قضية اللاجئين الفلسطينيين: تعقيداتها والمعضلات التي تطرحها

ظلت قضية فلسطين، التي اختزلت غالبا بالأرض، والحرمان من الهوية الوطنية، على أهمية هذه وتلك، حاضرة في الشعارات والخطابات السائدة، فلسطينيا وعربياً، في حين غيّبت قضية شعبها، أو همّشت، بحكم الثقافة السياسية والسلطوية السائدة، التي لا تجعل حقوق الأفراد، المواطنين، وتاليا المجتمعات، على رأس أولوياتهاً، وأيضا بسبب تمزّق النسيج الاجتماعي للفلسطينيين، مع انهيار تعبيراتهم وتمثيلاتهم الوطنية، بفعل النكبة وإقامة إسرائيل.

وفي الحقيقة فإن اللاجئين من شعبنا هم أكثر من تحمل تبعات النكبة، نتيجة قيام إسرائيل، واقتلاعهم من أرضهم وتشريدهم، وتمزيق كيانهم الاجتماعي، وحرمانهم من ممتلكاتهم، ومن إمكان تطوير هوية جماعية لهم في وطن مستقل، وخضوعهم لأنظمة سياسية متعددة ومختلفة.

فوق ذلك فإن قضية اللاجئين تتمثل في معانيها مختلف تجليات الصراع ضد المشروع الصهيوني، على المكان والزمان والرموز والرؤى، لذا فإن هذه القضية ظلت بمثابة المحرك للنهوض الوطني الفلسطيني المعاصر، بل إن اللاجئين هم من دفع الثمن الأكبر، من معاناتهم وأرواحهم، ثمن انطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة، مع ذلك فإن موازين القوى المختلة، والمعطيات السياسية السائدة، أبقتهم في دائرة الحرمان من الهوية والوطن، بل إن عملية التسوية المجحفة، التي تمت وفقاً لاتفاق أوسلو (1993)، أدت إلى تهميش قضيتهم (1)، حتى إنهم حرموا من كيانهم السياسي (منظمة التحرير)، ومن أية إطارات قد تسهم في بناء مجتمعهم، وتحفظ هويتهم، وتعبر عن ارتباطهم بقضيتهم الوطنية.

أولاً، مسارات إزاحة أو تصفية قضية اللاجئين

قبل الحديث عن مسارات تصفية قضية اللاجئين، قد يجدر التنويه إلى أن ثمة مصادر تصفية أو إزاحة هذا الحق لا تصدر عن أطراف خارجية فقط، أي من إسرائيل أو الولايات المتحدة، بل إنها قد تنتج، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من مصادر ذاتية، أيضاً، عن وعي أو من دونه، وهذا ما يمكن تبينه في الجواب الآتية:

أولاً، مسار تفكك الشعب الفلسطيني، وضعف إدراكات الفلسطينيين لكونهم شعبا واحداً، وضعف تمثل ذلك من الناحية العملية، وهذه عملية تنتج عن عوامل الزمن وتباين أوضاع وحاجات وأولويات الفلسطينيين، بحكم افتقادهم لإقليم موحد، وخضوعهم لأنظمة سياسية متعددة، ووجودهم في أوضاع قانونية مختلفة.

ثانياً، اختفاء مخيمات اللاجئين، الشاهد على النكبة، نتيجة تدمير بعض المخيمات في لبنان وسوريا، وأيضا بحكم ضمور مجتمعات اللاجئين بسبب تشريدهم، في حالتي فلسطينيي سوريا والعراق، أو بحكم التضييق عليهم ودفعهم إلى الهجرة كما في الحالة اللبنانية، ناهيك أن حالة فلسطينيي الأردن تمثل حالة خاصة بحكم المواطنة.

ثالثا، ما يفاقم من هذا الأمر واقع غياب الاجماعات الوطنية، أو الافتقاد إلى هدف وطني جامع، إذ أن حل الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية لا يجاوب على السؤال المتعلق بحقوق اللاجئين، وضمنها حق العودة، بخاصة وفق التمثلات التي جرى فيها، ووفقا لتطبيقات اتفاق أوسلو (1993)، الذي هو في اقصى حالاته مجرد تسوية لجزء من شعب على جزء من أرض في جزء من حقوق.

رابعاً، تهميش منظمة التحرير وتحول الحركة الوطنية إلى مجرد سلطة تحت الاحتلال، إذ أن هذا الواقع مع غياب أي حل لمشكلة اللاجئين، حرم الفلسطينيين من كيانهم السياسي المعنوي، وأضعف من ادراكاتهم لكونهم شعبا واحدا، وحصر تمثيل السلطة في فلسطينيي الضفة والقطاع.

هذه هي المحددات التي تلعب دورا كبيرا في تعيين قضية اللاجئين، ومكانة حق العودة، في الواقع الفلسطيني، وفوق ذلك يمكننا ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعاطت تاريخيا مع قضية اللاجئين وحق العودة بطرق مختلفة.

ففي بداياتها فإن حركتنا الوطنية لم ترفع شعار “حق العودة”، تلك الفترة، إذ أنها وفقاً لإدراكاتها السياسية، كانت دمجت بين هذا الشعار ـ الهدف مع الهدف المتمثل بالتحرير، كتحصيل لعملية مفترضة يجري عبرها استعادة أو تحرير كل فلسطين التاريخية، حتى أن “الميثاق الوطني” نص على أن فلسطين هي “وطن الشعب العربي الفلسطيني” وإنه “صاحب الحق الشرعي في وطنه فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني (2). وفي ذات السياق، يجدر التنويه، أيضاً، إلى أن تلك الحركة (المنظمة والفصائل) لم تميّز بين الحقوق السياسية للشعب، وبين حقوق الفلسطينيين اللاجئين المدنية الفردية، في بلدان اللجوء، ما يفسر أنها لم تعمل على الضغط من أجل تغيير القوانين المدنية المتعلقة بتحسين أوضاع اللاجئين وتخفيف معاناتهم في لبنان، إبان سيطرتها هناك. (3)

في مرحلة لاحقة اتسمت بتحول القيادة الفلسطينية من برنامج “التحرير” إلى “البرنامج المرحلي”، في الدورة ال12 للمجلس الوطني (1974)، بات هدف العودة يتصدر مختلف المقررات الصادرة عن دورات ذلك المجلس، إلى جانب الحق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، على رغم معرفة الجميع أن القصد، من الناحية العملية، كان انهاء الاحتلال للضفة والقطاع، وإقامة دولة فلسطينية. (4)

بعد ذلك، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (أواخر 1987) تم تقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة، من الناحية العملية، بحكم الخارطة السياسية والجغرافية والبشرية لتلك الانتفاضة، والمحددات الموضوعية والسياسية لهذه المسألة، إلا أن ذلك الأمر لم يعن بأي حال من الأحوال تعارض هذه الأهداف مع بعضها البعض، أو تقديم بعضها على حساب الآخر، وهذا ما نصّت عليه “وثيقة الاستقلال الفلسطيني”، التي أكدت في فقرتين متتاليتين على “حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية الراسخة، بما فيها حقه في العودة، وحق تقرير المصير، والاستقلال والسيادة على أرض وطنه”. والذي جاء فيه في فقرة اخرى ما يلي: “في قلب الوطن، وعلى سياجه في المنافي القريبة والبعيدة، لم يفقد الشعب العربي الفلسطيني إيمانه بحقه في العودة، وإيمانه الصلب بحقه في الاستقلال (5) وقد استند هذا الإعلان إلى “الحق الطبيعي التاريخي والقانوني للشعب الفلسطيني في وطنه”.

بيد أنه، على رغم ما تقدم، فإن تلك الانتفاضة خلقت تمييزاً ظاهراً، على الصعيد، النظري، بين مستويين من مستويات القضية الفلسطينية، المستوى الأول، يتم التأكيد فيه على دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، حيث  يتوافر الأساس الذاتي لذلك، وحيث يتوافر الإسناد الموضوعي ممثلا بالشرعية الدولية والعربية، أما المستوى الثاني فيفيد باستكمال العملية الوطنية، من أجل الحقوق الفلسطينية الأخرى، وفي مقدمها حق العودة، وبالتالي الإسهام في تقويض أسس المشروع الصهيوني في فلسطين، وهكذا نجد أن التمايز النظري الظاهر يعكس، ربما بطريقة مداورة، ارتباطا متكاملاً بين المستويين المذكورين للعملية الوطنية الفلسطينية؛ طبعا هذا في حال توفر الإدراك والإرادة اللازمين أو المناسبين.

في مطلع التسعينيات، ونتيجة للمناخات التي سادت، آنذاك، على خلفية تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق وحرب الخليج الثانية، استطاعت الولايات المتحدة القطب المهيمن على الصعيد الدولي، عقد مؤتمر مدريد  للسلام في الشرق الأوسط (أواخر العام 1991)، فارضة الخطوط المتعلقة بشكل هذه الدعوة وجدول الأعمال وطريقة التفاوض، ومع ذلك فإن رئيس الوفد الفلسطيني السيد حيدر عبد الشافي، أكد في كلمته في حفل الافتتاح، آنذاك، على المكانة المركزية لحق العودة بالنسبة للشعب الفلسطيني، بقوله: “بغض النظر عن طبيعة وظروف الاضطهاد، الذي نتعرض له سواء من خلال الحرمان والتشريد في المنفى والشتات، أو من خلال وحشية وقمع الاحتلال فإن الشعب الفلسطيني لا يمكن تمزيق وحدته، وسنبقى موحدين كشعب حيثما نكون، أو يفرض علينا أن نكون…وفي الوقت الذي نخاطبكم تلازمنا، وتلاحقنا، عيون الآلاف  من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948، ومن المشردين منذ عام 1967، ومن المبعدين، فليس أقسى من مصير الإبعاد والنفي، أعيدوهم إلى الوطن، فحق العودة حق لهم (..)وكما عبرت عنها كلمات شاعرنا الوطني محمود درويش: ” أه يا جرحي المكابر…وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر”. ولشعبنا الشجاع المعذب نقول “سنعود، وسنبقى، وسننتصر، لأن قضيتنا عادلة (…) إن مخيمات اللاجئين لا يمكن أن تكون المأوى اللائق لشعب ترعرع على أرض فلسطين وتحت دفء الشمس والحرية (…) ومع أن الإرادة الدولية قد أكدت حقهم في العودة من خلال قرار الأمم المتحدة الرقم 194 إلا أن هذا الواقع يتم تجاهله وتعطيله عمداً (…) لسنا نريد/نحن الفلسطينيين/ما هو أقل من العدالة”. (6)

بيد أن التطور الأبرز، في هذا الأمر، حصل بعد اتفاق إعلان المبادئ الفلسطينية-الإسرائيلية (أيلول/ سبتمبر1993)، بشأن قيام حكم ذاتي انتقالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ جرى التوافق، بين الطرفين المعنيين مباشرة (الإسرائيلي والفلسطيني)، على تأجيل التفاوض بشأن قضية اللاجئين ضمن قضايا أخرى شملت “القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون” بضغط من إسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية. (7) مع ذلك فإن إسرائيل فشلت في طي هذه المشكلة في المفاوضات الثنائية والمتعددّة، على رغم أنها نجحت في تأجيلها وحرفها عن مسارها الحقيقي، في حين نجح الطرف الفلسطيني في تثبيتها، في المفاوضات المتعددة الطرف، من دون أن ينجح في فرض تصوراته على إسرائيل بالنسبة إلى هذا الموضوع. (8)

واضح من هذا العرض استعصاء حل قضية اللاجئين وفق “حق العودة” على الحل، إذ المسألة تتعلق بموازين القوى، وبموقف إسرائيل التي ترى أن هذا الحق يهدد مستقبل وجودها، كدولة يهودية، وينزع منها أي مبرر أخلاقي للوجود، ويظهر الفلسطينيين كضحية لها، فضلا أنه يكسر احتكارها مكانة اضحية. ويتضح من مداولات “لجنة اللاجئين”، المنبثقة عن المفاوضات متعددة الطرف، بأن الدول الكبرى منحازة إلى الموقف الإسرائيلي، وأن كل مساهماتها تنصبّ على عدم تحميل إسرائيل مسؤولية نشوء مشكلة اللاجئين، لا سياسيا ولا أخلاقياً ولا مادياً، وتجنيبها مسؤولية الإسهام في حلها، وذلك من خلال إيجاد صيغ عامة لحلول جزئية وناقصة، لا علاقة لها بالحقيقة والعدالة، ولا حتى بقرارات الأمم المتحدة، وذلك من خلال التعاطي مع هذه المشكلة بطريقة فنية، كتوزيع الفلسطينيين اللاجئين على هذه الدولة أو تلك، وتعويض بعضهم، وإعادة بعضهم إلى الضفة، واحتمال عودة قسم منهم إلى إسرائيل (ضمن نظام لم الشمل)، وذلك مراعاة لحساسية إسرائيل، وتجنيبها ما يسمى “الخطر الديمغرافي”، والحفاظ على طابعها كدولة يهودية، وعلى اعتبار أن إسرائيل دولة ذات سيادة من حقها أن تقبل من تشاء وأن ترفض من تشاء؛ وهذا أكثر ما تجلى في مقترحات الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون. (9)

وللأسف، وكما شهدنا بعد إقامة السلطة، إذ حصرت القيادة الفلسطينية قضية فلسطين بمجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع، من الناحية العملية، ما أدى إلى تشوّش الثقافة السياسية، وتولّد خيبة أمل في تجمعات اللاجئين من حركتهم الوطنية، ونشوء نوع من تصدع في  الفلسطينيين، في مختلف تجمعاتهم، لكونهم شعباً واحداً؛ خصوصاً أن ذلك تساوق مع تحوّل ثقل الحركة الوطنية إلى الداخل، وتهمّش منظمة التحرير، التي طالمت اعتبرت بمثابة كيان سياسي لشعبنا في مختلف أماكن تواجده، ورمزا لهويته وكفاحه، لحساب السلطة، علماً أن هذه هي المرة الثانية التي يحصل فيها إزاحة تجمع من الفلسطينيين من إطار مفهوم الشعب الفلسطيني، بعد إزاحة فلسطينيي 48. وكما بينت التجربة، فإن تحول حركة التحرر الفلسطينية إلى سلطة، ورمي ثقلها وراء إقامة دولة في الضفة والقطاع، جعلها مشغولة عن حق العودة للاجئين، بل وعن الاهتمام بأوضاعهم ومشكلاتهم، في البلدان التي يعيشون فيها، سيما أنها اعتبرت نفسها معنية بفلسطينيي الضفة والقطاع، وهذا حتى على حساب منحهم المواطنة أو جواز سفر.

بيد أن كل ذلك أدى، بين عوامل أخرى، إلى بروز شعار «حق العودة»، إن نتيجة ردة الفعل في مجتمعات اللاجئين في الخارج، أو كنتيجة للانقسام السياسي من حول مشروع التسوية، مع التذكير هنا بمفارقة لافتة، مفادها أن قوى المعارضة كانت، في البداية، تقلّل من شأن «حقّ العودة» لخضوعه لمنطوق القرار 194، القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى دولة إسرائيل، ولكنها عادت وتلقفته، بعد أن اكتشفت أنه يخدم أجندتها في الصراع الداخلي، ولجهة كشف وإحراج قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، لكن من دون أن تفسّر كيفية قبولها بهذا الحق، الذي يرتبط بالاعتراف بوجود إسرائيل كدولة (!)، أو عدم قبولها به سابقاً، الأمر الذي يثير التساؤلات حول حقيقة وأغراض تبنّيها له. (10)

ثانياً، تعقيدات قضية اللاجئين

ما يجدر لفت الانتباه إليه هنا أن قضية اللاجئين، بعد سبعين عاماً، لم تعد هي ذاتها، في مظاهرها وتبعاتها، في نهاية الأربعينيات، إذ بعد سبعين عاماً على نشوئها باتت محمّلة بمداخلات وتعقيدات وبوقائع عديدة وجديدة، قانونية وديموغرافية وسياسية، وفقاً للجوانب الآتية:

أولا، افتقار العملية التفاوضية الجارية إلى أي مرجعية شرعية أو قانونية دولية، ذلك أن المرجعية الوحيدة هي طاولة المفاوضات، التي تستند إلى موازين القوى المختلة لصالح الطرف الإسرائيلي، وإلى إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومساعي الأطراف الدوليين الآخرين، إذ أن القرار الوحيد المتعلق بهذا الأمر (194) تم استبعاده من الأجندة التفاوضية (10). ومن الناحية القانونية تبرز القضايا الأخرى المتعلقة بالموازنة أو بالترابط ين حق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني من حيث المبدأ من جهة، وحق العودة والاختيار للأفراد الفلسطينيين باعتبار ذلك جزء من المنظومة القانونية والأخلاقية لحقوق الإنسان من الجهة الثانية، كما تبرز قضايا الملكية، والتعويض عن الحرمان من الأملاك طوال العقود الماضية (الأراضي، والبيوت والممتلكات) وما يحيط بكل ذلك من مسائل فنية وإحصائية بحتة، مع ملاحظة جملة التغييرات التي قامت بها السلطات الإسرائيلية في ما يخص الأراضي وأملاك الفلسطينيين، ناهيك عن أن حقوق الملكية وكيفية نقلها من أو الأجداد أو الإباء إلى الأبناء أو الأحفاد.

ثانيا، ثقل العقدة الديموغرافية، الناجمة عن الطابع الإجلائي-الاحلالي ـ الأيدلوجي للاستيطان الإسرائيلي في فلسطين، واعتبار إسرائيل ذاتها دولة يهودية ـ ايدلوجية، وكدولة لكل يهود العالم (وليس لليهود فيها فقط،، سيما وقد بات حوالي  60 في المائة من اليهود في إسرائيل من مواليدها، ونحو 20 أو 25 في المائة منهم لآباء ولدوا فيها، أي أننا نتحدث عن دولة ليس لأغلبية اليهود فيها وطناً أم، على غرار المستوطنين المستعمرين الفرنسيين في الجزائر، وهذا الواقع من الصعب تجاوزه في إطار أي حل مقترح سواء لتسوية  الصراع العربي-الإسرائيلي، أو لتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وربما أن ما يساهم في التخفيف من هذه العقدة أن نحو 50 في المائة من يهود إسرائيل هم من يهود البلدان العربية، خصوصا من المغرب والعراق واليمن. ولعل هذا الأمر يفترض طرحا يتجاوز حق العودة إلى التمكين من العودة، سيما مع تعذّر عودة اللاجئين (وأولادهم وأحفادهم) إلى الأراضي أو البيوت نفسها التي هجروا منها، بعد أن عملت إسرائيل العقود السبعة الماضية على تغيير معالم المدن والأراضي، سيما مع هدمها مئات القرى وعديد من المدن، التي كان يسكنها الفلسطينيون قبل النكبة، في سياق إعادتها تنظيم هيكلية المدن، لإسكان المستوطنين اليهود.

ثالثاً، ثمة التعقيدات السياسية الناجمة عن الإطار السياسي الذي يجري على أساسه التباحث لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، إذ الإطار المطروح اليوم يتراوح بين اعتماد المدخل القانوني (القرار 194)، أو المدخل التفاوضي، أو مدخل التحرير، وبمعنى أخر إما مدخل الشرعية الدولية، أو مدخل المفاوضات الثنائية، أو مدخل التحرير أي الصراع المستمر، أي في الحالين إما خيار التعايش أو خيار النفي والإلغاء المتبادل. وينبثق عن هذه المسألة تعقيدات أخرى تتعلق بموقف اللاجئين المقيمين في الضفة والقطاع من حل قضية اللاجئين، وكذلك علاقة اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم بالكيان الفلسطيني الناشئ في الضفة والقطاع، وقضية المواطنية الفلسطينية. ولعل التعقيدات السياسية هي الأهم، لأن المسألة ليست قانونية أو ديموغرافية، فقط، بقدر ما هي سياسية تتعلق بوجود دولة استعمارية استيطانية عنصرية، لذلك فإن حل قضية اللاجئين على أساس العدل المطلق، لا يمكن إلا عبر تقويض المقومات السياسية والاقتصادية والثقافية لهذه الدولة (عملية التحرير)، أو عبر مجموعة من التحولات الداخلية في إطار المجتمع الإسرائيلي، قد تؤدي إلى إطلاق مسار تحول هذه الدولة المصطنعة إلى دولة عادية لمواطنيها (وليس ليهود العالم)، وأن تتخلى عن نظامها العنصري، وعن دورها  السياسي الوظيفي بتحولها من دولة بذاتها إلى دولة لذاتها، وهو المسار الذي قد يفتح الباب لاحقا أمام إيجاد حل للقضية الفلسطينية والمسألة اليهودية، ولوجود إسرائيل ذاتها، في إطار دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين.

رابعاً، على الصعيد العربي لا يتيح واقع النظام العربي، بضعفه وتشتته، إيجاد حال من الضغط على إسرائيل لدفعها باتجاه تنفيذ القرارات الدولية بإتاحة المجال للاجئين الراغبين بالعودة إلى أرضهم، بل إن هذا النظام حد من قدرة اللاجئين على استعادة حقوقهم بالطرق التي يتحها القانون الدولي لهم، أو بالطرق التي تتحها معاهدات حقوق الإنسان للأفراد، ما يفسر ممانعته ادخال اللاجئين ضمن وصاية “المفوضية السامية للاجئين” التابعة للأمم المتحدة، وتأييده فقط إقامة وكالة “غوث وتشغيل اللاجئين” التي ليس لها مدلولات أو تبعات سياسية أو حقوقية تتعلق بحق العودة، أو بحقوق الإنسان (11). إضافة إلى كل ذلك ثمة بعد داخلي /عربي لقضية اللاجئين، يتعلق بمشكلات الهوية والاندماج الاجتماعي وتعذر قيام دولة المواطنين، في المنطقة العربية، كما ثمة التباس، أيضاً، في توصيف الفلسطينيين باللاجئين في حين أنهم عرب، وجزء من الأمة العربية (المفترضة) ويقيمون في دول عربية! أن ذلك يصحّ الاستنتاج بأن الهوية الوطنية الفلسطينية تبلورت ليس كرد على واقع النكبة والاقتلاع من الأرض، فقط، أي في مواجهة إسرائيل، وإنما أيضا كانعكاس للواقع العربي، الذي كرّس حال التشرد والحرمان من الهوية والحقوق في بلدان اللجوء (باستثناء الأردن لدوره الخاص)؛ بحيث لعب المخيم، الذي هو بمثابة معزل، بكل ما اكتنفت به حياة اللاجئين من معاناة ومرارة دورا كبيرا في بلورة تلك الهوية.

ثالثاً، مقترحات أولية لخطة وطنية

على ضوء كل ذلك، وكما بات واضحاً، فنحن إزاء توجهات، دولية وإقليمية أو عربية، تفضي إلى تصفية قضية اللاجئين، حتى في بعدها الإنساني، على ما ظهر في توجهات الإدارة الأمريكية لتصفية وكالة غوث اللاجئين (أونروا)، بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، إذ أن هذا التوجه يقوض كل الأوهام التي بنيت من دون أي أساس واقعي على إيجاد حل للقضايا التي أجل البت بشأنها إلى المرحلة الأخيرة من المفاوضات (12)، وهي قضايا القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية.

السؤال الآن، على ضوء المعطيات الراهنة، دولياً، وعربياً، وفلسطينياً، وإسرائيلياً، ليس إذا كنا نستطيع أو لا نستطيع مواجهة محاولات تصفية قضية اللاجئين، وإنما هو: كيف نستطيع الدفاع عن هذه القضية وعن حق العودة، العادل والمشروع، وفق القرارات الدولية المتعلقة بحقوق شعبنا الجماعية والمتعلقة بحقوق الإنسان. والسؤال المطروح هنا هو هل هناك إمكانية لصوغ معادلة سياسية في ما يتعلق بحق العودة تتأسس على التوازن بين المطلق والنسبي، والحق والممكن، والراهن والمستقبلي، والواقع والرغبات؟

بيد أنه يجدر بنا، قبل الخوض في هذا الأمر، إدراك ثلاثة مسائل، أو حقائق:

الحقيقة الأولى، ومفادها أن أية عملية مفاوضات لتسوية وضع اللاجئين الفلسطينيين، في الظروف والمعطيات القائمة في المدى المنظور، لن تنصف اللاجئين في حقوقهم، وهي ستتراوح، بين مقايضة حق العودة بحق إقامة دولة في جزء من أرض فلسطين، كما شهدنا في اتفاق أوسلو (1993)، أو إبقاء الحال على ماهي عليه، وبالتالي تصفية حق العودة بطريقة واقعية وتدرجية، أي مع مضي الزمن وتغير الأحوال، أو التوجه نحو حل بعض جوانب هذه المشكلة، بشكل جزئي وناقص، وهذا يشمل إعادة قسم من اللاجئين تحت بند “لم الشمل”، أو تحت بند تطبيق “حق العودة”، بطريقة رمزية، على أعداد توافق عليها إسرائيل في المفاوضات، كما يشمل ذلك إعادة التوطين في بلد ثالث، كما حصل بطريقة أو بأخرى، إضافة إلى تفعيل بند التعويض على اللاجئين، أو على بعضهم، وفقاً لمعايير معينة، ويأتي ضمن ذلك تصفية وكالة “غوث وتشغيل اللاجئين”. وعليه ثمة معضلة هنا تنبع من غياب القدرة على فرض شيء على إسرائيل في المفاوضات، ما يعني أن الخيار المطروح إما القبول بالواقع كما هو، أي إبقاء اللاجئين يعيشون في واقع بائس وفي مخيمات مزرية، أو القبول بمفاوضات تضع حدا لهذا البؤس المقيم منذ عقود، وفقا للطرق المذكورة، التي فرضها الواقع أصلاً على الفلسطينيين، من الناحية العملية، من دون مفاوضات ومن دون توقيعات أو بيانات، وكل هذه الأمور تضعنا في مواجهة تحد أخلاقي وسياسي وتاريخي.

الحقيقة الثانية، ومفادها أنه في المدى المنظور لا يمكن الحديث عن حق العودة للاجئين، لا وفقاً للمنظور الوطني، ولا وفقا لمنطوق القرار 194 (1949)، لأن ذلك يتطلب، أولاً، تحولاً في موازين القوى لصالح الفلسطينيين والعالم العربي. وثانياً، تغيرات في النظام العربي والدولي، تتيح الضغط على إسرائيل، لإجبارها على قبول حق العودة. وثالثاً، تغيرات في إسرائيل ذاتها، تفضي إلى تخلصها من طابعها كدولة يهودية، وكدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية؛ أي المطلوب واحد أو أكثر من العناصر المذكورة.

الحقيقة الثالثة، ومفادها أنه لا يمكن الحديث عن حل مختلف جوانب القضية الفلسطينية، وضمنها قضية اللاجئين، بدون إيجاد حل للمسألة الإسرائيلية، أي من دون احداث تأثيرات في المجتمع الإسرائيلي، وإيجاد مشتركات سياسية مع اليهود الإسرائيليين المعادين للصهيونية، مشتركات تقود إلى تقويض مختلف تجليات المشروع الصهيوني، أو تقطع معه، ومع طبيعة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية.

أما في شأن أي توجه لخطة وطنية لمواجهة محاولات تصفية حق العودة، فأعتقد أن هذا الأمر يحتاج إلى عقد ورشات نقاشية، يشارك فيها صانعوا القرار وباحثون وخبراء، مع ذلك فإنني أفترض أن تتأسس هذه الخطة على المبادئ الآتية:

1 ـ إن حقوق اللاجئين، وضمنها حق العودة، هي حقوق فردية وجماعية، ولا يمكن لأي طرف التنازل عنها، أو أن يقرر بشأنها، وأن أي قرار بهذا الشأن يعود للشعب الفلسطيني، سواء تعلق بالخيار الوطني/الجماعي، أو تعلق بحقوق الإنسان/ الفردية.

2 ـ في مختلف جوانب قضيتنا الوطنية، لا يمكن وضع حق مقابل حق، فالعدالة من حق الجميع، والمعنى أنه لا يجوز وضع مطلب حق العودة للاجئين مقابل الحق في التحرر من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع لفلسطينيي 48، والعكس صحيح، مثلما لا يمكن، ايضاً، وضع هذين الحقين، أو الهدفين، أو أي منهما، مقابل حق فلسطينيي 48 بالمساواة، في الحقوق الفردية والجماعية، بما في ذلك اعتبار أنفسهم جزءاً من الشعب الفلسطيني، باعتبار أننا لسنا شعوباً متعددة وإنما شعباً واحداً، في قضيته وحقوقه وهويته وتطلعاته.

3 ـ إن أي حل لأحد جوانب القضية الفلسطينية لا ينبغي أن يكون بديلاً عن إيجاد حل للجوانب الأخرى لهذه القضية، بل ينبغي أن يؤدي، أو يمهّد، لحل الجوانب الأخرى، وصولاً لحل مختلف جوانب هذه القضية، ما يفيد بأن الحق في إقامة دولة لا يجب أن يكون حاجزاً أمام حق اللاجئين بالعودة، ولا أمام حق فلسطينيي 48 بالمساواة الفردية والجماعية، بل يجب أن يمهّد وأن يدعم حق جزء أخر.

4 ـ إن تحسين أوضاع اللاجئين، وضمنه الاهتمام بتحسين أوضاع المخيمات، وإعادة تأهيلها، يعزز من قدرة الفلسطينيين على تنظيم أنفسهم، والتعبير عن ذاتهم، والدفاع عن هويتهم الوطنية، وعن حقوقهم، لا العكس، أي انه ينبغي نبذ الفكرة الخطيرة والبائسة التي روّجتها الأنظمة العربية، وبعض الخطابات الفلسطينية، والتي تعتبر أن مرمطة الفلسطينيين وابقائهم في بؤس مقيم يعزز من هويتهم ومن وطنيتهم. وهذا يعني أيضا الانتهاء من وضع المخيمات المزرية، بإعادة تأهيلها، وربما ببناء وحدات سكنية جديدة بدلها، تتوافر فيها أماكن لائقة لعيش البشر، إذ المخيمات القائمة ليست وطناً بديلاً، وهي أماكن تمتهن كرامة الفلسطينيين فيها، بغض النظر عن الادعاء بتقديس المخيمات، كأنها فلسطين أخرى، أو كأنها دليل وطنية، في حين أن معظم القيادات التي تدّعي كل ذلك، وتتغنى بمكانة المخيمات، لم تسكن قط فيها، ولم تكابد البتّة ما يكابده سكانها.

5 ـ لا يمكن الحديث عن خطة وطنية للحفاظ على حق العودة للاجئين الفلسطينيين من دون اعتبار الفلسطينيين شعباً واحداً، في كافة أماكن تواجده، ومن دون إعادة بناء منظمة التحرير على أسس تمثيلية وديمقراطية ونضالية، باعتبارها الكيان السياسي الموحد والقيادي للشعب الفلسطيني، في كل مكان، ومن دون تمكين الفلسطينيين في كل مكان من تنمية مجتمعاتهم ومواردهم البشرية.

6 ـ لابد لمنظمة التحرير من التصرف ككيان لكل الشعب الفلسطيني، وضمنه العمل على رعاية أحوال الفلسطينيين في بلدان اللجوء، وتقديم الاسناد لهم في مختلف المجالات، ويأتي ضمن ذلك التسهيل عليهم بمنح جواز السفر الفلسطيني لمن يرغب من اللاجئين، بخاصة فلسطينيي لبنان، بحيث يصبحوا في مكانة مقيمين من مواطني دولة أخرى، للتخفيف من المظالم التي يتعرضون لها، ومن هواجس الديمغرافية والطائفية المتعلقة بالتوطين عند البعض في لبنان. ومثلا، فليس من المعقول إبقاء الفلسطينيين اللاجئين يكابدون اللجوء والامتهان والحرمان من الهوية، طوال عقود، ناهيك عن رميهم في خيام على الحدود، لدى أية قلاقل في هذه الدولة أو تلك (كما حصل في العراق ولبنان)، بانتظار تحقيق حلمهم بالعودة إلى أرضهم؛ فاللاجئ الفلسطيني هو إنسان، قبل أي صفة وبمعزل عن أي مكانة أخرى، وله حقوق كفلتها الشرائع السماوية والأرضية، وضمنها حقّه في العيش بحرية وكرامة.

7 ـ إن الحديث عن تنمية المجتمعات، يقصد فيها تنمية المجتمع المدني، وتطوير فاعليته وحيويته، وهذا يشمل الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، وذلك من خلال بناء كيانات اجتماعية واقتصادية وجامعية وبحثية وتعليمية وإعلامية. ويأتي ضمن ذلك توجيه الجهود لإجراء انتخابات عامة لهم في كافة أماكن تواجدهم، بحيث تنبثق عنها هيئات تكون مهمتها تمثيلهم في الكيانات الوطنية الجمعية للمنظمة، وفي المؤسسات التشريعية (المجلس الوطني)، وترعى شؤونهم مع السلطات المحلية في البلدان التي يعيشون فيها.

8 ـ حمل هذه القضية لطرحها في جامعة الدول العربية، لفرض معايير لائقة في التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين، من ضحايا النكبة، في الدول الأعضاء كافة، بكرامة ووفق معايير لائقة، ضمنها إتاحة حرية التنقل والعمل وإتاحة العيش الكريم لهم، وفق منظومة إنسانية وأخلاقية.

9 ـ الدفاع عن بقاء منظمة الأونروا كشاهد سياسي على النكبة، وعلى قضية اللاجئين، ووضع القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، والخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، في أجندة المسائل التي يتم طرحها في المحافل الدولية.

10 ـ إبداء الحذر في التعامل مع خطاب رفض التوطين، وعدم الاحتفاء به، لأنه ينبع، في الغالب، من بيئة استبعادية للفلسطينيين (أي بيئة التوظيف الأمني والسياسي)، أي من نظرة عنصرية، فضلا عن أنه في حقيقته رديف لخطاب التهجير، وهي خطابات تسعى إما إلى توظيف اللاجئين في مآرب مصلحية وسياسية ضيقة، أو تسعى إلى التخلص من قضية الفلسطينيين بالتخلص من وجودهم. ومعنى ذلك أن خطاب رفض التوطين لا يصبّ بالضرورة في طاحونة حق العودة، وربما أن التهويل به يصب في طاحونة التهجير، وتصفية قضية اللاجئين، كما أنه يخلق لدى اللاجئ قلقاً إزاء مصيره كإنسان، وإزاء هويته ومستقبله، ولا شك في أن الخطاب البديل معني بتركيز الدفاع عن حقوق اللاجئين، بجوانبها الإنسانية والسياسية، لا الهروب من المهمات المتعينة (الإنسانية) إلى المهمات السياسية.

11 ـ ربما من الأجدى لخطاب العودة أن يأتي متضمنا في إطار المعادلة السياسية التي تطرح فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية، أو دولة المواطنين، بمختلف أشكالها، أو التي تمهد لذلك، وعلى أساس تقويض الطابع الاستعماري ـ الاستيطاني العنصري والديني لإسرائيل، علما أن ذلك لا يعني وضع خيار الدولة الواحدة كمقابل أو كبديل لخيار الدولة في الضفة والقطاع.

ما أريد قوله وبصراحة، بعيدة عن الانشاءات والعواطف والرغبات، أننا لم نستطع تطبيق حق العودة في ظروف دولية وعربية وفلسطينية افضل من تلك التي نعيشها هذه الأيام، التي لا نستطيع فيها أن نرفع الحصار عن غزة او أن نرفع ولو حاجز قلنديا، قرب رام الله، لكن هذا لايمنع من مواصلة كفاحنا من اجل حقنا العادل والمشروع، ومراكمة الإمكانيات والقدرات التي تمكننا في ظروف أخرى من تحقيق أهدافنا، أو تمهد لذلك.

مع ذلك سنبقى نراوح بين خيارين ناقصين ومجحفين، في التعاطي مع هذا الأمر في المدى المنظور، فإما تأجيل البتّ بهذه القضية وتركها للزمن. أو السعي للتوصل إلى حلول جزئية وآنية مع البلدان المضيفة، قد تسهل عيش اللاجئين الفلسطينيين، وتضع حداً لمعاناتهم، بخاصة أن موازين القوى والمعطيات الدولية والعربية لا تسمح لهم بإقامة دولة ونيل حق العودة، في آن.

أخيراً قد يجدر التحذير هنا من المفارقة المأسوية التي تكمن إمكان بقاء الفلسطينيين لاجئين في البلدان العربية، وبين شعو أمتهم العربية، عقوداً أخرى من الزمن، فيما إسرائيل تطبّع وجودها في العالم العربي، والمشكلة فوق ذلك أن يحصل هذا الوضع فيما الفلسطينيون لا استطاعوا تحقيق دولتهم ولا استطاعوا تنفيذ حق العودة.

  • ورقة قدمت في المؤتمر السابع للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات) رام الله، 2018

هوامش:

1 ـ راجع نص الاتفاق المذكور في: مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 4، العدد 16 خريف 1993، (ص 175 قسم الوثائق) ومعلوم أن هذا الاتفاق نص على تأجيل القضايا الرئيسية في الصراع ضد إسرائيل، ولاسيما قضية اللاجئين، إضافة إلى قضايا القدس والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية، فضلاً عن أنه لم ينص على توصيف ماهية الحل النهائي.

2 ـ معلوم أن منظمة التحرير، التي تأسّست قبل حرب يونيو/حزيران 1967، نشأت على “الميثاق القومي الفلسطيني” ثم “الميثاق الوطني الفلسطيني”، الذي نصّ على هدف “التحرير”، باعتبار “فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني.” (المادة 1) وأنها “بحدودها..في عهد الانتداب وحدة إقليمية لا تتجزأ” (المادة2). وأن “الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه”. (المادة 3) وقد أكدت قرارات دورات المجلس الوطني الفلسطيني – من الرابع (1968) إلى الحادي عشر (1972) – على هذه المبادئ (5)، في مجمل مقرراتها. رابط الميثاق للاطلاع: http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/Palestinian_national_charter.pdf

3 ـ في النصف الثاني من السبعينيات كانت منظمة التحرير بمثابة سلطة في لبنان، وكان بإمكانها في حينه الضغط من أجل استصدار قرارات، من مجلس النواب، تضع حداً للقوانين  الجائرة بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والمتعلقة بالتعليم والعمل والتنقل، أي بما يخص الشؤون المدنية، او المتعلقة بحقوق الإنسان، لكنها في غمرة انهماكها بأوضاعها كمقاومة، وتغليبها السياسة والعسكرة، لم تفعل شيئا من ذلك، لذا فعندما خرجت المقاومة من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي (1982)، دفع اللاجئون ثمنا باهظا لذلك، إذ تعرضت مخيماتهم لهجمات وحشية (حروب ضد مخيمات بيروت شنتها حركة امل في منتصف الثمانينات، بدعم من النظام السوري)، وحرب تدمير مخيم نهر البارد (2007) التي قام بها الجيش اللبناني، بسبب جماعة “فتح الإسلام” المدعومة من النظام السوري، كما أن النظام اللبناني تشدد في معاملة الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم كبشر، ما دفع نسبة كبيرة منهم إلى الهجرة خارج لبنان.

4 ـ راجع قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في: http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3237

5 ـ نص وثيقة “إعلان الاستقلال” في موقع المجلس الوطني الفلسطيني: http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/Palestinian_declaration.pdf

6 ـ للاطلاع على وقائع مؤتمر مدريد للسلام، يمكن مراجعة أعداد مجلة الدراسات الفلسطينية بيروت، من العدد 8 ـ 10، ويمكن الاطلاع على كلمة حيدر عبد الشافي في العدد الثامن من المجلة في الرابط الآتي: http://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/7062_0.pdf

7 ـ نفس المصدر رقم (1)

8 ـ عن التفاوض حول قضية اللاجئين في المفاوضات متعددة الطرف، تم اجمال الموقف الإسرائيلي في وثيقة نشرتها صحيفة هآرتس (13/12/2007)، جاء فيها: “رفضت إسرائيل تحمل المسؤولية الحصرية عن مشكلة اللاجئين، كما رفضت حق العودة بأي شكل من الأشكال لكنها، في المقابل، وافقت على الاعتراف بمعاناة لاجئي 1948، وعلى المشاركة في جهد دولي يهدف إلى إدخال عدد قليل من اللاجئين إلى أراضيها، وإلى التبرع بالمال لإعادة تأهيلهم. وكان الشرط الإسرائيلي أن “تطبيق التسوية الدائمة سيضع نهاية للمطالبات”. أما الفلسطينيون فقد طالبوا إسرائيل بالاعتراف بمسؤوليتها الحصرية عن “نشوء مشكلة اللاجئين واستمرارها”، لكنهم مع ذلك، وكما ورد في الوثيقة، أبدوا خلال المفاوضات “تفهماً لحساسية الموضوع بالنسبة إلى إسرائيل واستعداداً لإيجاد صيغة توازن بين هذه الحساسية وحاجاتها القومية”.

(http://www.palestine-studies.org/ar/daily/mukhtarat-view/136353)

9 ـ للاطلاع على مقترحات بل كلينتون، ورد فلسطيني عليها، بخصوص حل قضية اللاجئين، راجع:  http://www.palestine-studies.org/ar/institute/solr-search?search_api_views_fulltext=%D9%85%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D8%AA+%D9%83%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%88%D9%86&search_api_views_fulltext_2=&type=any

10 ـ بعد إقامة السلطة، وتهمش منظمة التحرير، وشعور الفلسطينيين بالخارج بضرورة ملء الفراغ السياسي الحاصل، ونتيجة تخوفهم من تخلي القيادة عن حق العودة، لصالح الدولة، نشأت عديد من المجموعات الشبابية التي تضع على عاتقها النضال من اجل التمسك بحق العودة، في لبنان وسوريا والأردن، وفي الخارج. أما في ما يخص فصائل المعارضة، وموقفها من حق العودة، فهو نتاج تجربة شخصية للكاتب، في معايشته مواقف معظم الفصائل الفلسطينية “المعارضة” في دمشق.

11 ـ بعد النكبة دفعت الأنظمة العربية بادخال اللاجئين الفلسطينيين ضمن ولاية مفوضية جديدة تابعة للأمم المتحدة، هي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي تعمل لاسيما الآن الولايات المتحدة على تصفيتها او تقليص خدماتها، وليس إلى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، سيما أن هذه المفوضية ذات بعد سياسي وحقوقي يتعلق بمعاملة اللاجئين وفقا لمعايير دولية واخلاقية تلتزم القانون الدولي وحقوق الإنسان.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *