كروكي بيت
ليلة أمس، صحيت مفزوعاً في ساعةٍ متأخرة (إيش هالكابوس الملعون، ما بكفيني كوابيس النهار) حتى أن هذا الكابوس لا يشبه الكوابيس التي رافقتني في السنوات الأخيرة، لقد أرعبني فعلاً، حاولت أن أتذكر تفاصيل الكابوس في ذهني عدة مرات، صورة واحدة ثابتة لا تتحرك ولم تفارقني كأنه مشهد من فيلم رعب صنعه أحد مخرجي هوليود.
في المشهد يجلس ولدِي وابنتاي يحدق بي ثلاثتهم وأعينهم مليئة بالعتب، مهلاً، هذا ليس عتباً إنه أكثر من ذلك بكثير، إنه لومٌ أكثر منه عتباً، يجلسون إلى كنبة وأجلس أنا صامتاً مقابلهم تماماً كأني على كرسي تحقيق في مركزٍ أمني ولا أقوى على الحركة، أحاول أن أحرك مفاصلي فيخذلني حتى أصغرُ أصابعي، ثم أستيقظ بصعوبة مع شَهقةٍ كبيرة وكأني كنت أختنق.
لم أقدر على النوم ثانية، (ساويت غلاية قهوة) وأخذت أستحضر ذنوبي التي اقترفتها بحقهم، وأخرجها من صدري خطيئةً تلو أخرى مع دخان سجائري، نعم أنا مذنب، صرخت، أو بالعربي الفصيح (آي آم غيلتي) زي ما بحكو بالأفلام الأمريكية أمام القاضي، طبعاً أكيد أنا غلطان من (راسي لساسي).
أقل ذنب عندي إني مُقَّصِر، أما ذنبي الأكبر هو أني تجرأت عن سابق إصرار وتعمد أنا اللاجئ المعتر، ابن اللاجئ وحفيد آخر أن أضيف لاجئين آخرين إلى هذا الكوكب، تضاف أسماؤهم على بطاقة الأنروا، وبين هذا وذاك ذنوبٌ أخرى، ولكني لن أعترف لهم بذلك مباشرة، وها أنا ذا أجهر بذلك على الورق، أنا الذي توقفت عن الكتابة منذ دهر، بَل حتى الآن عندما قررت أنْ أكتب، لَم أجِد في هذه الليلةِ اللعينة الوَرق المناسب، (أخذت قراري وخلصنا) سأبوح بسِري على ورق رسم الكروكي الذي أستعمله عادةً في عمل السكيتشات، أستخدمه لأرسم أمنيات الأخرين وأحلامهم حتى يرضوا، كان ذلك قبل أن أدرك لاحقاً معنى أن “إرضاء الناس غاية لا تدرك”.
فمع تقدمي بالعمر أصبحت انتقائياً جداً في قبول مَع مَنْ أعمَل، (يعني إذا ما ركب مخي على مخو بالناقص منو ومن شغلو) أصبحت عصبيّ المِزاج بَعدما كُنت أوصف بطبعي الهادئ طويلاً، نعم أصبح عندي شروط صارمة أولاً قبل بأن أقبل أن أضيع وقتي وذهني مع فلان وعلان، قد يبدو للبعض هذا غروراً، صدقوني ليس كذلك، بل هو تعب قديم جداً ممزوج بالتجربة التي اكتسبتها مِنَ التعامل مع طبائع البشر، تَراكم هذا التعب يوماً بعد يوم وتجربة بعد أخرى دون أن أشعر، فقد اعتدت لوقت طويل على قبول أي شيء، تماماً كما فعل جيم كيري في فيلم (يس مان) حتى أني كنت أعتبرُ هذا القبول تحدياً لنفسي أولاً، ونَسيت أنَّ الرفض أحياناً قوة.
امتهنتُ لوقتٍ طويل ترجمة أحلام الآخرينْ إلى خربشات ثم مخططات هندسية قابلة للتنفيذ أحياناً، وفي أثناء ذلك كدت أنسى حلمي الشخصي، كان هذا عندما كنت يافعاً، انتهيت من ذلك منذ زمن بعيد وأصبحتُ أفرضُ شُروطي مسبقاً، شَرطي الوحيد لكي أبدأ العمل هو أن تسلمني نفسكَ تماماً وتنصت كما يُنصِتُ مريض لطبيب يصف له الحال ويقترح العلاج، لك أن تقبل رأيي أو تستشير آخر لتحصل على رأي ثاني، لكن ما أنْ تبدأ العملية عليكَ أن تصمت تماماً كأنك تحت التخدير وأن تنتظر النتيجة بعدما تصحو من البنج.
أما عن حُلمي الذي كِدتُ أنساه، فهو خطيئة أخرى اقترفتها وأرفقها إلى لائحةِ ذنوبي، هو ذلك الوعد الذي قَطعته رسماً إلى تلك اللاجئة التعيسة التي قبلت بي زوجاً بعد حبٍ و وعدٍ نكثت به حتى الآن، كنت قد رسمت لها بيتاً على ورق الكروكي ذاته (حكيتلها أيامها هاد حيصير بيتنا) لم يكن قصراً بل مجرد بيت متوسط الحجم اعتنيت بتفاصيله (يعني اشتغلتو من قلب ورب) كنت أترقب بسذاجة العاشق وعفويته، ردَّها، فقد كانت زبونتي الأولى حينها وأنا كنت طالب العلم وطالب القرب، مرّ أكثر من عَقدين على ذلك، ولا أنسى فرحتها، كنت دائماً قادراً على انتزاع ضحكتها مع أني أعي تماماً بأني لَم أمنحها السَعادة التي أرجو، مع مرور الزمن نَسِيتُ أنا ذاك الوعد أو تناسيته متعمداً، ونَسِيتْه هي أو تناسته، (بس ما بخبي عليكم) من حِين إلى حِين أستحضر الحلم وأضيف عليه تفصيل جديد وأمسح آخر.
لكن يبدو أن لعبة الوعد تلك أعجبتني (والحكي ببلاش) فقد احترفت إطلاق الوعود وأنا العاجز عن الوفاء، مرتكباً جريمةً أخرى أدرجها ضمن اعترافاتي، نعم، فقد مارستُ الحيلة ذاتها مع أولادي أيضاً، وأصبحت أفضل من يعمل من (البحر طحينة) كل شي بكرا وبعدين، وبكرا هذا لا يأتي أبداً، أعِدُهم بالحَلَقْ فيخرموا آذانهم استعداداً لوفائي بالعهد الذي لا يُوفى، وكلما كبروا أدركوا حيلتي أكثر وتعايشوا معها، رغم أني أسمعهم يتهامسون أحياناً ويتندَّرون حولها.
أمّا وقد اعترفت دونَ أنْ أطهر نفسي بما يكفي من إقرارٍ بالذنب، فإليكم مذكرة دفاعي، نحن المهجَّرين قسراً نتنقل مِنْ شتات إلى آخر، لا نَملك إلّا أن نَحلُم، كبر الحُلمُ أو صَغِر، لَم نجد بَعد مكاناً نَأمن فِيه على أحْلامِنا، نخبئها كما لو كانت كنزاً ونخشى عليها أن تُسرق، كان دوماً مُغتربين آخرين حولنا، مُغتربين قسراً أحياناً أو باختيارهم، لكن مع فرق أساسي بيننا وبينهم، يُضافُ إلى الفَرق بالتسمية، فهم مُغتَربين ونحن مُهجَّرين، وهو أن هناك بالآخر مكانٌ يُمكن أن يعودوا إليه ويحاولوا أنْ يجنوا فيه ثمرة تعبهم وغربتهم، وطناً يبنون عليه آمالهم، أما نحن المهجَّرين قَسراً، فـ ملعونون بلعنةِ خَلق بِدايات جَديدة مِنَ الصفر دوماً في مكان لم نكن نتوقعه، وكأننا نَموت لنبعث من جديد في مرحلةٍ أخرى كما في لعبةٍ من ألعاب (البلاي ستيشن)، علينا في كل مرة أنْ نتأقلم مع قوانينَ جديدة، وأن نلبسَ ثقافةً جديدة، ونُلزمَ أنفسنا بأنْ لا ننسى منْ نحن في الحقيقة ونعلل ذلك بالحنين، حاملين حقائب من ذاكرة، فيها قصاصات من الحكايات بالأبيض والأسود، ومعها صورٌ ملونة بالشقاء، علينا أنْ نعيد ترتيبَ حَياتنا كلّ حِين في هذا الشتات أو ذاك، ثم علينا أنْ نَبتَدع طُرقاً جَديدة لنَستمر في الحُلم، أمّا التحدي الأصعب كان بأنَّ علينا أنْ نَمحو ذِكرياتِنا المؤقتة الأخيرة، ونَستبدلها بِأخرى سَنمْحيها بعدّ حِين.
أمّا الآنّ وقد بُحت بِما بُحت، فأتمنى ألّا يقرأ أولادي وثيقة الاعتراف هَذه، ولا المبررات الواهية التي سقتها في دفاعي عن نفسي، فإن حَدث ووقَعَتْ هذه الكلمات التائهة تحتَ بَصَرِهم، فإني سأخاطبهم مباشرة وأقول: إن المحكمة الوحيدة التي أقبل الوقوف أمامها خاضعاً هي أنتم، ومهما كان حكمكم عليّ جائراً، سأقبله عن طيب خاطر مُقراً بذنبي، ولكني ألتمِسُ مِنكم أنْ يكون حكماً مع وقفِ التنفيذ، وأقسمُ لكمْ يا أغلى ما أملك أني حاولت وقد أكون لازلت أحاول، لَكنْ عَليكم أن تَعِدوني وَعداً لا يُشبه وُعودي الكاذبة، عِدوني بألاّ تتوقفوا عن الحُلم، وأنْ لا تسمحوا لأحد بأنْ يسرقه.