كيف اتّجهت القيادة الفلسطينية نحو التسوية

بعد حرب عام 1967، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، اتفقت المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، كلٌ من موقعه وتبعًا لدوافعه، على معارضة النزعات التي ظهرت في الأرض المحتلة، ودعت إلى إقامة دولة فلسطينية على جزءٍ من أرض فلسطين، وهي فكرة طرحتها شخصيات فلسطينية، منها الشيخ محمد علي الجعبري، وحمدي التاجي الفاروقي، وعزيز شحادة، وغيرهم. وجلي أن معارضة النظام الأردني الفكرة كانت بسبب تمسّكه بوحدة الضفتين، بينما جاءت معارضة المقاومة بسبب تمسّكها بتحرير كامل التراب الفلسطيني. ومن هذا المنطلق، وضعت حركة فتح في الأدراج مذكّرةً تقدّم بها، بعد الحرب مباشرة، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، فاروق القدومي، تبنّى فيها فكرة إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وقد تم تجاهلها بعد أن لقيت معارضة واسعة بين كوادر الحركة، وأصدر إقليم الكويت الذي كان يقوده علي الحسن بيانًا يرى في هذا الاقتراح خروجًا عن مبادئ “فتح”. بعد ذلك استقر الخطاب السياسي الفلسطيني على التمسّك بهدف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعلى شعار الدولة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، التي يتعايش فيها أتباع مختلف الديانات السماوية.

بدأت ملامح الانعطاف الأول الرسمي على هذا البرنامج بالظهور بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وصولًا إلى تبنّي البرنامج السياسي المرحلي الذي عُرف باسم برنامج النقاط العشر عام 1974، ووُضع للمرّة الأولى هدف مرحلي، إقامة سلطة وطنية فلسطينية، وُصفت يومها بأنها مقاتلة، على أي شبرٍ يتحرّر، وبدون الإشارة إلى المناطق المحتلة في 1967. ومنذ ذلك التاريخ، سلكت المقاومة مسارًا متعرّجًا، فكانت تتصاعد كلما ابتعدت مساعي التسوية، وأمام محاولات التصفية أو الاحتواء، وتتراجع كلما اقتربت احتمالاتها. وخلال ذلك، تأثرت بالمحاور العربية وصراعاتها وأثّرت بها، وتحكّم فيها ووجّهها النزاع على تمثيل الشعب الفلسطيني مع النظام الأردني، وتجنّب الوصاية والاحتواء من النظام السوري، والخوف من نشوء بدائل محلية. وفي هذه المطالعة، توضيح للبدايات الأولى لهذا التحوّل، وكيف بدأت عملية الإعداد لتقبّل فكرة التغيير في الاستراتيجية الفلسطينية. ويمكن الاطلاع على الوثائق الأصلية على موقع ذاكرة فلسطين الذي أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في يناير/ كانون الثاني 2023.

رسائل صلاح خلف الأولى

بناءً على طلب الرئيس المصري أنور السادات، توجّه صلاح خلف (أبو إياد) وفاروق القدّومي (أبو اللطف) إلى القاهرة قبل نشوب الحرب بيوم. ومن هناك أرسل أبو إياد رسالتين إلى القيادة الفلسطينية تضمّنتا تفاصيل كاملة عن سير العمليات العسكرية والأجواء السياسية المرافقة لها، وقد نُشرتا في “العربي الجديد” في 29 و30/10/2017. وكتب صلاح خلف أنه في أحد اللقاءات مع محمد حسنين هيكل، وبعد حديث عن المعارك، “سأل عن رأينا بالمباحثات التي ستجري، وهل سنحضرها، وماذا سنقول لو حضرنا. وهنا سألته هل اعتبر ذلك رسميًا من الدولة ومن السادات؟ فقال: لا، وإنما هو حديث أصدقاء”. ثم تحدّث السادات عن زيارة رئيس الوزراء السوفييتي إليكسي كوسيغين، فكان أهم ما جاء فيه نقطتان:

“1. الطلب إلى السادات أن تكون خطوات السلام مبتدئة بوقف إطلاق النار، مع صدور تعهّد من الدولتين (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية) بالانسحاب، وتطبيق قرار مجلس الأمن، ثم تكون المباحثات قبل الانسحاب، حتى تعرف إسرائيل إلى أين تنسحب، ثم ما هي ضمانات السلام بالنسبة لها؟”.

صلاح خلف
(صلاح خلف)

“2. هناك مشروع اتفقت عليه الدولتان، ويتضمّن وضع غزة تحت الوصاية المصرية، وتعود الضفة الغربية إلى الملك حسين ضمن مشروع المملكة العربية المتحدة، ويحدُث استفتاء عليه يكون بمنزلة تقرير المصير، وتُهيَأ أوضاع غزة لشيء مماثل. يكون ممثلو الشعب الفلسطيني ضمن الوفد الأردني”. ويؤكد أبو إياد أنه لم يُبلّغ بشيء رسميًا، لكن ثمّة همسًا مصريًا خافتًا يدعو إلى تفاهم منظمة التحرير مع الملك حسين ضمن مصالحة وطنية، والتفاهم، في الوقت نفسه، على مؤتمر السلام ومن يحضره من المقاومة الفلسطينية ضمن الوفد الأردني.

يكتب أبو إياد أن الاتحاد السوفييتي وافق على الطرح الأميركي بأن يكون للفلسطينيين دولة ضمن الأردن، لكنه يترك للمقاومة أن تكون طرفًا في معاهدة السلام، وإذا رفضت، نعود إلى مشروع المملكة المتحدة

تتضح الأمور في الرسالة الثانية أكثر، فيكتب أبو إياد أن الاتحاد السوفييتي وافق على الطرح الأميركي بأن يكون للفلسطينيين دولة ضمن الأردن، لكنه يترك للمقاومة أن تكون طرفًا في معاهدة السلام، وإذا رفضت، نعود إلى مشروع المملكة المتحدة. ويشير إلى طلب السوفييت اتخاذ موقف واضح من المقاومة، مع تأكيده أن الدولتين قد اتفقتا على كل شيء، وأن السادات سيمضي بالحل إلى النهاية، ويشير إلى غموضٍ في الموقف السوري، ويعتقد أن السادات يريد طرفًا فلسطينيًا معه في التسوية لاعتباراتٍ عربيةٍ ومصرية، ولكن إذا وجد أن الأردن وسورية سيُحدثان له مشكلة، فسيؤثر أن يكون مشروع المملكة العربية المتحدة هو الساري، ويضغط باتجاه مصالحة مع المنظمة، أو افتعال معركة معها، “وفي هذه الحالة، ستواجه المقاومة مشكلة الاستمرار في الثورة بوجودنا العلني الكبير، وستكون منظمّة التحرير موضع إعادة نظر، باعتبار أن الكيان الفلسطيني قد قام، وسيُطالب لبنان بتصفية المخيّمات، فضلًا عن الموقف السوري الذي سيمارس عمليًا الشيء نفسه”. لذا، ثمة خياران؛ “إما الانحناء للموقف العربي، وهو ما يرى رفضه، أو القتال حتى آخر فدائي من أجل حقّنا في تمثيل الشعب الفلسطيني”.

التقرير الأول: لقاء بوتفليقة في 27 أكتوبر

بعد رسالته الأخيرة بيومين، أرسل صلاح خلف تقريره الأول في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الذي تضمّن خلاصة لقاء دام أكثر من ثلاث ساعات مع وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وتضمّن ثلاثة محاور: معلومات عن لقاء وزراء الخارجية العرب مع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر ومن ثم لقاء بوتفليقة بالسادات، وتحليل بوتفليقة للموقف، وأخيرًا انطباعات أبو إياد عن اللقاء.

قال كيسنجر “الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي متفقان على إنهاء المشكلة خلال هذا العام”. و”العرب قاتلوا هذه المرّة واستعملوا السلاح جيدًا، وإن هذا يكفي لرفع الشعور بالذلّ منهم، ولكننا لن نسمح بأن تنهوا إسرائيل، بل لن نسمح بأن تهدّدوا أمنها”. ولوّح كيسنجر باحتمال التدخل العسكري الأميركي المباشر، وقال: “أحبّ أن أخبركم أن أوّل ما يحرّكنا هو شعورنا بأن أمن إسرائيل مهدّد، وهذه حقيقة يجب أن تدركوها… وأن الاتحاد السوفييتي يفهم وجهة نظرنا هذه ويتصرّف على أساسها”. وعندما سأل وزراء الخارجية العرب عن الانسحاب من كل الأراضي وحقوق الشعب الفلسطيني، أجاب: “الانسحاب من أراضٍ عربية حسب قرار مجلس الأمن، وليس من كل الأراضي، وهنا لا بد من مراعاة أمن إسرائيل”، و”ملف الشعب الفلسطيني جاهز أمامي سأدرُسه بعناية، ولكن أحبّ أن تفهموا أن حل مشكلة الشعب الفلسطيني ستكون على حساب إسرائيل بالدرجة الأولى، أو على حساب الأردن بالدرجة الثانية. نحن غير مستعدّين للتضحية بإسرائيل أو بالأردن… ولكن هذا ليس موقفًا نهائيًا”.

كيسنجر: “لن نسمح بأن تنهوا إسرائيل، بل لن نسمح بأن تهدّدوا أمنها”

ويذكر بوتفليقة أن حديثًا خاصًا جرى بينه وبين كيسنجر، أكد فيه الأخير حرصه على حلّ مشكلة الشعب الفلسطيني، لأنه مدركٌ حقيقة الأخطار التي تهدّد المنطقة إذا لم تُحلّ هذه المشكلة، وقال إنه ما زال في ذهنه “قاتل روبرت كندي (في إشارة إلى سرحان سرحان)، وقتلة السفير الأميركي في الخرطوم ومساعده” (عملية أيلول الأسود 1973). وتساءل: “هل رجال العصابات الفلسطينية (حسب تعبيره) يريدون السلام؟”. وأكمل حديثه: “إذا لم يقبلوا، فإن عندنا تجربة تصفية الهنود الحمر”. وانتهت المقابلة بالتأكيد على اتفاق الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على إنهاء المشكلة هذا العام.

تحليلات بوتفليقة بعد لقائه مع السادات

قال بوتفليقة إن السادات خطّط لحربٍ محدودة، وإنه مُصرّ على الذهاب إلى مؤتمر السلام، ولو منفردًا، وإنه يريد الفلسطينيين معه، ولا يقبل بالملك حسين ممثلًا عن الشعب لفلسطيني. وقال إن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اتّفقا على إنهاء المشكلة الساخنة الوحيدة في العالم، وهي منطقة الشرق الأوسط، وإن هناك إصرارًا على إغلاق ملفّ القضية أعوامًا طويلة، وإن مصر وسورية والأردن يريدون مؤتمر السلام وإنهاء المشكلة من موقع القتال، وإن الدول الكبرى والدول العربية تريد الطرف الفلسطيني، “فإما أن تكونوا أنتم أو يكون غيركم (من الفلسطينيين) تصنعه مصر وسورية، أو الملك حسين بمشروعه”.

بوتفليقة وكيسنجر
وزيرا خارجية الجزائر عبد العزيز بوتفليقة وأميركا كيسنجر (13/12/1973 فرانس برس)

ويرى بوتفليقة أن على الفلسطينيين تأليف حكومة مؤقتة قبل المؤتمر أو خلاله، وأن حضورهم المؤتمر سيُكسبهم اعترافًا دوليًا يصعُب معه إيجاد طرف آخر غيرهم، مذكّرًا أن الجزائر وفيتنام قد انتصرا بالمفاوضات والعمل السياسي، وينصح أن “تقولوا نعم بصوت واحد، وبدون تردّد، وأن لا يكون بينكم انشقاقات، وأن السلبية ستجعل الطريق صعبًا”، و”سيجعلكم في وضع حرج”. وقال إن الاتفاقات تحكمها موازين القوى، وإن بإمكانك تمزيق أي اتفاقٍ من موقع القوة. وأضاف: “لا تتركوا شعبكم يتمزّق تحت وطأة المزايدات بين احتلال صهيوني وحكم الأردن”.

قال بوتفليقة إن السادات خطّط لحربٍ محدودة، وإنه مُصرّ على الذهاب إلى مؤتمر السلام، ولو منفردًا، وإنه يريد الفلسطينيين معه، ولا يقبل بالملك حسين ممثلًا عن الشعب لفلسطيني

ويخلص أبو إياد إلى أن الرجل معروف بميوله الأميركية، وأنه كان يهوّل من إمكانات الولايات المتحدة وقدرتها على تنفيذ ما تريد، وأنه يميل إلى حضور الجانب الفلسطيني مؤتمر السلام، والقبول بدولة فلسطينية. ويشير إلى أن كثيرًا من كلام بوتفليقة يُناقَش، لكن من غير المعروف ما إذا كانت أقواله هذه تمثّل رأيه الشخصي أم رأي الجزائر.

التقرير الثاني: لقاء السادات في 29 أكتوبر

بعد يومين من لقاء بوتفليقة، التقى صلاح خلف وفاروق القدومي السادات الذي بادرهم ملهوفًا في أول اللقاء بقوله: “هل ستحضُرون مؤتمر السلام أم لا؟”، فأجاباه: “نحن حضرنا لنفهم الصورة كلها من الجانب العسكري إلى الجانب السياسي، وبعدها نقول رأينا بعد أن نلتقي بإخواننا”. وبعد أن عرض السادات صورة الوضع العسكري، وموقف الجيشين الثاني والثالث والجيب الإسرائيلي في الضفة الغربية للقناة، وقارن بين المساعدات السوفييتية لمصر والمساعدات الأميركية الهائلة لإسرائيل، ليخلص إلى القول: “هنا وجدتُ نفسي أواجه أميركا، وأواجه القضاء على الجيش المصري الذي لا أقدر أن أتحمّل مسؤولية القضاء عليه. ولذا قبلت وقف إطلاق النار وقبلت مؤتمر السلام”. ثم انتقل إلى الحديث عن الجانب السياسي، وأكد أن ثمّة اتفاقًا على “انسحاب من سيناء بالكامل، انسحاب من الجولان مع إشراف دولي على المرتفعات، شرم الشيخ دولية، حرية الملاحة في كل الممرّات المائية، القدس العربية موضع نقاش، الانسحاب من الضفة وغزّة وارد لكن بتعديلات طفيفة، الحقّ الفلسطيني أساس، بشرط قبول الفلسطينيين بمبدأ حضور المؤتمر، مع عدم المساس بأمن إسرائيل”.

تحدث السادات أيضًا عن رسالة أرسلها إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مع وزير الخارجية (المصري) إسماعيل فهمي، فيها “أنه غير مهتمّ بمكان الاجتماع، ليكن نيويورك، وفي رحاب الأمم المتحدة، يشترك في المؤتمر الولايات المتحدة وروسيا. ولا مانع لديه من اشتراك فرنسا وبريطانيا، ويرى أن يشترك من الجانب العربي مصر وسورية والأردن، ولكن بشكل أساسي لا بد من إشراك الفلسطينيين، لأنهم أصل القضية، ولا حلّ بدون موافقتهم، وحفظ حقوقهم”. واقترح أن يضم جدول الأعمال نقطتين: “الانسحاب من الأراضي العربية وحقوق الشعب الفلسطيني، ولا مانع من أن تضع إسرائيل مسألة الاطمئنان على حدودها وأمنها كنقطة ثالثة، وطلب الضمانات اللازمة لذلك من الدول العربية”.

ماذا يريد السادات من الفلسطينيين؟

طلب السادات من الفلسطينيين بوضوح كامل حضور مؤتمر السلام، متسائلًا: “كيف سيكون منظري عندما أطالب بحضوركم ولا تحضروا”، مشيرًا إلى أنهم بذلك “يتيحون الفرصة للملك حسين أو لطرف فلسطيني غيركم أن يحضر باسمكم، وفي ذلك خطر على القضية”. وأكّد أن من حقهم المطالبة بما يريدون داخل المؤتمر “طالبوا بدولة ديمقراطية على كل فلسطين، طالبوا بالتقسيم، المهم أن تحضروا”. وهو لا يريد وفدًا متساهلًا، وإنما “يريد وفدًا قويًا، لأن ذلك يقوّي موقفنا كعرب أمام العالم”. وقال السادات إنه “يعرف أن أمامكم عقبات فلسطينية وعربية، وعقبة الملك حسين، وعقبات أميركية – إسرائيلية، ولكن يجب أن تتحمّلوا مسؤوليتكم، وإياكم والتشرذم، وأخصّ بالذكر حركة فتح التي تهمّني وتهمّ العالم العربي. الملك حسين سيحضر لأن الضفة الغربية دوليًا جزء من مملكته، لكنه لن يتحدّث عن القضية الفلسطينية، ولا أتصوّر أن بإمكانه الاستمرار بالمؤتمر”. ويختم السادات حديثه بقوله: “معكم الفرصة كاملة لتفكّروا بهدوء، ولكن لا تستغرقوا بالتفكير لدرجة أن يأتي من يمثّل شعبكم ويفرّط في حقوقكم”.

تساءل أبو إياد بشأن جدّية إسرائيل بالانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزّة، ومدى الثقة بالولايات المتحدة، وجدوى حضور المؤتمر والثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون سياسيًا ووطنيًا، إذا لم يحصلوا على نتائج ملموسة، وكيف يمكن حضور المؤتمر في ظل التمثيل المزدوج مع الملك حسين. وردّ السادات “بالتحفّظ تارة، وبأنه عامل حسابه بدقة تارة أخرى”، مشيرًا إلى أقواله السابقة بأهمية الحضور الفلسطيني…. وانتهى اللقاء على أمل “أن نلتقي به ثانية ومعنا ردّنا الواضح”.

طلب السادات من الفلسطينيين بوضوح كامل حضور مؤتمر السلام، متسائلًا: “كيف سيكون منظري عندما أطالب بحضوركم ولا تحضروا”

بعد بضعة أيام من هذه اللقاءات في القاهرة، وفي 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1973، دعت اللجنة المركزية لحركة فتح المجلس الثوري لبحث انعكاسات حرب أكتوبر، والموقف من التسوية السياسية. وقد دوّن محمد أبو ميزر (أبو حاتم)، مسؤول العلاقات الخارجية، ما جاء في هذا اللقاء الذي حضره 34 من قادة حركة فتح.
بدأ ياسر عرفات الحديث بقوله: “جرى كل شيء حسب تصوّرنا … وكنا متوقّعين أن ينشأ نتيجةً لهذه الحرب دفعًا سياسيًا جديدًا… نحن نواجه مرحلة جديدة، ولا بد من إعطاء إجابات لكل صغيرة وكبيرة، هناك شيئًا جديدًا يرتسم في المنطقة العربية” (مع الأخطاء النحوية). وأشار إلى أن القوتين الكبيرتين قد اتفقتا، وأن على الفلسطينيين أن يجيبوا عن بعض الأسئلة. “يجب أن لا نتساهل في كلمة نعم، أو في كلمة لا، بمسؤوليّة وبدون مزايدة”.
ثم عرض عرفات رسالة وجهها الاتحاد السوفييتي إلى المقاومة، ورد فيها أن وقف إطلاق النار جاء بناءً على طلب من سورية ومصر، وأن التسوية ستكون وفقًا لقرار مجلس الأمن 242، وبعد الانسحاب ستُؤخذ بالاعتبار مصالح الشعب الفلسطيني، في ضوء بيانَي واشنطن وبريجينيف (الرئيس السوفييتي). وأشار السوفييت إلى أهمية أن يحدّد قادة المقاومة الفلسطينية مواقفهم، وتفادي تفكّك الجهود وبعثرتها، ودعوا إلى اتخاذ موقفٍ واقعيٍّ وبنّاء من التسوية السياسية، وإلى نضال شاقٍّ ومرير في سبيل تحقيق التسوية السياسية، ولديهم أمل أن قيادة المقاومة ستحقّق هذا النضال مع قادة سورية ومصر، وسائر الدول العربية الصديقة. (في لقاء مع أبو حاتم نفى أن في الرسالة دعوة إلى منظمة التحرير لحضور مؤتمر جنيف، وإن أشاع الجو السائد في حينه هذا).
وقال عرفات إن اللجنة المركزية لحركة فتح اجتمعت واطّلعت على الرسالة، وكذلك اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مشيرًا إلى موقف الجبهة الشعبية الذي وصفه بالحدّي، وإلى قرار اللجنة التنفيذية بعد السماح بفتح معركة مع سورية أو مع مصر. ونقل نمر صالح (أبو صالح) عن السوفييت إن “هناك تسوية سلمية، ويطلبوا منا أن نتعقّل، حتى نناضل معهم لمصالح الشعب الفلسطيني بعد التسوية. واعتبر أن حقوق الشعب الفلسطيني مبتوتة قبل التسوية، ويأتي تحالفنا معهم (السوفييت) بعد التسوية”. وتحدّث خالد الحسن (أبو السعيد) عن زيارتيه السعودية والكويت، فقال: “هناك اتفاق مبدئي سوفييتي – أميركي على حلّ مشكلة الشرق الأوسط، الأمريكان رفضوا الإفصاح عن هذا الاتفاق. إن هذه الفرصة لن تتكرّر بعد 20 عامًا. هناك كيان فلسطيني، لم تتّضح الأمور بعد حتى يمكن بحث موضوعه، وهذا يتطلب: ضمانات الانسحاب ما هي؟ مستقبل القدس ما هو؟ مستقبل الشعب الفلسطيني ما هو؟ ليس لكم قوة الرفض وليس لكم قوة الموافقة، ما سيأتي سيأتي. هنالك حيرة؛ [الفلسطينيون] أم (الملك) حسين؟ لم يعطوا رأيهم (السعودية والكويت) لأن الظروف لم تتّضح”. أما محمود عبّاس (أبو مازن)، فقال إن القضية الفلسطينية تمرّ بأخطر مراحلها، وذكر أنه في اليوم الثاني من الاجتماع الذي عُقد مع وزير الخارجية السوري، عبد الحليم خدّام، جاء رئيس الوزراء المصري، عزيز صدقي، وقال إن المدعوين إلى مؤتمر السلام هم المصريون والسوريون والأردنيون والمقاومة، “إلى أن جاءت رسالة السوفييت التي تقول لنا هل تحبّون أن تأتوا أم لا؟ أكثر من ذلك ليس لدينا معلومات. أجرينا [اتصالًا] مع العراق، وقالوا أحضروا الشعب الفلسطيني عندنا! طلبنا رأي الحكومة السورية رسميًا حول ذهابنا، قال خدّام من رأيي أن تذهبوا، وبرّر ذلك بأنه: 1. إنكم ممثلو الشعب الفلسطيني. 2. أنتم ضمانة على الأطراف العربية الأخرى حتى لا تفرّط. ولكن نحن تعوّدنا على كلمة لا من الشعب الفلسطيني”.

رسالة من الاتحاد السوفييتي إلى القيادة الفلسطينية لتشجّع قسمًا من قيادة حركة فتح ومن التيار اليساري القريب من السوفييت داخل حركة فتح وخارجها (الجبهة الديمقراطية) على ترويج الانخراط في التسوية

في حين كان أهم ما قاله نبيل شعث إن “احتمالات التسوية السياسية في المنطقة أكبر منها من أي فترة منذ 1967. الحرب بأهدافها المحدودة تزداد فيها احتمالات التسوية السياسية، منطلقة من قرار 242″، وأن “جميع الضمانات التي مُنحت، والتي أعلنها السادات، هي ضمانات خاصة بوقف إطلاق النار وليس بتنفيذ قرار 242”. وأضاف: “لذلك نحن مطالبين (مطالَبون) بنضال عنيف يتميز بشقين: 1. يجب أن لا نقف موقفًا متشنجًا بالرفض. 2. يجب أن نكسب أكبر قدر ممكن من الوقت حتى يأتي اليوم الذي نشعر به أن مؤتمر السلام مناسب. ليس لدينا الآن معلومات كافية عن هذا المؤتمر، وليس لدينا ضمانات، وليس لدينا إجابات على أسئلة كثيرة”.

نبيل شعث
(نبيل شعث: جميع الضمانات التي مُنحت، والتي أعلنها السادات، هي ضمانات خاصة بوقف إطلاق النار وليس بتنفيذ قرار 242)

وعلّق أبو السعيد: “ما هو هدف المؤتمر؟ ما هي نتائج أهداف المؤتمر علينا كشعب وكقضية نضال؟ ماذا نريد من هذا المؤتمر؟ قرارات المؤتمر تكون قد أُعدّت من قبل أطراف المؤتمر قبل المؤتمر ومن خلال الاتصالات، ونحن بالأساس يجب أن نفهم معطيات هذه المرحلة من جميع جوانبها، ومن الخطأ أن تعطوا الجواب قبل أن تعرفوا الإجابة على جميع هذه الأسئلة. الوقت ليس بهذه الحدّة. يجب أن يُطلب من كافة المؤسسات أن تضع دراسات موضوعية مع كافة الاحتمالات ومعطيات المرحلة”.
ردّ أبو صالح: “المعطيات واضحة تمامًا، ولا تحتاج إلى المزيد من الاجتهاد. المفهوم من رسالة السوفييت. انسحاب من [الأراضي المحتلة عام] 1967 وحقوق الشعب الفلسطيني. هناك تسوية سلمية. مشكلة الشرق الأوسط لها بُعدين جغرافي وسياسي. ما [هو] الموقف الأفضل لاستمرارية نضالنا ضمن المعطيات القادمة (التسوية والكيان الفلسطيني). هل نشارك أو لا نشارك ولماذا؟”.
وقال هاني الحسن: “المعركة الأخيرة صعّبت الأمور، واختلط الوطني واللاوطني. الوضع الحالي لن يستمرّ. هناك [وفاق دولي] لفرض الهدوء في المنطقة، هناك [شيء] سيُفرض في المنطقة. هناك [حل] سيُفرض. اتفاق تعاقدي بين العرب وإسرائيل يوضع في الأمم المتحدة. مطلوب أن نعطي مبادئ للجنة المركزية أن تعمل وفقها. لا يجوز لأحد أن يمثّل الشعب الفلسطيني غير منظمة التحرير بقيادة فتح. يجب أن نحارب علنًا وبشكل متطرف كل من لا يساهم معنا بعزل الملك حسين. إن قرار مجلس الأمن 242 ليس قرارًا مناسبًا لنا للعمل، لأنه لا ينص على حقوق الشعب الفلسطيني، ومطلوب نصوص واضحة وصريحة. علينا العمل لإسقاط أو وراثة النظام الهاشمي. تصعيد النضال المسلح على كل الجبهات الداخلية والخارجية. بذل الجهد لإعادة القتال في المنطقة”.
واعترض ناجي علّوش (أبو إبراهيم) بقوله: “مجرّد طرح موضوع مؤتمر السلام خطأ ولا يجوز، لأنه اعتراف بإسرائيل. المعطيات ثلاثة: 1. القيادة الفلسطينية والكوادر تجد نفسها عاجزة وفي بلبلة إزاء الواقع الجديد الذي نعيشه، وكذلك الجماهير التي تقول لا تنتظر موقف القيادة. تجد في داخل القيادات الفلسطينية في مختلف مراتبها من يتناقش هل نذهب إلى مؤتمر السلام أم لا نذهب دون أن تدرس ما هو مؤتمر السلام. 2. لأول مرّة، نجد قيادات عربية تقول علنًا إنها متفقة للجلوس مع الإسرائيليين في مؤتمر سلام، ومستعدّة للتسوية مع إسرائيل ضمن حدود قرار 242. 3. هنالك محاولة أميركية – سوفياتية بفرض هدوء على هذه المنطقة، وإن كانا من منطلقين مختلفين. يطرح السوفيات الأمر بمحاولة لفرض تنفيذ قرار مجلس الأمن، ويعتقدون أنهم يخدمون بذلك [أصدقاءهم] العرب والفلسطينيين.

 تمكّنت منظمّة التحرير من أن تصبح الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لكن الأرض الفلسطينية أصبحت بذلك أرضاً متنازعاً عليها

ما هي النتيجة؟ الاعتراف بوجود إسرائيل، ضمان حدودها معنا، ضمان أحزمة أمن، ضمان مرورها بالمياه… بعد ذلك كله ما هو مطروح على الفلسطينيين كيف سيكون وضع المقاومة والشعب؟ أشكّ أن ما هو مطروح سيتحقق. عدم استعداد إسرائيل الاعتراف بطرف فلسطيني وطني مستقل، لأن استراتيجيتها قامت على إلغاء الشعب الفلسطيني، والمجريات التي حدثت ليست كافية لحمل إسرائيل أن تعترف بطرفٍ فلسطيني. لقد خرجت أميركا من هذه الحرب أقوى منها في المنطقة مما كانت عليه، هل من مصلحة الولايات المتحدة أن توافق على قيام دولة فلسطينية وطنية مستقلة؟ أميركا تريد منطقة مستسلمة خاضعة وليس بؤرة ثورية كالشعب الفلسطيني.
نتيجة ذلك كله، أعتقد أن ما هو مطروح على الفلسطينيين في هذه المرحلة إما أن يخضعوا بقوة السلاح إذا رفضوا، أو أن يخضعوا بأيديهم إذا وافقوا. لقد قال الفلسطينيين 70 عامًا لا، وتحملوا نتيجتها، بإمكانهم الآن أن يقولوا لا لمؤتمر السلام والمفاوضات. وهنا علينا أن نفكر كيف نبني هذه الحركة لكي تكون قادرة على مواجهة المرحلة المقبلة”.
علّق أبو السعيد: “في اعتقادي، أن النتيجة العسكرية ليست في صالح إسرائيل”. أما محمد غنيم (أبو ماهر) فقال “الحديث عن التسوية قديم. لقد ناضلنا لكي تصبح الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، ومطلوب منها أن تعطي رأيها في القضية المطروحة. كنا نعتمد في رفضنا الدائم على مواقف سورية بالذات، ولكنها الآن قبلت بقرار 242 ووقف إطلاق النار. نحن الآن بمواجهة الأمور وحدنا. نحن لا نخشى الذهاب إلى مؤتمر السلام، ونطرح رأينا وموقفنا بكل صراحة، ولكنا تائهين (تائهون)، كيف يجب أن نتصرّف إذا كان هناك مؤتمر سلام أم لا؟ إذا قرّرنا أن نذهب يجب أن يكون لدينا القدرة أن نواجه الجميع. مهما كان القرار لا بد… 1. أن ننطلق أولًا من مصالح شعبنا. 2. ضمانة استمرار النضال. تصعيد العمل في الأرض المحتلة. إعادة النظر في تكويننا”.
وتحدّث صلاح خلف (أبو إياد) عما جاء في الرسائل والتقارير السابقة واجتماعاته مع وزير الخارجية الجزائري، عبد لعزيز بوتفليقة، والرئيس المصري، أنور السادات. وقال إن السادات “يريدكم أن تحضروا مؤتمر السلام. بلغّونا بالحرب قبلها بيوم. قابلنا السادات في يوم الحرب الساعة 6. كانت خطّته أن يصل إلى المضائق ومن هناك يقوم بحرب استنزاف… هناك تعتيم إعلامي كامل على عملياتنا في القاهرة. هناك محاولة تحميل جيش التحرير الفلسطيني قضية الخرق والدفرسوار”. ونقل عن السادات قوله: “لا بد أن تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة، وهذا تحجيم لإسرائيل. أرسلتُ للأمريكان أنني أريد الفلسطينيين، والروس عايزينكم. الأمريكان متمسّكين بحسين، ولكنه ليس موقفًا نهائيًا. الملك حسين سينسحب من المؤتمر إذا كان هناك فلسطينيين في المؤتمر. طلبت من حسين إدخال الفدائيين إلى الضفة الغربية، ولكنه رفض. لو تطوّرت الحرب أكثر من ذلك للعب حسين دورًا خطيرًا. عندي حسين وأنا لا أحب حسين، وسورية تريد حسين، وأنا لو كنتُ أريد أن أحاربكم اطلع طرف فلسطيني آخر، ولكن لا أريد أن أدخل معركة معكم”. وأضاف: “السادات سوف يمشي بالحل منفردًا إذا اقتضى الأمر. لا يريد مؤتمر قمّة يقيّد تحركاته. بعد انتهاء مؤتمر السلام، يُعقد مؤتمر عربي لبحث المرحلة القادمة. هناك مبادئ أساسية لا بد من تثبيتها. الوضع خطير ولا بد من البحث به”.

كان كل تنازل يُقدّم يفتح الباب أمام التنازل الذي يليه، إلى أن تحوّلت السلطة الفلسطينية من سلطة وطنية مقاتلة على أي شبرٍ يتحرّر إلى حكم ذاتي أقل من محدود

وقال أبو خالد دعاس: “رأيي أن نذهب إلى المؤتمر، وهذا لا يعني اعتراف وتنازل عن فلسطين. لا يمكن أن يُعقد مؤتمر عن فلسطين ولا نكون موجودين فيه، أن نذهب ونطرح الدولة الديمقراطية أو دولة اتحادية. حكم اليهود ليس أسوأ من حكم حسين”. وعلّق موسى عوض (أبو أكرم): “مع الذهاب إلى المفاوضات والسلم”. وقال سعيد المزيّن (أبو هشام): “في تصوّري أن الثورة الفلسطينية انتهت، وبدأت مرحلة الثورة العربية الشاملة في المنطقة. حرب السادات بتواطؤٍ أميركي. ننقسم قسمين؛ قسم يعمل بين الجماهير الفلسطينية، وقسم يناور سياسيًا”. أما سليمان الشرفا (أبو طارق) فرأى غير ذلك: “قرار 242 لم ولن يخدم القضية الفلسطينية ولا القضية العربية. ماذا سنأخُذ من مؤتمر السلام إذا ذهبنا اليه؟ لن نأخذ منه [شيئًا]. مشاركة الأمة العربية معنا في استمرارية العمل”. ورجّح عدم الذهاب إلى المؤتمر. وقال يحيى حبش (صخر): “نحن بحاجة إلى دراسة أكثر. يجب أن نضع كافة الاحتمالات ومواجهتها”. ودعا إلى ذهاب وفدٍ بدعم من الثورة. على خلاف ذلك، قال عصام السرطاوي: “القضايا التي تُطرح لا يجوز طرحها لأنها تتناقض مع المبادئ الأساسية لحركة فتح. لا يجوز التنازل عن حقّ التمثيل”. واقترح أن يتخذ المجلس قرارًا بإعلان حكومة فلسطينية.
واختتم ياسر عرفات اللقاء بقوله: “إننا في أزمةٍ سببها أن بين الهدف الذي أعلناه في هيكل البناء الثوري وبين ما هو مطروح مسافة كبيرة. المنطقة مقبلة على 48 ومعاهدة رودس مكبّرة. مصر صاحبة القرار العربي وسورية صاحبة القرار الفلسطيني”. وعدّد عرفات محاذير الذهاب إلى المؤتمر الدولي، ولخّصها بما يلي: “انتهاء الحالة الضخمة حول فتح، لأنها ستقوم في دولة صغيرة. نكون على مائدة ذئاب. توقّع على التنازل عن البندقية. من الممكن أن لا تستفيد أي شيءٍ من المؤتمر ونضيع كل شيء. موقف المزاودين العرب. الانشقاقات في الساحة الفلسطينية. الذهاب يعني كتاب وثيقة موت الثورة سياسيًا. إذا لم نذهب فإن طرف فلسطيني أو أردني سيذهب. سنتعرض لمضايقات في لبنان”.
جاءت بداية هذا المسار من الرئيس أنور السادات، ووُضعت القيادة الفلسطينية أمام واقع جديد تمثّل في وجود اتفاق أميركي – سوفييتي على الحل في المنطقة، وجاءت رسالة الاتحاد السوفييتي إلى القيادة الفلسطينية لتشجّع قسمًا من قيادة حركة فتح ومن التيار اليساري القريب من السوفييت داخل حركة فتح وخارجها (الجبهة الديمقراطية) على ترويج الانخراط في التسوية التي اعتبروها واقعية وممكنة. من جهة أخرى، وُضعت المقاومة بين خيار الانخراط في التسوية أو التصفية. واحتلّت مسألة التمثيل الفلسطيني أولوية على مسألة تحرير الأرض، واستغلّ السادات ذلك عبر المفاضلة بين منظمّة التحرير والملك حسين، أو التلويح بإيجاد بدائل فلسطينية – أردنية للمنظمّة، لكنه كان يدرك أنه بحاجة إلى غطاء فلسطيني لم يألُ جهدًا لتوفيره. وفي الوقت ذاته، ساد شعور عام بأن التسوية ستتحقّق، ولن يُسمح لأحد بالخروج عليها، وأن من لا يلتحق بالمحطّة سيفوته القطار، وتم تجاهل الأطماع الإسرائيلية والرواية الصهيونية، وطبيعة العلاقة الإسرائيلية – الأميركية، فظنّ بعضهم أن كل ما يجب عليه فعله هو الموافقة على المشاركة في التسوية كي يأخذ نصيبه منها.
عمليًا، لم تجرِ الرياح بهذه الطريقة، لكن باب التسوية كان قد فُتح، وما بدا أنه طريق معبّد تبيّن أنه شديد الوعورة، ومليءٌ بالكمائن والحروب والتصفيات. تمكّنت منظمّة التحرير من أن تصبح الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لكن الأرض الفلسطينية أصبحت بذلك أرضًا متنازعًا عليها، ولم تعد مثل سيناء أو الجولان أرضًا لدولةٍ احتُلت في حرب عام 1967، وينطبق عليها قرار مجلس الأمن 242. كما فُتح الباب أمام صراعاتٍ عربيةٍ – عربية. ومع الزمن، كانت شروط الالتحاق بالتسوية تزداد صعوبة، وانعكس ذلك على استراتيجية الثورة الفلسطينية وتكتيكاتها العسكرية والسياسية التي أصبحت مرتهنة لمسألتَي البقاء والخوف من التصفية مقابل النزاع على التمثيل. كان كل تنازلٍ يُقدّم يفتح الباب أمام التنازل الذي يليه، إلى أن تحوّلت من سلطة وطنية مقاتلة على أي شبرٍ يتحرّر إلى حكم ذاتي أقل من محدود في جزء من الضفة والقطاع يتأكل يومًا بعد يوم.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *