قضية فلسطين في أذربيجان – مأساة اللجوء والاقتلاع
أثار مقالي الأخير حول تحرير إقليم كاراباخ العديد من التعليقات، بعضها نشر في الصحيفة وبعضها وصلني مباشرة، حول علاقة أذربيجان بإسرائيل وتلقيها المساعدات من الكيان الصهيوني. وقد أعرب بعض القراء عن معارضتهم المطلقة لموقف أذربيجان بسبب تلقيها الدعم الإسرائيلي، واعتبروا أن موقف إيران بدعم أرمينيا كان الأصوب والأسلم. وبعض هؤلاء المعلقين لا يعرفون أن العلاقات بين إيران وأذربيجان تكاد تكون الآن طبيعية، فهناك سفارة لإيران في باكو وقنصلية في ناخشيفان، وهناك سفارة لأذربيجان في طهران وقنصلية في تبريز. وتوتر العلاقات بين البلدين لم يكن أساسه التعاون مع إسرائيل، فإيران لها علاقات عديدة وقوية مع دول تعتبر نفسها حليفة لإسرائيل وأقربها دولة الإمارات، لكن جوهر الخلافات يعود لوجود أكثر من 20 مليون أذربيجاني في إيران يشكلون العرق الأكبر في البلاد، الذين ضموا عنوة إلى إيران في منتصف القرن التاسع عشر بعد الحرب الروسية الفارسية، ومشاعر هؤلاء قد تكون أقرب إلى موطنهم الأصلي، وأي استقرار وتطور وازدهار لأذربيجان قد يؤدي إلى مزيد من الحرقة والشوق للوطن الأصلي، حتى سوريا التي أعلنت وقوفها مع أرمينيا في حرب 2020 كانت على علاقات مميزة مع أذربيجان، خاصة إثر زيارة الرئيس بشار الأسد لباكو عام 2009، التي نتج عنها توقيع 14 اتفاقية ومعاهدة ولم نسمع أنه أثار مسألة التعاون العسكري بين أذربيجان وإسرائيل.
وأود في هذا المقال أن أعود لوضع القضية الفلسطينية في أذربيجان، وتطور العلاقة بين الشعبين وأسباب غياب الرواية الفلسطينية في البلاد لمدة طويلة، لقد حاولت أثناء زيارتي لأذربيجان مع وفد صحافي من الأمم المتحدة، أن أثير قضية فلسطين في كل اللقاءات بلا استثناء، ثم توجهت في اليوم الأخير لمقر السفارة الفلسطينية للقاء السفير النشيط والمؤهل والقدير ناصر عبد الكريم، لاستكمال الصورة عن وضع القضية الفلسطينية ومدى التأييد والتفهم لمعاناة الشعب الفلسطيني لدى الشعب الأذربيجاني الذي يعرف عن قرب معنى الاقتلاع والتشرد واللجوء والمجازر.
لقد عمل اللوبي المؤيد لإسرائيل على تغييب القضية الفلسطينية وتشويهها، وإخراج التصريحات الفلسطينية عن سياقها بهدف توسيع الهوة مع الشعب الأذربيجاني
الغياب العربي والحضور الإسرائيلي
نتج عن تفكك الاتحاد السوفييتي عامي 1990-1991 قيام 15 دولة مستقلة في معظمها كانت متخلفة عن العصر تدار من موسكو بوسائل بدائية، من بين تلك الدول خمس ذات ثقافة تركية من بينها أذربيجان، التي كانت تنتج النفط الذي يستغله الاتحاد السوفييتي، كانت البلاد شأنها شأن بقية الجمهوريات تفتش عن هويتها الجديدة وتتلمس طريقها نحو المستقبل، وتحاول أن تلملم حدودها وشعبها وأقلياتها المبعثرة لتقيم دولة وطنية على أنقاض الهوية البلشفية السابقة. ملايين من البشر هاجروا من دول الاتحاد السوفييتي سابقا، خاصة اليهود أو من أدعوا أنهم يهود. هاجر من أذربيجان نحو 80 ألف يهودي وبقي فيها نحو 20 ألفا. من خلال هذه الجاليات تسربت إسرائيل وعرضت خدماتها على هذه الدول في ثلاثة ميادين أساسية: الزراعة الحديثة والبنى التحتية، كخطوط الهاتف والكهرباء والطرق والموانئ، ثم الصناعات العسكرية والأمنية المتطورة. وهو ما سجل اختراقا مبكرا لهذه الدول في غياب الحضور العربي الشامل الذي كان مشغولا بحروبه ونزاعاته العديدة مثل احتلال الكويت والانتفاضة الفلسطينية وعودة المتطرفين من أفغانستان وإشعال النزاعات الداخلية كالجزائر. كانت إسرائيل من أوائل الدول التي اعترفت بالدول الجديدة ومن أوائل الدول التي فتحت سفارة لها في باكو يوم 29 أغسطس 1993 حتى قبل أن تنتهي الحرب الأولى مع أرمينيا. لم تفتح سفارة عربية في أذربيجان إلا في وقت متأخر فمثلا السعودية، وهي من أكثر الدول الداعمة لأذربيجان، ومن أوائل من استقبل الرئيس حيدر علييف عام 1994 إلا أن افتتاح سفارتها تأخر لعام 1999، الجزائر مثلا لم تفتح سفارة لها في باكو إلا قبل شهرين. فلسطين افتتحت سفارتها عام 2011 بحضور الرئيس محمود عباس، وعين السفير ناصر عبد الكريم بمفرده في السفارة لمدة 11 سنة إلى أن أضيفت له الدبلوماسية الشابة ميار رنتيسي، قبل ثلاثة أسابيع.
تعرضت أذربيجان لحرب شاملة (1989- 1994) من أرمينيا أدت إلى احتلال إقليم كاراباخ الذي يمثل خمس البلاد (بحجم لبنان) إضافة إلى سبعة مواقع خارج الإقليم، ومارست الدولة الغازية عملية تطهير عرقي لأكثر من مليون مهجّر من إقليم كاراباخ وأكثر من 400000 من أرمينيا نفسها. كما هدمت المدن والقرى بشكل شامل، ثم زرعت المنطقة بالألغام التي زادت عن المليون لغم، واستمر الاحتلال 30 سنة كاملة. هكذا كان المسؤولون يشرحون أوضاع بلدهم. لم يجدوا من يمد لهم يد العون إلا تركيا وإسرائيل، ليس في زمن الحرب فحسب، بل في مرحلة الاستعداد والتدريب والتسليح وإعداد الجيش للتحرير. كل مسؤول كان يؤكد للوفد الصحافي «بلادنا محتلة وهدفنا الاستراتيجي تحريرها بكل الوسائل. من يقدم لنا المساعدة نتقبلها من دون تردد، خاصة إذا كانت دول مثل روسيا وإيران وفرنسا تدعم خصومنا». اللوبي الأرميني في سوريا ولبنان وفرنسا والولايات المتحدة قوي جدا، استطاع أن يشوه صورة أذربيجان في كل هذه الدول، وكأن أرمينيا هي الضحية وأذربيجان هي المعتدية، واستطاع هذا اللوبي القوي أن يؤثر في الموقف الأمريكي ويجمده ضمن مجموعة منسك (روسيا وفرنسا والولايات المتحدة).
الموقف من فلسطين
فلسطين كانت غائبة عن أذربيجان بل العرب عامة، الوجود الفاعل كان للجالية اليهودية في أذربيجان واليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل. هؤلاء شكلوا جسرا بين الكيان الإسرائيلي وأذربيجان. لقد عمل اللوبي المؤيد لإسرائيل على تغييب القضية الفلسطينية وتشويهها، وإخراج التصريحات الفلسطينية عن سياقها بهدف توسيع الهوة مع الشعب الأذربيجاني، فمثلا انتشر فيديو في هذه البلاد، كما شرح لي السفير الفلسطيني، يظهر الرئيس ياسر عرفات وهو يحضن ويقبل رأس ووجه المطران المناضل الكبير هيلاريون كبوتشي بعد خروجه من السجن مباشرة، لقد تم تعميم الشريط على أن عرفات يقبل مطران الأرمن وهو ما يثير الحنق لدى الشارع الأذربيجاني. وفي مناسبة أخرى كان ياسر عرفات يحضر مناسبة دينية في إحدى الكنائس الأرمينية في فلسطين وكان يهنئ الحضور ويقول لهم إنه يشعر بأنه أرميني هذه الليلة، تؤخذ العبارة من سياقها ويتم تعميم جملة «أنا أرميني» وتفسر على أنه موقف رسمي من الفلسطينيين مع أرمينيا ثم يثار السؤال بعدها: «كيف لمن أرضه محتلة يمكنه أن يؤيد احتلال أراضي دولة أخرى؟» علما أن الموقف الرسمي الفلسطيني ظل مؤيدا لأذربيجان وحقها في تحرير أرضها، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تدعو أرمينيا إلى الانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة فورا، من دون قيد أو شرط والاعتراف بسيادة أذربيجان وسلامة أراضيها، وقد تكرر هذا الموقف في كل مناسبة بما في ذلك حرب 2020.
ظل الموقف الرسمي لأذربيجان في دعم القضية الفلسطينية ثابتا، فقد اعترفت بدولة فلسطين وصوتت مع القرارات كافة المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وحقه في السلام والاستقرار والتنمية. ودعا الرئيس إلهام علييف لعقد جلسة لمنظمة التعاون الإسلامي حول القدس، بعد اعتراف الرئيس الأمريكي بها عاصمة موحدة لإسرائيل، وألقى في اللقاء كلمة قوية بينما غاب الرؤساء والملوك العرب عن الجلسة. رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب صمد سيـّدوف، قال ردا على سؤالي: «كم سفارة عربية موجودة في تل أبيب؟ نحن لم نفتح سفارة لغاية الآن رغم الضغوط التي تمارس، لأن موقفنا مستقل حقيقة. نعم لنا علاقات مع إسرائيل، لكن لنا علاقات مع فلسطين. نقدم لهم المساعدات ونعترف بدولة فلسطين ونصوت لصالح القرارات التي تدعم الموقف الفلسطيني، وننسق مواقفنا مع حركة عدم الانحياز التي ترأسها أذربيجان حاليا ومنظمة التعاون الإسلامي». لقد بدأ التأييد الشعبي يتسع في أذربيجان، وأقيمت بعض المظاهرات في باكو احتجاجا على الهجومات الإسرائيلية على غزة. للأسف لا توجد جالية فلسطينية تقوم بمهمة التوعية ونشر الأخبار والفيديوهات حول الجرائم الإسرائيلية، لكن كما قال لي السفير، الإنسان العادي مع شعبنا فقد جربوا التشرد واللجوء والاقتلاع ولا يمكن إلا أن يتعاطفوا مع من يعيش تجربة مماثلة مثل شعبنا.
في مدينة شوشة المدمرة في إقليم كاراباخ التقيت بسيدتين مسنتين جاءتا للاطلاع على بيوتهن المدمرة، وقفنا معهما وراحتا تسردان علينا المآسي التي عاشتاها وعائلاتهما حيث بلغ عدد ضحايا العائلتين 80 شخصا. كانتا تتكلمان بحرقة والدموع تنهمر من عيونهما. وعندما علمتا أني فلسطيني اقتربت واحدة مني وضمتني والدموع ما زالت تنهمر من عينيها وهي تتكلم بلا توقف. كنت ألتقط من كلامها مفردات من أصل عربي مثل «الله، مرحمة، محاربة، فلسطين، ربي، زفر»، فملأت الفراغ وفهمت الرسالة.
عن القدس العربي