هو سؤال ليس عن الكتابة بل سؤال في الحياة والموت وفي السياسة والأخلاق والتفاصيل،

هو سؤال في الانتماء والهويّة والقيَم والمعاني،

أسهل أنواع الكتابة هي أن تتمحور حول حقيقة واحدة وتعطي لقلمك أن يطير من الحبر والورق،

أسهل أنواع الكتابة هو ذاك الآتي من طمأنينة أن الحقّ معك، كلّ الحقّ معك،

أسهل حالات الكتابة أن تكون ممتلِئًا بالرضا وبالفخر والاعتزاز والمجد والتيه،

أسهل أنواع الكتابة أن تقف في أعلى نقطة من هويّتك واثقًا، وتلوّح بالعلم،

وأصعب أنواع الكتابة هي أن ترى إلى صورتك في المرآة قبل أن ترخي لقلبك العنان.

بداية طيّبة أن نفترض أن إسرائيل حالة استعماريّة وأنها الاحتلال الممتدّ الأطول في التاريخ الحديث، وأن جرائمها سبقت قيامها وأن العنف الذي أوقعته بالفلسطينيّ أينما كان متعدّد الأشكال ويرقى إلى مستوى “التفنّن” و”الاحتراف” و”الاختراع” الذي يُسجّل باسمها. وهذه فرضيّتي التي تؤكّدها الآن الضربات التي لا ترحم على أطفال غزّة وجوارها. وهي الفرضيّة التي أنطلق منها إلى قراءة الحدث المتدحرج أمامي منذ صباح السبت.

القضية الفلسطينية عادلة بشكل مُطلق وكذلك المطلب الفلسطيني بالحريّة والاستقلال على ما يعني من ملفّات بما فيها ملفّ جيتو غزّة. وأعرف أنني أشترك في هذا مع كثيرين هناك او هناك، فلسطينيين وغير فلسطينيين.

مع وجود مظلّة فكريّة كهذه فوقي ومعي فإنني لا أعفي نفسي من التفكير في الفعل الفلسطينيّ الذي أفترض أنه يسير كلّه في اتجاه محور هذه الفرضيّة. وهو تفكير في السياسة والهويّة والأخلاق والتاريخ والانتماء. وهو سؤال لا يقلّ أهميّة يتّصل بتصوري لطريق الخروج من حالة الاستعمار وتطلّعاتي إلى المستقبل المأمول. وهي أسئلة لا ينشغل بها الذين يعتمدون خيار “إما نحن.. وإما هم” أو نظريّة “حتميّة الانتصار”! ولا الجمع الذي يسير وراء القوّة أو “لمعانها” كما في مواقع أخرى.

لا أعتقد أن الخاضعين للاحتلال محرّرون عندما يُقاومون من السؤال الأخلاقيّ ولا من استحقاقات لغة الحقوق المنصوص عليها في المواثيق التي ينهل النضال الفلسطيني منها عبر عقود طويلة ويستند إليها الخطاب الحقوقيّ الفلسطينيّ في كل منابر الأرض. وعليه، عندما يتمّ قتل مدنيين بأيدي فلسطينيين بالشكل الذي حصل يحقّ للفلسطينيّ أن يسأل لأن القتل تمّ باسمه. لست بحاجة إلى دراسة القانون في تخصّص حقوق الإنسان كي أرفض قتل المدنيين بشكل مقصود وكي أرفض قطعًا اختطاف أطفال كرهينة أو التنكيل بجثة ـ في مستوطنة أو في الغوطة، في الشيشان أو في اليمن؟

من هنا يأتي سؤال الهويّة الصعب وهو وجوب نقد الهويّة في حال سقوطها الأخلاقيّ.

من هنا يأتي سؤال الانتماء الصعب عن اللحظة التي نقف فيها في وجه انتمائنا كي ينجو.

من هنا يأتي السؤال عن معنى أن ترفض أفعالًا إجراميّة تتمّ باسم قضايا عادلة ومنها قضيّة فلسطين.

من هنا يأتي السؤال الأصعب كيف أنجو من إغراء أن أصير كقاتلي وكسجّاني وكالطيار الذي يُسقط فوق أطفالي في هذه اللحظة عشرة أطنان من القذائف؟ هل يستطيع أحد أن يشرح لي معنى أن تقتل عائلات كاملة في بيوتها؟ أن تأخذ امرأة مسنّة رهينة؟ أن تقصف بالجملة أرواح أناس في حفلة؟ هل كان من الضروريّ أن يحدث هذا كي يُسجّل “الانتصار”؟

لا الأبطال محرّرون من سؤال الأخلاق ولا المناضلون كانوا من “فتح” التي انتهت إلى حيث انتهت أو من “حماس” التي رمت بنشطاء فتح الفلسطينيين من الطابق الـ 16.

ما يُعرف بـ”العنف المقدّس” ينبغي أن يخضع للضوابط والسؤال

أنظر حولي في الزمان والتاريخ وأنظر حولي في المكان الجغرافيا فأرى كم من أهلنا انتهوا في الأقبية والمسالخ البشريّة والمقابر الجماعيّة تحت غطاء “أمريكا رأس الحيّة” و”تحرير القُدس” و”مواجهة الكيان الصهيونيّ”.

للتلخيص: رفضي لمشاريع إسرائيل غير مشروط لأنها بدأت بخطيئة الحلول مكان الشعب الفلسطينيّ وعلاقتي بانتمائي مشروطة لأن بيني وبينه السؤال الأخلاقيّ والمعقول.

عندما نكتب الحرب ينبغي أن نتمتّع بقليل من الشجاعة كي لا تحوّلنا إلى برغيّ أو رقم.

عندما نكتب الحرب من مواضع الراحة ينبغي أن نسأل أسئلة الذين تحت الأنقاض.

(9 تشرين الأول 2023)

من مخلّفات القصف الإسرائيلي لجيتو غزّة

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *