قطار اللجوء
لأن اللجوء أصبح سمة تلازمنا ، أود أن أسرد قصة لجوء طريفة ومحزنة في آن . في عام 1948 هاجر أهلي وغيرهم من فلسطينيي شمال فلسطين باتجاه جنوب لبنان ، وهناك ونتيجة لاكتظاظ المنطقة باللاجئين ، فكرت لبنان باعادة توزيعهم ، فخيرت من يود منهم ان يلجأ الى سوريا ، مع وعدهم بتأمينهم إلى ملجأهم الجديد في القطار البخاري ذو الصافرة الحادة المميزة . اختار اهلي و كثرة من اللاجئين ( المعترين ) والذين لا حول لهم ولا قوة ، اللجوء إلى مدينة حلب في شمال سوريا والتي تبعد عن دمشق 360 كم . انطلق القطار المتهالك والقديم بعرباته ( فركوناته كما كانوا يطلقون عليها ) التي لا تعد ولا تحصى ، فقد زادوا عدد العربات ليتخلصوا من أكبر عدد من اللاجئين ، وسار قطارنا (العصملي ) يتهادى ببطء السلحفاة متثاقلا بحمله من اللاجئين ، يزيدهم وزنا ما يحملونه من هموم ومآسي لا تعد ولا تحصى ، و لا تتحمل الجبال أثقالها ، ووصل القطار العتيق الى محطة القطارات في غرب مدينة حماه. نزل السائق الذي عانى طوال الرحلة من الحمولة الزائدة لقطارة غاضبا ومحتجا بأنه لا يستطيع مواصلة السير باتجاه حلب ، وطلب من ناظر المحطة ومسؤوليها انزال عدد من اللاجئين لتخفيف الضغط على القطار . قام ناظر المحطة ومسؤوليها بالتفاوض مع ركاب آخر عربتين للنزول في حماه وعدم المتابعة الى حلب ليجابه بالرفض القاطع من ركاب العربتين الغاضبين ( والمشحرين ) .
أوهم ناظر المحطة هؤلاء بأن المشكلة حلت وسيسير القطار مستأنفا رحلته ، لكنه في الحقيقة أعطى تعليماته سرا ( للمفتاحيين : الذين يبدلون الخطوط ويفصلون العربات ) بفصل آخر عربتين ، وأعطى أوامره للقطار بالتحرك بسرعة . صفر القطار معلنا استئناف الرحلة واستبشر ركاب العربتين شاعرين بالنصر ، لكنهم استغربوا ان صوت الصفير كان يبتعد عنهم شيئا فشيئا ، فأدركوا أن أمرا ما قد حدث لا سيما أنهم شعروا بهدوء غير عادي في عرباتهم ، و نظروا من النوافذ ليروا القطار يسير بعيدا وهو يعبر منعطفا بعد المحطة ، وبدا لهم كقطار ألعاب يتهادى من بعيد ،مبددا آمالهم بالوصول لمقصدهم ، شعروا والقطار يصفر ، بأن أنفاسهم تصفر أيضا مطلقة آهات الغربة (التغريبة الأولى ) …. الله يسامحك أيها القطار فقد تحكمت بمصائر أجيال وأجيال من الناس سكنوا واستقروا فيما بعد في مخيم العائدين بحماه.
لكن كلمة حق تقال ، من حظنا أننا سكنا حماة واستقرينا بها ، حماة المدينة الجميلة والساحرة بعاصيها ، و أوابدها ، وتاريخها ، وشهامة وكرم أهلها . حماة التي حضنتنا فكانت ملعبنا ، و مربانا ، و تطورنا ، ونشأتنا ، وتعلمنا . وقد ساهمنا نحن أيضا بتنميتها وتطورها في كافة المجالات . وتصاهرنا مع أهلها . و لم نشعر يوما إلا أنها وطننا ، ومحطتنا بانتظار قطار العودة الى فلسطين ، كل فلسطين .
أعشقك حماة فقد كنت ، وما زلت ملهمتي ….