كلمات “تحت الروح”

النص الكامل:
أستيقظ من النوم وأفتح الستارة التي تغطي الشباك فوق السرير لأجد نفسي أطل بالكامل على المتوسط، وتحديداً على مرفأ بيروت. أرى الأهراءات واقفة أمامي شاهدة على ذاكرة انفجرت فصارت مرآة تعكس دمنا وخيباتنا. في كل صباح أنظر إلى بيروت وأقول: “هذه ليست بيروت من غير إلياس.” أقول هذا على الرغم من معرفتي المسبقة بتعليقك على ما أقول: “منذ خمس وأربعين سنة ونحن نقول لبيروت إنها ليست بيروت. أضعنا بيروت ونحن نبحث عنها في الماضي الناقص. مدينة ليسَ، هذا هو الاسم الذي أطلقناه على المدينة، فمنذ بداية الدمار في الحرب الأهلية، ونحن ننسب بيروت إلى ماضيها.” لكن بيروت التي عادت وانفجرت من أولها إلى آخرها لحظة رحيلك في عملية “البيجر” لا يمكن أن تكون نفسها المدينة التي أعرفها وتعرفني. في تلك اللحظة البربرية التي اخترقت فضاءات المدينة شعرت كأن بيروت انفجرت حزناً على رحيلك، فالمدن أرواح تحزن وتفرح. فكيف لمدينة فقدتك أنت، حارسَ ذاكرتها، ألّا تنفجر حزناً؟
أمعن النظر في البحر أكثر. أفرك عينيّ جيداً وأبدأ نقاشي الصباحي معك عن سوريالية هذا المشهد وغرائبيته، فمن المتوقع أن يشعر الشخص بالحظ إن كان يعيش في منزل مطلّ على البحر، لكن حتى معنى البحر في بيروت مختلف عن العالم كله. بحر بيروت مقبرة جماعية لضحايا الحرب الأهلية، ومصير الفدائيين المجهول، وموج من نيترات الأمونيوم الممزوجة بالدم المسفوك على مقصلة الطائفية. لكنه أيضاً امتداد لبحر حيفا الذي أطلقتَ عليه اسم “بحر الحزن” في ثلاثيتك. بحر الحزن. بحر من الحزن. وهو كذلك. حزن يغلف ساحل المتوسط من أول البلاد إلى آخرها، لكننا لا نفهم حزنه العميق أو نتجاهله حتى يضربنا موجه بخسارات شخصية فندرك سحر الاستعارة.
اليوم السبت وبيروت هادئة كعادتها في صباحات عطلة نهاية الأسبوع. السماء زرقاء والبحر كذلك. الشمس تستقر في قلب السماء البعيدة. أنزل من البيت في الأشرفية بالقرب من مستشفى الروم وأسير في الأزقة الخلفية المظللة بأشجار الزنزلخت والأدراج السرية التي تربط أطراف “جبلك الصغير” بالأحياء الأُخرى المحيطة به. أذهب في اتجاه مار مخايل وأتأمل أشرطة الكهرباء التي تتشابك وتربط البنايات بعضها ببعض كأنها صورة للتشابك نفسه الذي يدور في رأسي.
أسير في اتجاه المقهى لكتابة نص في العدد التكريمي لـ “إلياس خوري”. أمشي وأفكر مَن هو “إلياس خوري”؟ هل هو الروائي أم الفدائي أم الصحافي أم المعلم أم الملهم أم الصديق أم “الفناص”؟ أمشي وأفكر أن إلياس خوري هو هؤلاء كلهم، لكني لا أشعر بأن هذا هو “إلياس” الذي أريد أن أخبّر الناس عنه. فكما تعرف يا إلياس هذا كان نقاشنا الفلسفي الذي امتد أعواماً عمّن هو إلياس خوري، ومَن هو إلياس من وجهة نظري!
وصلت إلى المقهى داخل بيت لبناني قديم، وجلست في زاوية بعيدة حيث تستلقي قطتان واحدة بيضاء وسوداء والأُخرى برتقالية. أتذكرك وأضحك، إذ كنا في كل مرة نمشي إلى المقهى أنشغل بكل قط على طرف الشارع، أو كلب يسير بصحبة عائلته. وأنت تقول: “لِك بيروت كلها بسينات وكلاب، إذا بدنا نضل هيك ما بنشرب قهوة لبكرا.” الكنبة التي أجلس عليها صفراء، فأتذكر كيف كانت تعابير وجهك عندما سألتك في إحدى المقابلات عن لونك المفضل وقلت: “هيدا سؤال للأطروحة أو لطقّ الحنك؟” أجبتك: “لطقّ الحنك”. ضحكتَ من قلبك وقلتَ: “الأصفر، وارجعي للأطروحة، وخلصنا طقّ حنك، ورانا شغل.” وأفكر أن هذا هو أنت. هذا هو إلياس بعيداً عن الألقاب كلها. إلياس المضحك، والمسلي، والقريب، واليومي، والبيروتي، والممتع. إلياس البسيط. إلياس العادي. أكتب كلمة “عادي” وأبتسم لأنني أسمع انتقادك لاستخدامي المتكرر لكلمة “عادي”، وتقول: “لك من وين طالعتيلي فيّا هي (عادي)؟ لك شو هالكلمة اللي بلا هوية؟ بحياتي ما سمعتها قد ما سمعتها منك. كل اللغة العربية ما لقيتي فيا غير ‘عادي’؟” لكن فعلاً يا إلياس، أجمل ما فيك أنك “عادي”. تشبه الناس العاديين من دون تكلّف، ومن دون شهرة، ومن دون زيف. تلبس مثل الناس العاديين، وتأكل مثلهم، وتضحك وتحزن وتفرح مثلهم. أنا متأكدة من أن اللغة تتسع لكثير من المعاني والكلمات الأكثر تعقيداً من كلمة “عادي”، لكن أنت مَن علمتني أن معنى الحياة يكمن في أشيائها ولحظاتها البسيطة اليومية.
أجلس على هذا الأصفر لأكتب، لكني أشعر بأني في لا مكان ولا زمان، كأن رأسي يموج في الفراغ. أعرف أنك الوحيد القادر على فهم معنى الوجود خارج المكان والزمان لأنني استعرت هذا التعبير منك حين أرسلتَ لي من باريس تقول: “شعور غريب بحسّ لمّا كون برّات بيروت، إني في لا مكان ولا زمان”، حينها فهمت تماماً ما قلتَ، لكني لا أدّعي أني شعرت بما كنت تشعر به. أمّا اليوم، فصرت أفهم وأشعر، كأن المعنى احتاج إلى هذا الزخم كله من الفقدان كي يختمر في رأسي. لكن في هذه اللحظة عليك أنتَ أن تفهمني وتشعر بما أشعر به فأنا عكسك. أنا الآن فعلاً في بيروت ولست في باريس، لكنني خارجها وخارج زمانها! أشعر كأنني أقف على هامش المدينة. أمامي بحر من الحزن وخلفي كثير من الكتابة، وأنا لا أريد الغرق في الحزن، ولا النظر إلى الخلف لأكتب، لأنك حفرت في رأسي أن “الكتابة والحب هشاشة وقوة بشكل عجيب”، وأنا لا أملك رفاهية الهشاشة. فأصنع خياراً ثالثاً تماماً كخيار أجدادي الفلسطينيين المهجرين: الخَرَس.
خَرَس مدوّ يا إلياس. معقد ومركب. خَرَس كامل وعجز عن التعبير بأشكاله كلها. لم نرث الأرض ولا حتى ظلالها، لكنا توارثنا خَرَس نكبتنا واحترفناه في الكلام والكتابة والحب، وحتى في نظرتنا إلى البحر. أهرب منك فأجدك حتى في خَرَس فلسطينيتي. لقد دخلتَ أنتَ صوت فلسطين وخَرَسها ونكبتها ومقاومتها. فكيف أكتبك وكيف لا أكتبك؟ كيف أحكي وكيف لا أحكي؟
لكن “سنكتبُ، لا شيء يثبت أني أُحبك غير الكتابة
أُعانق فيك الذين أحبوا ولم يُفصحوا بعد عن حُبِّهم
أُعانق فيك تفاصيل عمر توقَّفَ في لحظةٍ لا تشيخُ
سنكتب، لا شيء يثبتُ أنَّ الزمانَ طويلُ اللسانِ سوى الكلمات التي لا تَصُدُّ
سوى موتِ
صاحبها
فقُلها
وقُلْها
وخفِّفْ عن القلبِ بعضَ التلوّثِ والأسئلةْ
وقُلْها
سنكتب من غير قافيةٍ أو وطنْ
لأنَّ الكتابة تثبت أني أُحبكْ،
وأنَّ لأُمي حقاً بقلبكْ
وأنَّ يديك يدايَ، وقلبيَ قلبُكْ!”*
سأكتب لأنك أنت مَن علمتني الكتابة، ولأن على التلميذة أن تسير على نهج معلمها. أكتب لأنك أنتَ علمتني أننا فقط في الكتابة نقاوم الألم والفقدان وخيبات الزمان. أكتب وأستحضر تلك اللحظة التي وصلت بها إلى مطار بيروت البارحة وللمرة الأولى بعد انتقالك عن هذا العالم. ولم أشعر سوى بغضبي من نفسي لأنني لم أشعر بشيء. فبدأت محاولات لا تنتهي كي أشعر بأي شيء، لكنها باءت بالفشل كلها. ظننت أنني على الأقل سأنهار باكية عند وصولي إلى “مدينة الغرباء” التي خرجنا منها معاً في السابع عشر من أيلول كغرباء تحت أصوات الانفجارات والاغتيالات وجدران الصوت وصلوات الجمعة العظيمة. لم أبكِ. حتى دموعي خرجت عن سيطرتي بالكامل. تخيل يا إلياس، أنا التي كثيراً ما وصفتني بأنني “فرحانة بتبكي، وزعلانة بتبكي”، لم أستطع أن أبكي. كيف لا أبكي على الشخص الوحيد الذي يستحق بكائي؟ وكيف أبكي على أشياء تافهة أحياناً، وأعجز عن البكاء أمام حدث جلل كهذا؟ تذكرت كلماتك: “ما فيك تحطي شروط على الحياة”، هذه الجملة التي يكررها رفيق دربك ماهر جرار لي باستمرار أيضاً في كل مرة أعبّر فيها عن غضبي من الحياة. واستوعبت أخيراً أننا عاجزون حتى عن وضع الشروط على أنفسنا عندما تصل الأمور إلى أعماق أرواحنا. وأنت لست مجرد رفيق لهذه الروح، أنت تحت الروح. كثيراً ما سمعت ستي وهي تقول: “الطبع تحت الروح يمّة”، كناية عن صعوبة تغيير الإنسان لطباعه لأنها تستقر تحت الروح، ولا تتحرر إلّا بانتقالنا عن هذا العالم. عندها فقط وجدت الاستعارة الأنسب لوصف مكانتك عندي، فأنا بأمسّ الحاجة الآن إلى استعارة أختبىء خلفها من استعارات الحياة والموت.
أنت هناك، تحت روحي، فأتطبّع بطباعك حتى تلك التي لم تكن تعجبني وتستفزني أحياناً. وأراك في كل زاوية من زوايا بيروت، وفي جبل اللويبدة في عمّان، وفي مخيم إربد، وفي مقهى الكتب في لاهاي، وفي فلسطين التي لم أذهب إليها لكنك أنت مَن جئت بها إليّ في كل ما كتبتَ، فأصبحتْ جميع المدن مدنك، وتماهيتَ أنت وفلسطين فألغيتما الفارق، فما الأحبّة سوى أوطان ومساحات آمنة لأرواحنا المتعبة.
تحت الروح يعني أن أسترجع نبرة صوتك وكلماتك، وأحاول أن أقتدي بك وأسير على خطاك وأحفظ مبادئك وقيمك وأخلاقيات عملك وتعاملاتك، وأفهم كيف عليّ أن أفهم. تحت الروح يعني أن ألتقط المعنى ومعنى المعنى، وأن أجلس معك على فنجان قهوة لأسألك: “شو أعمل؟”، فترشدني إلى الطريق من دون أن تفرض عليّ فهم رؤيتك أو رأيك، فأمشي حرة وكما أنا، فهذه كانت نصيحتك الأولى لي في بيروت: “كوني حرة وكما أنت.” معك أمشي واثقة في اتجاه الحياة على الرغم من جميع مخاوفي وأسمعك تهمس: “نحن مَن نصوغ الحياة بالإصرار على قيمها.”
تحت الروح يعني أن أغمض عينيّ وأحاول استحضار وجهك عندما أنهي كتابة نص ما للجامعة، وأفعل مثلما كنت أفعل دوماً عندما تقرأ نصاً لي أمامي. إذ كنت أتظاهر بأنني منشغلة بشيء ما، بينما أسترق النظرات المتوترة خلسة وأنا ألاحق تعابير وجهك، وأحاول قراءتها وتفسير ما وراءها، ثم لا أستطيع الصبر وأسأل: “شو؟” ولا تجاوبني لأنك ببساطة تكره المقاطعة في الكتابة والقراءة. الآن صرت أفهم ما هي “العظمة على عظمة” في رأيك، وماهو “هيدا كله بلا عازة، اشطبيه”، والأهم أنني تعلمت كيف أقرأ صمتك وأسمعه.
تحت روحي أي ألّا تفارقني إلى أن تنتقل روحي من هذا العالم لنلتقي مجدداً.
لكن أين سنلتقي يا إلياس؟ أتوقع إجابتك التي تتراوح بين “نلتقي في القدس ونحن نغسل جدرانها العتيقة بعد التحرير بماء الورد كما فعل صلاح الدين الأيوبي”، أو “ونحن نأكل المقلوبة من تحت أيدي النساء الفلسطينيات”، تلك الرواية الشفهية التي كثيراً ما ذكرتها لي كهدف وحلم تسعى وتكتب وتحارب لتحقيقه. أم إننا سنلتقي في مدينتنا حيفا، ونقرأ “نجمة البحر” ونضحك كيف رحل الجميع حتى نحن وبقي الأدب؟ أم سنعود إلى مدينتنا بيروت، فنتمشى في أزقة “الجبل الصغير”، ثم تستدعي ذكريات طفولتك وأنت تردد أبيات أمين نخلة: “في الأشرفية يوم جئت وجئتها”، وينتصر الشعر حين “تتدور الكتابة وتتكسر”، مثلما كتبتَ في مقدمة ترجمة “مائة سوناتة حب لبابلوا نيرودا”.
لكن للحَجّة أغاثي التي تحبها وتضحك معها من القلب وتصفها بالممتلئة إيماناً وذكاء، في كنيسة سيدة الدخول في “الجبل الصغير”، رأياً آخر عن مكان اللقاء. الحَجّة أغاثي التي تسمع كل ما يختبىء وراء نار الشموع ونور الخشوع تظن بلا شك أنك في بيت لحم مع يسوع. وتقول: “لك هو بيحب فلسطين أكتر شي، لهيك هو أكيد هناك، اسمعي مني أنا بعرف.”
أمّا أندريه حارس دير مار إلياس – بطينا وكنيسته، الذي يسأل عنك في كل مرة يرى فيها وجهي قائلاً: “كيفو للّو؟ بالله عم تسلميلنا عليه؟” والذي يحفظ وجهك كما يحفظ كل قطرة زيت ترشح من أيقونة قديس النار العجائبية، فهو يظن أنك حتماً موجود في مخيم مار إلياس، حيث اعترف بأنه كان يراقب ترددك على المخيم على مدار عشرين عاماً من حراسته للدير.
كلام أندريه عن قناعته بوجودك في محيط المخيم يأخذني إلى لقاءاتنا الأولى حين عبّرت لك بصراحة أن فكرة معرفتك شخصياً خارج إطار اسمك على غلاف الرواية يثير القلق وحتى الخوف في داخلي. سألتني: “ليش بقى؟” أجبتك أنني أخاف من الخيبات التي تصنعها التوقعات الكبرى. فنحن نرسم لأدبائنا الفلسطينيين صوراً مثالية في أذهاننا، ونبني معهم علاقات خاصة جداً باعتبارهم حراساً لذاكرتنا الجمعية المنكوبة، فترانا نبني من كتبهم وطناً متخيلاً نخشى عليه من واقع قد يشوهه.
ما زلت أذكر كيف اختبأتْ عيناك خلف زجاج نظارات القراءة حين قلت: “يمكن معك حق. أنا ما فيي إحكي عن حالي. وعيب إحكي. بس إنتِ رح تكتشفي لحالك مع الوقت.”
وبعد أربعة أعوام من حديثنا هذا، وتحديداً في صيف انتقالك عن هذا العالم، كنت أتردد إلى مخيم مار إلياس، حيث كنت أعمل مع بعض النساء على التطريز الفلاحي الفلسطيني. وخلال جلستي الأولى مع مجموعة من المطرزات، وبينما كنت أعرّفهن عن نفسي، قلت إنني أدرس أدب إلياس خوري، فعلّقت كل النسوة دفعة واحدة: “إلياس خوري بنعرفو، هادا اللي دايماً كان يجي لهون يحكي معنا ومع أمهاتنا الله يرحمهن عن قصص التهجير.”
وبدأت الغرفة تموج بذكريات المطرزات وأمهاتهن معك. امرأة تشرح لي صدمتها عندما عرفت أنك لبناني مش فلسطيني، فقالت: “شو هادا الرجال! والله تقولي فلسطيني أكتر من الفلسطينية اللي عنا بالمخيم.” وأُخرى حدثتني كيف كنت تجتمع بالنساء لتسألهن عن فلسطين وحياتهن هناك وفي المخيم. وامرأة تخبرني عن تواضعك وحنانك وأنت تجلس على الحصيرة لتأكل معهن المجدرة، وكيف كنت تحب أن تشرب معهن الشاي، وكيف عرّفنك إلى نساء من صبرا وشاتيلا. امرأة تصف لي بانبهار كم أنت مستمع رائع وتقول: “والله كان يكيّف ع قعدتنا وخراريفنا.” وأُخرى تقول إنك كنت تحب مناقيش الزعتر وتتغزل دائماً بالزيت والزعتر الفلسطيني. وامرأة تقول: “هالزلمة مسيحي ومسلم بنفس الوقت. صح اسمو إلياس خوري، بس والله سمعتو مرة بيحكي شي من القرآن وهو قاعد عنا بأرض الدار.” أتى ذكرك عابراً فقط عندما كنتُ أُعرّف عن دراستي، ثم باشرنا العمل على التطريز لينتهي الأمر بي جالسة على الأرض نفسها التي جلستَ عليها قبلي، لكن ليس لأستمع إلى قصص فلسطين، بل إلى قصصك أنت.. وهل هناك فرق؟ لا أظن.
جلستُ في مكانك على أرض المخيم منبهرة من كمية الحب والإعجاب التي تتدفق من أرواح تلك النساء الفلسطينيات. سجلت الكلام كله في قلبي وعقلي وخرجت من المخيم مسرعة في اتجاهك لأنني أعرف أن لهذا الحب تحديداً وقع السحر على روحك. خرجت من المخيم على أصوات سلامات النساء اللاتي حمّلنني إياها إليك، وصلواتهن لك بالشفاء، وطلباتهن بأن تزورهن عندما تتحسن.
قلتَ لي إني سأكتشف مع الوقت، وها قد مرّ الوقت ولم تتغير نظرتي إليك كروائي وكحارس لذاكرتي الفلسطينية، بل ازددتُ اقتناعاً وتأثراً بك. قد تكون الخيبة هي التي تسللت من كل مكان حتى من الحياة نفسها، لكنك كنتَ أنت الثابت الوحيد في وعيي وفي ذاكرتي. كنتَ أنت يونس الفدائي الذي قرأته أول مرة في مراهقتي، وكنتَ أنت أيضاً نفسه إلياس خوري الفدائي والمثقف المشتبك الذي بدأتُ أتابع مقالته الأسبوعية في أول شبابي. كان نبلك هو ذاته، في الرواية والمقالة والبحث والمقهى والبيت والشارع والمخيم وحتى المستشفى. رجل عربي نبيل من سلالة امرىء القيس. روائي أصدق من الأدب، ووطن أجمل حتى ممّا رسمت في مخيلتي.
شكراً يا إلياس، يا معلمي القابع تحت روحي، لأنك علمتني كل شيء في هذه الحياة حتى الموت.
* محمود درويش، “هي أغنية، هي أغنية” (بيروت: دار الكلمة، 1986)، ص 95 – 98.
السيرة الشخصية:
بانة عبد الله ماضي: طالبة دكتوراه، وتلميذة إلياس خوري ومساعدته الأكاديمية.
عن مجلة الدراسات الفلسطينية – العدد 142 – ربيع 2025