كوارث التطبيع في ظل “تعليب الفلسطينيين” و”تطويب” قياداتهم
مع هجمة التطبيع والانهيار الخليجي والعربي المريع تتفاقم كارثية غياب بوصلة فلسطينية وطنية واضحة ومشروع وطني محدد واستراتيجية وطنية جماعية. مع تواصل ذلك الغياب ترسخ انقسام وتذري الشعب الفلسطيني الى مجموعات يعوزها التجانس والتوحد الوطني في أماكن تواجدها، سواء داخل فلسطين في الداخل المحتل، الضفة الغربية، قطاع غزة، او الشتات متعدد الجغرافيات. ساهمت “عبقرية” فتح وحماس الانقسامية في تعزيز الانشطارات الوطنية وتغييب البوصلة. مع هجمة التطبيع الهائلة، ومع استمرار هذا الوضع كما هو وفي ظل الاستنقاع القيادي كما هو، سنواجه كوارث اضافية عديدة منها ان كل تجمع فلسطيني يقرر وجهته السياسية بعيدا عن “المركز الوطني” الذي بهت واختفى مع ضعف منظمة التحرير الفلسطينية وفقدانها دورها القيادي الحقيقي.
سوف يتعامل الفلسطينيون ك “افراد” و”مجموعات” إزاء ما يجب عمله تجاه التطبيع العربي من دون أي موقف موحد يكون فعالا إزاء سياسات التعامل. فلسطينيو الداخل المحتل سوف تكون له رؤيتهم امام الرأسمال الخليجي المتوجه الى إسرائيل والذي سيزعم انه يريد دعم الفلسطينيين واقتصادهم وتقليص معدلات البطالة بينهم. فلسطينيو الضفة الغربية ستكون لهم رؤاهم القريبة من رؤية السلطة القائمة، والمُتبدل تبعا للظروف الخاصة بهم. فلسطينيو القدس وامام البرامج الإماراتية المُبهمة في المدينة المُقدسة سوف يكون لهم توجههم الخاص بهم أيضا. فلسطينيو قطاع غزة ستكون لهم مقاربتهم المرسومة من قبل السلطة هناك، و المرتبطة أيضا بتدخلات اقليمية. وفلسطينيو الشتات ومنهم الجاليات الفلسطينية في الخليج سوف يتبنون رؤى وأساليب مختلفة بل ومتنافرة وقد تزلق الى مربع الإتهام المُتبادل (ولنا ان نقارن مثلا موقف فلسطيني المخيمات في لبنان مع موقف الفلسطينيين في الامارات والخليج إزاء تطبيع الانظمة). وهكذا سوف يكون لكل تجمع من هذه التجمعات الفلسطينية “تنظيرها” الخاص في تعاملها مع التطبيع، وتتطور رؤى وتصورات تتعامل مع هذا التطبيع من زوايا مختلفة، مثل الاستفادة منه في دعم الصمود او تنمية الاقتصاد الفلسطيني او الحفاظ على الجاليات الفلسطينية في الخليج او سوى ذلك. مبررات ومسوغات كل “تجمع فلسطيني” سوف تتمتع بهذا القدر او ذاك من القوة إذ لا احد يجادل ضد الصمود او دعم الاقتصاد الوطني، او ضد حماية أوضاع الجاليات الفلسطينية حيث كانت، لكن ذلك كله وفي غياب سياسة وبوصلة وطنية موحدة سوف يذهب في اتجاهات متنافرة تزيد من التذري والتشتت، وتخلق شعوبا فلسطينية بدل الشعب الفلسطيني الواحد. من الممكن والمفهوم ان تكون اتجاهات التعامل المختلفة هذه مفيدة تبعا للخصوصيات الجغرافية، لكن شريطة ان تكاملية وضمن سياسة عليا واستراتيجية وطنية، لكن في الوضع الراهن من الصعب تخيل ذلك.
مخاطر “تعليب الفلسطينيين”
غياب المركز الوطني المتمثل في منظمة التحرير التي لا زالت نظريا هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هو احد أسس هذه الكارثة الانقسامية، فهي عمليا غائبة تماما عن قيادة الشعب وعن تحديد بوصلته الوطنية وماذا عليه ان يعمل ككل واحد او كأجزاء متكاملة. وبالتوازي مع ذلك فإن إنهيار الحاضنة العربية واندفاع الدول الخليجية نحو التطبيع وبعضها نحو التحالف العضوي مع إسرائيل، ومحاولة كل منها احتواء جزء من الفلسطينيين لشرعنة تطبيعها يضاعف من المخاطر. على ذلك فإننا سوف نواجه حقبة تتحالف خلالها مجموعات فلسطينية متعددة مع مصالح دول التطبيع بما يؤسس لما يمكن وصفه ب “تعليب الفلسطينيين” في جغرافيات مختلفة ووفق مصالح مختلفة (مصالح من فوق لتحت قادمة من بلدن التطبيع، ومصالح متطورة من تحت لفوق متطورة عبر مجموعات المصالح الفلسطينية). سوف يزداد هذا “التعليب” ما لم نسرّع في انتفاضة سياسية ووطنية لإعادة تأسيس الشرعية الفلسطينية على قاعدة تمثيلية حقيقية وواسعة يشعر كل فلسطيني في أي رقعة من رقاع العالم بالانتماء اليها، وبأنها مركز الفعل والقرار الوطني. لا حاجة للتذكير بإن هذا كله يحدث وبما فيه من مخاطر وكما يرى ويعلم الجميع ضمن سياق دولي مدمر يتمثل في الهجمة الامريكية المخيفة على الحقوق الفلسطينية بغية تصفيتها من كل الجوانب، بدءاً بالأرض والسكان والقيادة وصولا الى التعليم والفن … ووكالة الانروا. ويترافق ذلك التراخي الدولي إزاء القضية الفلسطينية مع صعود أولويات وصراعات إقليمية ودولية ضاغطة، وحصار اعلامي على كل شيء فلسطيني تقوده ماكينات الاعلام المُتحكم فيه أمريكيا وصهيونيا.
تفكيك عقلية “التطويب” الفلسطينية
دفع هذا الوضع الخطير حركتي فتح وحماس الى حوار مصالحة بأمل ان يشمل الكل الوطني ويعمل على إعادة الحياة للشرعية الفلسطينية وإعادة الاعتبار للمركز الوطني ذي البوصلة الواحدة والقادر على الحشد والتعبئة. وهذا تطور يجب الترحيب به ودعمه ودفعه بكل الطاقات، رغم وجود اطراف وقوى سواء داخل الحركتين الأهم ام خارجهما ما تزال حبيسة حساباتها الحزبية والفئوية ولا ترى ابعد من انفها. متابعة تصريحات من يحاول وضع العصي في دواليب المصالحة تشير الى التفاهة العدمية التي لا زال البعض يعيشها. كما ان الخلافات التي تطفو على السطح هنا وهناك وتشير الى “العوائق” التي قد توقف هذه المصالحة كلها تدور حول بنود فرعية، وتؤكد على قصر النظر الاستراتيجي، هذا كله فضلاً عن التدخلات الإقليمية في المصالحة ومحاولة اعاقتها تماما. صحيح ان المطروح حاليا على اجندة المصالحة لا يرقى للسقف الوطني المأمول وهناك الكثير من النقد والنواقص، لكن هذه المصالحة عمليا وبراغماتيا هي الخطوة الأولى والمهمة في اتجاه إعادة الشكل المركزي للبوصلة الوطنية، والملح جدا لمجابهة اكلاف التطبيع الكبيرة. يجب بطبيعة الحال ان يرافق هذه المصالحة او يتبعها إعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة الثقة في هذه المؤسسات الشرعية في أوساط الفلسطينيين، ذلك ان توحيد المركز الوطني يقلل من الثغرات التي تندس من خلالها اطراف إقليمية ودول تشد هذا الجزء الفلسطيني او ذاك في اتجاه منافر للأجزاء الأخرى.
هناك متطلبات كثيرة لإنجاح هذه العملية ووضعها على مسار وطني حقيقي ومستقبلي، وبعض هذه المتطلبات نفسية وسيكولوجية عند القيادات والحركات الفلسطينية الرئيسة، ومنها تفكيك ما يمكن تسميته بعقلية “التطويب”، والتي يعود جذرها لفكرة “الطابو” او صك الملكية. بحسب هذه العقلية المُستبطنة بوعي، والمتغلغلة بدون وعي في تفكير وسلوكيات القيادات والأحزاب فإن قيادة الشعب الفلسطيني او السيطرة على أجزاء من الأرض الفلسطينية (من دون سيادة طبعا) تحولت الى “طابو” وملكية تاريخية لا تتغير ولا يمكن التنازل عنها، ونرى هذا جليا في حالتي فتح وحماس. عملياً، تتجسد هذه العقلية في الاعتقاد العلني او القناعة الداخلية بأن الضفة الغربية “مطوبة” لفتح، وقطاع غزة “مطوب” لحماس.
ليس هذا فحسب، بل إن احد القيادات الفتحاوية كتب مقالا ذات مرة تضمن ما معناه ان فلسطين “مطوبة لفتح”، أي ان قيادة فلسطين والتحدث بإسمها هو ملكية تاريخية وحصرية لفتح. تعبر هذه العقلية الحصرية والإحتكارية عن طرائق التفكير والقناعات المترسخة في المجموع العام للقيادات الفلسطينية الحالية، سواء في فتح او غيرها. وهي قيادات ومنظمات مهجوسة ب “التطويب”، إما بوعي تام او بشبه وعي أسوأ من الوعي التام. حال المنظمات الفلسطينية الأخرى ليس بأفضل حالاً من فتح. خطاب وادبيات حماس خلال فترة الانقسام تشير أيضا الى سيادة عقلية “التطويب”. لا تتخيل بعض قيادات حماس أنه بالإمكان التخلي عن السيطرة على القطاع ضمن أي معادلة وطنية كانت، وان لا تكون هي الآمرة الناهية فيه. المنظمات الأخرى لها ممارساتها الخاصة تبعا لسيكولوجيا “التطويب” وفي تنويعات مختلفة. الجبهة الديموقراطية يرأسها اكبر امين عام غير ديموقراطي في العالم، حيث تتبدى الجبهة وكأنها “مطوبة” بإسمه شخصيا من لحظة التأسيس قبل اكثر من نصف قرن، أي أزيد زمنيا من ثلثي عمر الاتحاد السوفياتي من لينين حتى غورباتشوف. عقلية “التطويب” من ناحية موضوعية هي نزعة بشرية مترسخة ومنذ التكوينيات المُؤسسة للتجمعات الإنسانية في الالفيات الأولى لما قبل الميلاد. لكن تطور البشر وما آلت إليه نظريات السياسة والحكم والإدارة حاولت لجم هذه العقلية والممارسة عبر آليات تداول السلطة، والديموقراطية، والانتخاب وسوى ذلك مما يضمن عدم تكلس السياسة وتجبر الاستبداد واستنقاع المجتمعات. لذلك يجب ان نضع عقلية “التطويب” هذه امامنا بهدف التفكيك والتغيير، لأن هذا التغيير شرط بنيوي يسمح للأجيال والأحزاب والتشكلات الجديدة ان تظهر وتنافس على القيادة.
لكن مع هذه الحقائق المُرة ليس امامنا الى ان نتعامل معها، ونقول إن وحدة ومصالحة تعيد انتاج شرعية ومركز وطني فلسطيني ولو تعتريه النواقص العديدة، افضل الف مرة من الوضع الحالي الذي يتسم بالتشتت والضياع. قيادة واحدة ولو ضعيفة (ظرفيا) افضل الف مرة من مراكز قيادة عديدة وكلها ضعيف وخاضع للخيارات الإقليمية اكثر مما هو منسجم مع المصلحة الوطنية الفلسطينية. الخيار الأمثل بطبيعة الحال هو الانتخابات العامة داخل وخارج فلسطين ولتأسيس مجلس وطني شاب وجديد ومنظمة تحرير نشطة وممثلة لكل الفلسطينيين، وليست مطوبة لفتح وحدها او مطوبة لفتح وحماس. وليكن هذا هو البند الثاني على الاجندة الوطنية. واذا لم نكن جديين في مسار إعادة انتاج المركز الوطني فإننا سوف نشهد تذريا إضافيا وخطيرا للشعب الفلسطيني في مسار “التعليب” تحت وطأة خيانات بعض الأنظمة العربية ومؤامرات واشنطن وتل ابيب والعمل الدؤوب على تصفية فلسطين والفلسطينيين.