كلمة الرئيس الفلسطيني ما لها وما عليها
يحسب بعض المتابعين للشأن الفلسطيني فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس صعد السلم إلى أخره، بتهديده إسرائيل، في الكلمة التي ألقاها امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة (23/9)، بخيارات بديلة، تتركز في الآتي:
أولا، العودة إلى قراري المجتمع الدولي، الأول المتعلق بتقسيم فلسطين 181 (لعام 1947)، إلى دولتين يهودية وعربية، إذ الأولى وجدت، لكن الثانية لم توجد بعد بسبب موقف إسرائيل. والثاني، القرار 194 (لعام 1949) القاضي بعودة حوالي مليون لاجئ فلسطيني إلى بيته وأرضه ووطنه. علما أن القرارين كانا شرط إعتراف المجتمع الدولي بإسرائيل بموجب القرار 273 (1949). ومعلوم إن إسرائيل لم تنفذ أي من القرارين، أي لم تلتزم بشروط الاعتراف بها؛ وقد استمر هذا الأمر بسبب الدعم والتغطية اللذان تحظى بهما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية عموما.
ثانيا، إعراب الرئيس عن اعتزامه نقل المسألة الفلسطينية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، لأخذ الاعتراف منها بترقية عضوية دولة فلسطين من عضو مراقب (تم الاعتراف بها كذلك في العام 2012)، إلى دولة كاملة العضوية، مع تأكيد انضمام دولة فلسطين إلى مجمل الهيئات الدولية.
ثالثا، في إلقاء الرئيس اللوم والمسؤولية صراحة للولايات المتحدة على سياساتها التي تغطي إسرائيل، وتدعمها، سيما أن تلك الدولة تحتل أراضي الفلسطينيين وتمارس التمييز العنصري ضدهم، وهو في هذا المجال طالب الولايات المتحدة وبريطانيا بالاعتذار عن المظالم التي وقعت على الفلسطينيين منذ انشاء إسرائيل (1948)، والتعويض عليهم، واتاحة المجال للشعب الفلسطيني إقامة دولته المستقلة في الأراضي المحتلة.
طبعا في كلمته استعرض محمود عباس الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين، كشعب وكأفراد، كما استعرض محاولاتها الأحادية لتغيير الواقع بالاستيطان والتهويد ومصادرة الأراضي وقمع الشعب الفلسطيني، والتسبب بمعاناته وآلامه منذ 47 عاما، وأكد على الرواية الفلسطينية المؤسسة للهوية الوطنية الفلسطينية، التي تركز على النكبة كحدث مؤسس، نجم عنها إقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وهي رواية تم الانزياح عنها في الأدبيات والخطابات الرسمية الفلسطينية.
رابعا، أكد الرئيس في كلمته بأن القيادة الفلسطينية نحت نحو المفاوضات والسلام، وأن إسرائيل عملت كل شيء لدفن اتفاق أوسلو، والحؤول دون إقامة دولة فلسطينية، مؤكدا أن إسرائيل ليست شريكا للسلام، وأن المطلوب تضافر جهود المجتمع الدولي لتطبيق القرارات التي اتخذها في الشأن الفلسطيني، مشددا على وصم إسرائيل باعتبارها دولة احتلال ودولة أبارثايد.
باختصار كانت كلمة جامعة، وشاملة، وعرضت لمجمل آلام الفلسطينيين في 48 وفي الضفة وغزة والقدس واللاجئين، وأكدت على مكانة منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وهي ربما أكثر ما يمكن للرئيس الفلسطيني قوله، في ظروفه، أي وفقا لاعتقاده بجدوى عملية التسوية، ومن على منبر الأمم المتحدة.
مع ذلك ثمة عديد من المسائل يمكن اثارتها في هذا المجال:
أولا، إن المراهنة مجددا على المفاوضات لن تجدي نفعا، لأن إسرائيل لا تبالي البتة، وهي في مركز قوة، ولا احد يضغط عليها، وثمة انزياح نحو اليمين واليمين المتطرف في فيها، ولنلاحظ أن ثمة عشرة رؤساء حكومات مروا على إسرائيل منذ عقد اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين دون أن يقوم أي منهم بتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة في عملية التسوية ولو بالحدود الدنيا (رابين، بيريز، نتنياهو1، باراك، شارون، أولمرت، ليفني، نتنياهو 2، نفتالي بينيت، يائير لابيد، مع خمسة أحزاب، هي العمل، ليكود، كاديما، يميناه، يش عتيد).
ثانيا، للأسف لا يوجد للرئيس الفلسطيني أوراق قوة كي يستخدمها للضغط على إسرائيل، فعلى الصعيدين العربي والدولي ثمة تراجع في مكانة القضية الفلسطينية، لصالح الاهتمام بقضايا أخرى. أما على الصعيد الفلسطيني فهو لم يراكم أوراق قوة في يديه، إذ في عهده تم تهميش منظمة التحرير، لصالح سلطة تحت الاحتلال، كما تم إضعاف مكانة اللاجئين في العملية الوطنية الفلسطينية، وثمة مشكلات الانقسام والاختلاف وتآكل الشرعية، ناهيك عن الفجوة بين مجتمعات الفلسطينيين وقيادتهم السياسية، وضمن ذلك ضعف المجتمع المدني الفلسطيني في الداخل، في الضفة وغزة.
ثالثا، ليست تلك هي المرة الأولى التي يذهب فيها الرئيس محمود عباس للتهديد بإمكان الذهاب إلى خيارات أخرى، فهو منذ أكثر من عشرة أعوام ما برح يهدد بذلك، وضمن تلك التهديدات سحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني، والتخفف من بروتوكول باريس الاقتصادي (الملحق باتفاق أوسلو) إلا إنه سرعان ما يتراجع عن ذلك، إن بسبب المصاعب والأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي باتت تواجهها السلطة، والفجوة التي باتت تتوسّع بينها وبين شعبها، نتيجة استمرار علاقات الاحتلال، واستمرار الارتهان لقيود اتفاق أوسلو، أو بسبب عدم رغبة الطبقة السياسية السائدة بالذهاب نحو خيارات راديكالية تهدد مكانتها في السلطة؛ إلى درجة تجاهل قرارات المجلسين الوطني والمركزي للمنظمة، في هذا الشأن، منذ العام 2015.
رابعا، إن الحديث عن اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، على أهميته المعنوية، ينبني على إشاعة وهم اخر، إذ ذلك، حتى لو نجح في الجمعية العامة، سيبقى من دون ترجمة عملية، لأن قامة هكذا دولة، حتى لو في حدود الأرض المحتلة (67) والاعتراف بها يحتاجان إلى معطيات دولية وإقليمية وعربية مواتية، ووضع فلسطيني مواتي أيضا، كما يتطلب حالة ضغط على إسرائيل، وكل ذلك غير متوفر، والشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى وهم أخر.
يستنتج من ذلك أن مصير التهديد الحالي لن يكون أفضل من سابقاته، أي أنه سيصل بدوره إلى طريق مسدود، ولن يجريَ الحسم بشأنه، بغضّ النظر عن رغبة القيادة الفلسطينية، أو جدّيتها، من عدم ذلك، فالأمر منوط بالقدرة على اتخاذ القرارات، وعن توفّر الإمكانيات اللازمة لوضعها في حيّز التطبيق، من دون التقليل من أهمية الرغبة والجدّية.
وبصراحة، فقد فات الوقت الذي يمكن فيه لهذه القيادة أن تغيّر خياراتها، أو السياسات التي تنتهجها، لسبب بسيط وهو أنها باتت مرتهنة بوجودها -أي بشرعيتها ومكانتها السلطوية وبامتيازاتها- للعملية التفاوضية الجارية مع إسرائيل، أي لمنظومة العلاقات الناشئة عن اتفاق أوسلو (الموقع قبل حوالي ثلاثة عقود تقريبا)، وهذا التقدير يتأسس على المعطيات والظروف والارتهانات التي باتت تشتغل في إطارها تلك السلطة، وتلك الطبقة السياسية التي تتشكل منها.
وباختصار فإن انتهاج خيارات سياسية وطنية، بديلة، ومغايرة، في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، يتطلب إحداث تغييرات في بينة الطبقة السياسية المتحكمة بالكيانات السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، أي إنه يتطلب تجديد القيادة الفلسطينية، شبابها، ومفاهيمها، على أسس نضالية وتمثيلية وديمقراطية، والعودة إلى الرواية المؤسسة للهوية والوطنية الفلسطينية في التطابق بين الشعب والأرض والقضية، ومن دون ذلك لا قيمة لأية تهديدات أو سياسات.