نحن أبناء الأونروا
سطور تُكتب بروايات
نحن فلسطينيو العام 1948 اذا بحثت عنا في محركات البحث “جوجل” مثلاً، فلن تجدنا، ستجد غيرنا ولكنهم منا وفينا حملوا اسمنا الاسرائيلي المعّرب “عرب ال 48” .
إذا بحثت عنا في الخرائط فنحن اللون الأخضر الذي تبخّر ليصبح لطعة داكنة، قرب نهر الأردن، بين أصابع الملك الهاشمي والرؤساء الفلسطينيين المزعومين..
إذا سألت التاريخ، عنا فكل خلجاننا وشعابنا.. كل حجارتنا وصخورنا، وصدى مقابرنا، تحكي لك تفاصيلنا.. فلا تتعب جهدك بالبحث ولا عضلاتك في الحفر .. فمازال اليهود ينقبون في كل بلاد الشام ولم يعثروا على حتى على عظام لالهيكل سليمان ولا لأبيه.
اذا سألت الفدائي عنا، فمن كل بيت عندنا شهيد، وفي كل ابن مخيم، في سوريا ولبنان، مشروع شبل عملاق، كان ينظر له ابناء الضفة وغزة نظرة شموخ وحسد واعتزاز ..
اذا سألت الألم والخوف والقمع عنا، فنحن ضحايا كل أشكال العنف والقهر والفقر.. والسجون والموت والذل من كل الانظمة العربية، والعالمية اذا استدعى الأمر ..
واذا سألت الشهداء والأسرى والجرحى عنا فنحن من قدّم للثورة الفلسطينية منذ ما قبل العام 1965 وطيلة وجود الثورة والحروب ، ألاف الشهداء .. وكنا البناء التحتي، بكل معنى الكلمة، لكل التنظيمات، وبيوتنا وبطّانيات بردنا تحكي عن ذلك .. ومقابر شهدائنا التي للأسف ستزول قريباً تشهد بذلك..
واذا سألت وسائل الاعلام وأبواقه عنا، فالسؤال من الخارج جوابه نحن شعب لم يعرف أي نوع من أنواع التطرف يوماً، ليس لانه منزل عن الطوائف والجهوية والمناطقية وغيرها.. بل لأن التحرر الوطني كان أساس مرجعياته.. واذا سألت من داخلنا عنا فدعك من السؤال بعد رجوع أبوعمار مكللاً بشبه انتصاره إلى الضفة وغزة.. أما بعد الانتفاضة الأولى فقد حدثت فعلاً بعيداً عن كل قيادات الخارج وعنا ، مع استثناء “أبوجهاد الوزير، رحمه الله” وهي أيضاً حدثت بعيداً عن كل الأبواق الاعلامية..
ومات ياسر عرفات ووضحت بشدة تداعيات هذا الإهمال لفلسطيني ال48 – أي نحن في خارج الوطن- واستمرت المعضلة المهزلة المقصلة التي تمظهرت في التالي:
-أهمال عالمي متوج بالبدء بتفريغ قرارات ومقررات من محتواها، كحق العودة، وتجاوز حقيقتها في الأمم المتحدة وفي العالم العربي .
-اجحاف فلسطيني سلطوي بالسعي لتحقيق مطلبات أوسلو وباقي اتفاقيات السلام والاستسلام وبيع وتآمر عربي على حقوقنا الدولية.. قرار 242 على الأقل.. وتطاول مخزي على تاريخنا النضالي..
-اعلان تطبيع عربي بمعناه اللغوي، لكنه في الواقع هو إعلان عن تحالفات، اقتصادية وسياسية، كانت قائمة أصلاً، تسعى لشرق أوسطي جديد، وربما يمكن لكيسنجر أن يعرف تفاصيلها التي تنبأ بها سابقاً ..
أما على الصعيد الاعلامي الحالي فكل هذه الملتقيات والندوات والمراكز والدوريات واليوميات، التي تتبجح في وسائل الاعلام عامة، وعلى شبكات التواصل خاصة، باسم فلسطين والفلسطينيين، لا تعنينا أبداً ولاتحكي باسمنا مطلقاً ..نحن الآن لسنا أبناء الأونروا ، وبلا وطن أو بلا جنسية أو من بلد غير معروف في آسيا ..
مسميات “ضفدعجية” غرائبية لا تنتمي حتى لمستنقعات مخيماتنا..
نحن ملايين الفلسطينيين في اللجوء بأوروبا من بلد غير معروف أو غير معروف في آسيا .. واسرائيل تلعب في دوري الأمم الأوروبية لتصفيات كرة القدم ..؟!!
أي صوت يحكي باسم فلسطينيي الشتات لا يمثلني
انا كلاجئ .. ولا يمثلني كابن مخيم من سوريا أو لبنان، ولا من غزة والعراق ومصر.. أي لايمثل كل أصحاب وثائق السفر ..
ولا اعتقد انه يمثل عرب ال48 الذين يحملون جواز السفر الاسرائيلي، ولا يمثل أحد من فلسطينيي الأردن الذين يحملون جنسية بلدهم..
إذن من يمثل هؤلاء المبثّوثون في الشبكات العنكبوتية وفي وسائل التواصل الاجتماعي.. وباسم من يتكلمون؟
نحن أبناء الأونروا لايمثلنا الآن أي أحد
نحن فلسطينيو ال 48 سطور تُكتب بروايات..
خرج اسماعيل وعائلته من حيفا، وتقدما هو وزوجته خديجة، التي صارت “كاروطة ” بعدما فقدت كل اسرتها في مذبحة الطنطورة.. تقدما المسيرة الليلية عبر الدروب التي تصل وادي النحل بجبل الكرمل..
وصلوا مشارف قرية إجزم، التي كانت من آخر القرى المهدمة الصامدة، في صباح يوم من أيام نهاية الشهر السابع من العام 1948، وربما نهاية شهر رمضان..
كانت شاحنات الجيش العراقي، الذي وصل إلى هناك لتحرير حيفا، تستعد للعودة وتحاول أن تأخذ معها من اراد من سكان آخر ثلاث قرى صمدت .. وكأنها تأخذهم معها في عودتها الى بغداد كغنائم حرب..
ودّع اسماعيل وعائلته، ومن رفض من سكان إجزم وجبع وعين غزال الهجرة للعراق، ودعوا أهالي قرية أم الزينات الذين رفضوا الحرب ورفضوا الخروج من فلسطين.. وساروا عبر الجبال باتجاه رام الله..
قبل أن يصل اسماعيل وأسرته قرية “كفر لام” مات أخوه الصغير من العطش.. وحتى حين وصلوا إلى القرى القريبة كان الماء يُباع- في الأبار- بنقود للنازحين، والليرة كانت بليرة ذهب ..
وصل اسماعيل لابناء عمومته، أو لنقل ابناء قبيلته، ولم يكن الأمر بمفاجئ أيضاً فقد باعوهم “طاب” التين على شجرته.. ربما هي مفارقات تاريخية، ربما هي تناقضات الداخل والخارج، ربما هي هواجس “سفربرلك “جديد، وربما هو الصراع التاريخي بين الريف والمدينة..
ترك اسماعيل كل مسارات نزوحه الكئيبة والغريبة وراح إلى زرقاء الأردن.. عند تدافع اجتياز الحدود ضربه الجندي الأردني على وجهه بكعب البارودة فاسقطه أرضاً ..
حملوه أخوته وزوجته، وهو ينزف من انفه دماً ومن ثم قيحاً، إلى لبنان ولمّا تعافى وصار صاحب أنف افطس، مرضت زوجته بالسل.. حملها وركض بها مع رضيعها إلى سهول حوران.. ولحقت كل حمولته..
أهل درعا قاسموا اسماعيل وأسرته الخيم والبيوت والفقر والتعب، والهم والغم والحزن والسعادة..
أهل درعا قاسموا الفلسطينيين قطاف البامياء وزرع البندورة وبيادر الحصاد.. وطقوس الزواج والانجاب والتعليم والحب والمرح والفرح.. وظلت فلسطين هاجس وحكايا الجميع..
من خبرته الميكانيكية في ميناء حيفا اشتغل اسماعيل في درعا مصلحاً “لبوابير الكاز” ومن ثم مصنعاً لهذا الاختراع الثوري الذي نافس كل أفران الطين وتنانير الحطب..
هاجر، أو لنقل، سافر اسماعيل الى مخيم اليرموك، وهناك تابع انجاب بناته وأولاده ((الطلطاش..8 شباب و5 بنات))، وبدأ حياته الجديدة بين اخوته الفلسطينيين والدمشقيين السوريين.. ولم يشعر في يوم من الأيام ، بغير انه سوري فلسطيني عربي.. وانجب واجتهد وكافح وبنا وعمر .. وصار الدكان مصنعاً والبيت بناية .. والأب جداً وحفيداً .. وظلت فلسطين هاجس وضمير ونبض الجميع..
شارك اسماعيل في الثورة، وقدم شهيده الثاني أخوه الضابط في جيش التحرير الفلسطيني عام 1973 في معارك تل الفرس بالجولان المحتل، وشهيده الثالث، ابنه الكبير عام 1982 في حصار بيروت..
ولم يعرف الحج اسماعيل، رغم دفعه عشرات الالاف من الليرات السورية، في اي سجن يقبع ابنه الرابع بتهمة انه من جماعة أبوعمار ..
نهاية العام 2012 خرج اسماعيل من مخيم اليرموك منهاراً على اكتاف أولاده وأحفاده .. ولم يعرف كيف وأين ولماذا ..؟
توفي منذ أيام في ستوكهولم عاصمة السويد، دون أن يعرف مصير ابنه الصغير الذي ظل محاصراً مع عائلته في مخيم اليرموك.. ولا في أي سجن ابنه المتهم بانتمائه لياسر عرفات.
ومازال الحج اسماعيل ينتظر من يكتب على شهادة قبره سيرة تشرده..