر بين المكان الذي كان لنا وبين السيادة اليهودية ـ السلطة ـ الجاثمة فوقه.
وليس هذا فحسب. كان لزاما على الذين بقوا هنا أن يفسّروا للذين تمّ تهجيرهم كيف بقوا أو كيف يتدبّرون أمرهم دون أن يكونوا عملاء أو متعاونين؟ وهذا السؤال الوجوديّ الوافد من خلف الحدود الجديدة بعد أيار 1948، أنتج شعورا بالذنب ورغبة باعتذار الذين بقوا للذين كان نصيبهم من النكبة التهجير من الوطن والتشرّد واللجوء! وهو الشعور الذي تشكّل من جديد في وجدان الفلسطيني داخل إسرائيل حيال الجزء من الشعب الرازح تحت الاحتلال منذ حزيران 1967.
هل يُمكننا البقاء هنا والعيش دون أن نكون عملاء؟
هل يُمكننا أن نواصلَ العيش هنا دون أن نكون أبطالا؟
بين “العمالة” و”البطولة” تقع الحياة اليوميّة. وهي يُمكن أن تكون بدون معنى قوامها تبعية تامة للسلطة وإلغاء للذات في التعاطي معها ـ ولبعض يفعل ذلك ويتماهى بالسلطة القاهرة ويحكي من حنجرتها. ويُمكن أن تكون الحياة اليوميّة هذه ترجمة لهوية واعية لشرطها ومُدركة لظروفها وسياقها التاريخيّ. وهي الهويّة الفاعلة من أجل تغيير الواقع لا تكريسه. تُقاوم كلّ يوم كلمة أو خطوة أو فعل أو موقف. والتغيير سيرورة وطُرق عديدة مُختلفة لا سيما “المقاومة بالحيلة” كما سمّاها جيمس سكوت. وأعتقد أن غالبية مجتمعنا منخرط في هذه السيرورة. ضمن هذه الحالة هناك ما نحن مضطرّون لفعلِه ـ دفع الضرائب مثلا ـ وهناك ما نستطيع رفضه ـ أن نكون جزءا من جيش احتلال مثلا.
عندما نعرف بكل معنى الكلمة أنفسنا وشرطنا يبطل الداعي للاعتذار أو للخنوع أو للتبجّح أو للادّعاء.
كونوا هنا بوعي ولا تعتذروا!
(الصورة بعدستي ـ أرض أم الشقف)