يختفي ثقل الليالي الجاثمة على الأنفس المشتاقة لحظة اللقاء، فكل ما كان متراكماً قبل شهر يتبخر الآن أمام طلته المعهودة بشموخها وبهائها، وابتسامته الساحرة.

بتٌّ أحرص في كل زيارة على الجلوس في الجهة الملاصقة لغرفة انتظار الأحرار إلى نافذة الحياة، لعلّي أتمكن من تسجيل انتصار جديد أضيفه إلى سجل انتصاراتي على قوانين الغربان السود. يمرّ الوقت بطيئاً أكثر من أي يوم سابق، لوهلة صغيرة حسبتُ أن معركتي مع الحظ اليوم خاسرة، لكن ذلك لم يحدث فقد كان لنا موعد مع الأقدار السعيدة على الرغم من الحزن المخيم على المكان.

أشارت بيدها من خلف الزجاج فانخطف قلبي، ها هي سيدة المكان وكان أن طلب السجان أن ننتقل من مكاننا، فشعرتُ بالارتياح حتى فاجأتنا سماعة الزيارة بتوقفها المفاجئ، فأدركتُ أنه جاء الفرج فقلتُ في نفسي هذا كرم الله، طلب مني السجان العودة إلى غرفة الانتظار وترك الزيارة. أكدتُ عليه أن يحتسب الوقت الضائع كي يعوّضه بالثانية فاستجاب. هو لا يعلم ماذا يدور في خاطري، وعندما فتح باب غرفة الزيارة كان عبيرها يخترق كل الحواجز، كانت تنظر إلي في حالة من الصدمة.

نهضتُ عن مقعد الزيارة متوجهة إلى أقرب مكان يقربني منه، إذ كنتُ سأكتفي بأن تتشارك أنفاسنا ذات الهواء لكنها الأقدار بمفاجآتها، فأنا أقف الآن أمام انتصاري الأكيد أحلّق معه بلا قيد أو زجاج، ها هو حلمي الأجمل أنظر إليه على بعد خطوات قليلة من دون زجاج، ولم يفصلها سوى حارس غريب جاء من أقصى بقاع الأرض ليمارس الرضى عن نفسه بسرقة أحلامنا كما سرقة أرضنا. تطير بي الأرض فلا أجد سوى الغيوم لأحملها بالدعوات لتسافر فيها نحو السماء، فأنا أوقن الآن أن لا شيء يقرع أبوابها سوى رجائي بأن يمنَّ علينا الكريم بعظيم فضله. أدعوه بقلب قد أَكلَمَهُ الحرمان وأضناه الاشتياق بأن يكون هذا الكرم هو رسالة لفيضِ نِعَمٍ آتٍ لا محالة وقت غيثه عند تبخر هذا المكان.

تم إصلاح الخلل وعدنا إلى المكان ذاته فوجدتها عصفورة تحلّق في الساحات، فأدركت حينها أن ما تم هو من المعجزات، وقالت لي: مكثتُ طوال فترة الانتظار أدعو الله وها هو يكرمني برؤيتك هكذا حياً من دون حواجز أو جدران أو زجاج. شعرت بأعصابي تتراقص حتى ظننت أنني أفقد توازني، كانت لحظة من حلم عشناه، وبعدها تحول اللقاء إلى حديث أقرب إلى الهذيان، فحاولت السيطرة على الوقت كي لا يتسرب هكذا بلا حساب.

ليس الوقت وحده من تسرب، فقد تسربت أيضاً روحي نحوه حيث يلتقط أنفاسه حارسة إياه، وتسرب أيضاً شعور الانتصار مع دخوله مجدداً قاعة الزيارة فلمحت بريقاً في عينيه. أخبرته بأنه على الرغم من الزجاج فإنني أشعر بذوبانه، وبأنك الآن أقرب إليَّ من أي وقت كان. لمحتُ في صورته أمامي مشاعر ومشاهد معتقة ومخلدة منذ ملايين الأعوام، فعلى الرغم من شعور الألفة الذي ما خانني منذ يومي الأول معه، فإنه يبدو واضحاً متجلياً الآن بأبهى صوره أمامي.   

اليوم هو يوم الزيارة الحادية عشرة، واليوم هو يوم تأكيد الانتصار وصحة الاختيار، فمنذ الصباح الباكر وأنا أدعو الله أن يحرس المنار، ويحفظ المنار، ويسهّل دربها، فالطريق طويل، ومشقات الأهالي في الزيارة لا تُحصى. وفي كل مرة أسألها تصر على الإجابة ذاتها: “أصلا أنا بكونش بالطريق، بكونش بعقلي فما بحس بتعب أو شيء”.

في الطريق الطويلة إلى عالمنا هذا أعكف على إطلاق العنان لخيالي، أُحيك بعقلي الأفكار لأعظم ما أتمناه هذا اليوم بعد رؤية أسامة، كيف يمكن لي أن أحظى ولو بثوانٍ معدودة أُخرى تكون زيادة على الوقت المخصص للزيارة والذي ينتهي كأنه طيف حلم سريع ما لبث أن حلَّ حتى انتهى، أو كيف يمكن أن أجعل الحظ يبتسم لي مرة أُخرى فأسمع أحد الحراس ينادي عليّ باسم أسامة للزيارة في غرفة المحامين بعد ملء قاعة الزيارة في الدفعة الأخيرة من الأهالي، فلم يعد لنا مكان للجلوس فيها، وهي بالنسبة إلينا بمثابة زيارة خاصة ربما هناك أسرى أمضوا سنوات طوال لم يحظوا بها ولو لمرة.  

انتهت زيارة الأهل، وبحسب اتفاقي مع الضابط المسؤول عن الزيارات بقي للمنار في ذمتي عشر دقائق، وهكذا كان أن جلسنا مرة أُخرى في عالم آخر ومشاعر أُخرى، وشعرنا بنوع ما من الخصوصية، ولولا عيون وآذان اللصوص الخمسة المعكّرة للمكان، لما كان للسجن في لحظاتنا الجميلة أي وجود. تعانقت روحانا كما لو أنها تؤكد حقيقة ومكانة الارتباط المقدس الذي دفن سنوات السجن في أعماق التراب فتحول هذا الوحش المسمى “أسوار وجدران وأسلاك شائكة” إلى كيان هلامي اندثر مع أولى الابتسامات وأولى الإشارات المؤكدة للرضى والسعادة الغامرة بصحة المسار. كانت الدقائق العشر أشبه بسبع رحلات حول الأرض، حلّقنا عالياً، وتطايرت أنفاسنا مخترقة كل المسافات، فانهار ما كنا نظن في لحظة أنه معوقات، وازددنا إصراراً بعد إصرار على كتابة التاريخ سوياً من أول السطر الى آخره.

نظرت خلف المنار وإذ بعشر عيون تراقب قلبينا وأيادينا المتشابكة من خلف الزجاج العازل، يعدّون علينا أنفاسنا. هم لا يعلمون حجم الاتصال وسعادة اللقاء، وهم لم يقدّروا قداسة اللحظة، لقد أرادوا اختطاف قلبينا بتواجدهم الفظّ وعدّ الأنفاس علينا، فاستحالت اللحظة إلى هالة من الخشوع على الرغم من تطفلهم وسماجة زفراتهم اللاإنسانية.

قلبان يتخاطبان في لحظة حنين لم ينجُوَا من نظرات الاستهجان، قلبان يتهامسان في حضرة الغازي لسيادة الوطن والتراب وأنفاس العشاق، قلبان يتغازلان على الرغم من الساعة والوقت المترنّح وآلات التفتيش وخشونة الأصفاد، قلبان يطاردان الحلم في البساتين وبين شلالات الحياة وسط الصحراء وبين أنياب الأفاعي.

سألت المنار كم حارساً يطارد قلبينا، فأجابت خمسة، فقلت لها هل استطاعوا اعتقال نبضة واحدة حتى الآن؟ فأشارت برأسها وعيناها تغزوهما الدمعات: كيف ذلك وأنت ابن قلبي وأنا مخلوقة منك؟ كيف ذلك وأنفاسي لا تختار استقراراً لها إلاّ بين عظامك؟ كيف ذلك وأنت الحارس والمحروس والساكن والمسكون وأنت الباقي أبداً وإن عادت الشمس تشرق من الغرب وإن استحال البحر إلى رماد؟

لم أستطع إيقاف موجات الهذيان التي علا هديرها بين الجدران ووسط تأفف الغربان السود التي كانت تزداد مرة بعد أُخرى، فكيف يحكمهم الوقت ليتسرَّب من سطوتهم؟ كيف يروضون الوحوش في داخلهم التي ما اعتادت على السماح بإدخال بعض ألوان الحياة بين هذه الجدران والمقاعد الرمادية، والتي تحولت الى ربيعٍ أخضر يعجّ بالفراشات؟ كيف لهذه العتمة أن تتبدد وسط كل هذه الأنوار التي سنحملها في قلبينا ونمضي منتظرين يوم اللقاء الأقرب اليوم من أي وقت كان، فزمن المعجزات باق بقاء هذا الربيع بشذى عطره الذي لم يخترقه صفار الخريف وقساوة الشتاء.

– سؤال قبل المغادرة هل انتصرنا؟

– وماذا تسمي هذا الفرح وهذا الجنون؟ ماذا تسمي كل هذه السعادة على الرغم من فظاظة هذا الحضور من حولنا؟

وقفنا وتقابلنا وسرنا خطوة بخطوة على جانبي الزجاج العازل والغربان تلاحقنا ونظرات الاستهجان تطوقهم، إذ كيف لكل هذا الحب أن ينمو بين هذه القضبان القاتلة.

استودعتها المولى وخرجنا وبقي لقلبينا مساحتهما الخاصة لليلة أُخرى من الحلم بحتمية اللقاء والاستعداد له وإلى ذلك الحين لكِ كل الوفاء.  

* قصة منار وأسامة مدونة في رواية “للسجن مذاق آخر” التي تنطق باسميهما وقلبيهما.

عن المؤلف: 

منار خلاوي الأشقر: بيت لحم، إعلامية وزوجة الأسير أسامة الأشقر.
أسامة الأشقر: أسير من قرية صيدا شمال طولكرم، من قيادات الحركة الأسيرة حكمته دولة الاحتلال بالسجن ثمانية مؤبدات وخمسين عاماً.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

* قصة منار وأسامة مدونة في رواية “للسجن مذاق آخر” التي تنطق باسميهما وقلبيهما.

عن المؤلف: 

منار خلاوي الأشقر: بيت لحم، إعلامية وزوجة الأسير أسامة الأشقر.
أسامة الأشقر: أسير من قرية صيدا شمال طولكرم، من قيادات الحركة الأسيرة حكمته دولة الاحتلال بالسجن ثمانية مؤبدات وخمسين عاماً.

(اللوحة للفنان اسماعيل شموط)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *