قصة الماضي الذي في المستقبل.. “خراب إسرائيل سيأتي من الداخل”!
ازداد الحديث في إسرائيل خلال العقد الأخير عن أنها تواجه صراعات داخلية عميقة تهدّد وجودها، وتعيد أغلب الكتابات هذه الصراعات إلى الاستقطاب الداخلي الشديد على خلفية الصراع الديني- العلماني والشرقي- الأشكنازي الذي انضفر أيضاً في الصراع الأيديولوجي بين معسكري اليمين الجديد الشعبوي الذي يقوده بنيامين نتنياهو ويجمع تحت مظلته المتدينين من التيارات الاستيطانية المتزمتة والحريديم وتيارات واسعة من الشرقيين، ومعسكر وسط – يسار علماني يغلب عليه طابع أشكنازي وينضوي تحت مظلته بالأساس أبناء الطبقات العليا والوسطى من سلالات “المؤسسين” الذين يرفعون راية “المؤسساتية” و”الدولانية” ويحلمون بإعادة إسرائيل “إلى مجدها” الذي يقصد به إجمالاً فترة هيمنة حزب “مباي” في عقودها الأولى، على الرغم مساعيهم الحثيثة لنزع صفة “ورثة” مباي عنهم والابتعاد قدر الإمكان عن ربطهم به.
يمكن القول إن الأزمة الانتخابية المستعصية التي تعيشها إسرائيل منذ أكثر من ثلاث سنوات وتمخضت عن إجراء أربع جولات انتخابية وجولة خامسة بعد أقل من شهرين، حددت الصراعات التي تقع في عمق المجتمع الإسرائيلي، والتي فشل “فرن الصهر” الذي تبناه “مباي” في عقوده الأولى في تفكيكها لتخليق هوية جماعية “إسرائيلية” متجانسة، وكشفت الأزمة عن أن التصدعات الإثنية بين شرقيين وأشكناز وعلمانيين ومتدينين تحولت إلى جزء لا يتجزأ من الكينونة المجتمعية وأنها تعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة، مرة تحت عنوان الصراع بين الشعبوية والدولانية ومرة على أساس الصراع على الحيز العام والحريات الشخصية.
وعلى الرغم من أن الصراعات الداخلية كانت حاضرة في النتاج الأدبي والثقافي – إذ تم تناول الصراعات الإثنية في السينما والأدب بأسلوب كوميدي أحياناً كما هي الحال في فيلم صالح شباتي الذي كتبه إفرايم كيشون عام 1964 وفي كتابات سامي ميخائيل الروائية المختلفة، كما في الكتابات السوسيولوجية الكثيرة وأشهرها كتابات سامي سموحة وغيره، كما كتبت مئات الكتب والأبحاث عن الصدع العلماني الديني وعن الصراعات على الهوية – فإن هذه الصراعات لم تكن تشكل مصدر خوف حقيقي على مستقبل إسرائيل بل فُهمت بوصفها جزءاً من دينامية داخلية مركبة يمكن احتواؤها، وكان القلق يحول عادةً إلى الصراع القومي والخوف مما يحمله بالأساس. بدأت هذه الصورة تأخذ مؤخرا اتجاهاً آخر، حيث نشر عدد من الأعمال الثقافية والكتابات الأدبية والنتاجات السينمائية التي تحمل طابعاً نبوئياً سوداوياً، وأخرى تسعى لطرح الخروج من الواقع المأزوم الذي وصلت له الصهيونية.
قد لا تكون هذه الظاهرة مقتصرة على إسرائيل، بل هي جزء من نزعة عالمية متشائمة مما يحمله الغد في ظل تزايد قوة اليمين المتمادي والشعبوي والأصولي ومخاطر الانزلاق مجدداً لفاشية جديدة، لكنها تأخذ طابعاً مهماً في إسرائيل لما تكشفه عن قلق حقيقي ينتاب شريحة واسعة من المثقفين من أن إسرائيل لا يمكنها أن تنجو من تبعاته وأن وجودها ككل أصبح مهدداً.
من بين الأعمال اللافتة التي صدرت في إسرائيل رواية الثالث ليشاي سريد التي صدرت بالعبرية في 2015 ونشر مركز مدار ترجمتها العربية التي أنجزها هشام نفاع في 2020، وفيلم أسطورة خرابللمخرج غيدي دار الذي أطلق في 2021، وقصة الهيكل الثالث لـ أ. ب. يهوشع التي صدرت في نيسان 2022 وكتاب البيت الثالث لأري شفيط 2021 التي تتشارك في اتخاذها من ثيمة “الهيكل”، بأبعاده المركبة التاريخية والقومية، نقطة أرخميدس التي من خلالها يمكن الإدلاء بموقف تجاه الحاضر، سواء أكان الموقف التحذير من نهايات قيامية وخراب نهائي أم تصوراً للخروج من الأزمة قبل الانزلاق النهائي.
مملكة الهيكل الثالث – الخطر من الأصولية الدينية
تدور أحداث رواية الثالث ليشاي سريد في زمن مُتخيّل يلي قياماً مُتخيّلاً لـ”الهيكل الثالث”، ويشهد على خرابه، يحدث ذلك بعد أن تكون قنابل نووية دمّرت مدن الساحل في إسرائيل وفي مقدمتها مدينة تل أبيب، حيث يقود التغيير فلكيّ مُرتدّ عن الدين يعيده التجلّي الإلهي في النقب إلى دين آبائه، وينجح في توحيد من تبقّوا من الشعب حوله في منطقة الجبل.
ويقوم الإسرائيليون، الذين نجوا، بطرد الفلسطينيين (“العماليق”) من البلاد، ويؤسسون مملكة جديدة برئاسة الفلكي، ويبنون الهيكل الثالث ويعيدون ممارسة العبادة فيه، لكن بعد مرور نحو خمسة وعشرين عاماً تتورّط “مملكة إسرائيل الجديدة” في حرب أخرى مع جيرانها العرب ينتج عنها خراب الهيكل الثالث.
الكراهية المجانية – الطريق نحو الهاوية
في الجهة الأخرى يأتي فيلم “أسطورة خراب” الملحمي برؤيوية سوداوية قاتمة تروي قصة خراب الهيكل الثاني والدمار الذي حلّ على اليهود بسبب الصراعات الداخلية، والتطرف الأصولي والتزمت الشديد. هذا الفيلم صنع باستخدام أكثر من 1500 صورة مرسومة من إنتاج دافيد بولونسكي وميخال فاوست وبمرافقة موسيقى ملحمية تدمج الصلوات الدينية والنفخ بالبوق بما يحمله من رمزية دينية وقيامية. تدور أحداث الفيلم حول ما يسمى بالعبرية “التمرد اليهودي الكبير” الذي جرى ضد الحكم الروماني بين عامي 66 و70 بعد الميلاد وانتهى بخراب الهيكل الثاني وطرد اليهود من القدس، ويسرد الفيلم تدهور أحوال اليهود بعد تمردهم على الحكم الروماني نحو حرب أهلية دامية، انتهت بسيطرة المتعصبين على المدينة المقدسة.
وتسرد قصة التمرد والحرب الأهلية من وجهة نظر بن بطيح، الذي تحول من شاب ساذج لأحد القادة المتعصبين تدفعه مطامحه لتحقيق العدل والحرية نحو القيام بأعمال متطرفة تجلب الخراب على الهيكل والشعب اليهودي معا، ويعيد الفيلم التذكير بمفهوم “الكراهية المجانية” التي تحولت إلى جزء من الموروث اليهودي وتسببها في الخراب. وتعبر “الكراهية المجانية” عن كراهية غير مبررة، حيث يصب شخص أو جماعة كرهه على جهة ما بدون سبب جدي، بسبب اختلاف في الرؤية أو الانتماء لجماعة أخرى، حيث تسببت الكراهية المجانية بين الجماعات اليهودية في النهاية في تدمير المدينة المقدسة وفق المروية اليهودية المتوارثة.
والكراهية المجانية هي التي تشكل بحسب رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك، التهديد الوجودي الحقيقي على مستقبل إسرائيل، والتي أشار لها في مقالته التحذيرية[1] التي نشرها في 8 أيار 2022 في صحيفة “يديعوت أحرونوت“. ومما جاء فيها: ليس الإرهاب ولا الفلسطينيون أو حزب الله، ولا إيران النووية، إن العدو الأخطر هو الصدع الداخلي، التحريض، التعصب والانقسام… هي ذاتها الكراهية المجانية التي تسببت بتدمير عالم اليهود السابق بحسب الحكايات الموروثة.
وجاءت مقالة باراك هذه مسكونة بخوف مما يسمى بـ”لعنة العقد الثامن”، فقد حمل العقد الثامن في مملكة داود ومملكة الحشمونائيم بدايات تفكك سيادتهما، إذ انقسمت بحسب الرواية المتخيلة مملكة داود في عقدها الثامن إلى مملكة يهودا ومملكة إسرائيل، ودخلت مملكة المكابيين مرحلة الاستقطاب الداخلي واستعان خلالها بعض ممثلي الأقطاب اليهودية بالرومان من أجل تفكيك مملكة الحشمونائيم وتعيينهم حكاماً من قبل روما بدلاً منهم، وصولاً إلى خراب الهيكل الثاني ودمار المدينة المقدسة، كما كتب في التلمود.
هل ما زال هناك حل؟
هل ما زال بالإمكان انقاذ إسرائيل من ذاتها؟ كيف يمكن أن يتم ذلك؟ يعتقد كثيرون أن الوقت أصبح متأخراً وأن إسرائيل دخلت إلى طريق النهايات الأكيد.
هذا ما يعتقده ب. ميخائيل الذي كتب في مقالة متشائمة “أنا يهودي منفوي فخور.. قريباً سنجلب على ذاتنا الخراب والمنفى”،[2] والأمل من تغيير داخلي ينهي الظلم الذي تمارسه الدول لم يعد ممكناً، فقط “حدث عالمي خارجي غير محسوب، “بجعة سوداء” غير مفكر فيها، ستحدث التغيير”.
من جهته كتب يائير شيلغ أن إسرائيل تنزع نحو حرب باردة يمكن أن تتطور إلى حرب أهلية حقيقية على خلفية التوتر الشديد بين العلمانيين والمتدينين، والذي يتموضع حاليا بين يمين ديني وبين يسار علماني، هذا الصراع يتخذ شكل مواجهة خطابية عنيفة وانعدام أي استعداد بين الطرفين للتوصل إلى حل وسط بينهما.[3]
المستقبل البائس ليس قدراً.. هذا ما يعتقده آري شفيط ويعبر عنه في كتابه “بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب“، الذي سبق أن استعرضناه بتوسع في “المشهد الإسرائيلي”، وجاء الكتاب بحسب شفيط ليعبر “عن حُبّ كبير وقلق كبير على إسرائيل” وفيه يحاول إيجاد سبيل الذهب للخروج من مأزقها الداخلي وتصدعاتها العميقة”. وشفيط مثل باراك يشير إلى أن إسرائيل “دولة عظمى عسكرياً وتكنولوجياً وحديثة وثابتة اقتصادياً” إلا أن قوتها هذه مُهدّدة ليس بسبب مخاطر خارجية، بل بسبب التمرّدات الداخلية، وبسبب عدم بروز نموذج جامع جديد قادر على تأليف الجماعات المختلفة والمتنازعة، هذه التمرّدات التي فكّكت الدولانية القديمة وأُسس هيمنتها، لم تُفكّك إسرائيل كدولة بل فككت هويتها الداخلية الجمعية الواحدة، وهي تُهدّد بتحويل إسرائيل من دولة إلى قبائل متصارعة، أو كما في العنوان “المملكة إلى قبائل” في إحالة إلى الحرب الاهلية التي أسهمت بحسب السردية اليهودية السائدة في انهيار المملكة الثانية وخراب الهيكل الثاني، غير أن ما يُشير إليه شفيط هو أن نجاح “المملكة الثالثة” إجباري لأنه لن يكون هناك “مملكة رابعة”؛ أي لن تكون فرصة أخرى جديدة.
هيكل على جبل الزيتون؟ تخبطات بلا إجابة
لكن هل من الممكن التوصل إلى توافق داخلي يهودي لا يهدد بحرب إقليمية إذا كان بناء الهيكل الثالث في قلب المشروع الديني الصهيوني؟ كيف يمكن تجاوز موضوع بناء الهيكل الثالث والتوصل في الوقت نفسه إلى سلام مع الفلسطينيين؟ ربما يمكن ذلك لكن هذا ليس مؤكداً، كما يستشف مما جاء في قصة الهيكل الثالث، وهي القصة الأخيرة التي كتبها أ. ب. يهوشع قبل وفاته في حزيران الفائت.
تدور أحداث القصة حول السيدة أزولاي، وهي امرأة يهودية وحيدة من أب يهودي وأم متهودة من أصول كاثوليكية فرنسية، يتوفى والدها قبل بلوغها ليأخذ رجل دين يهودي من مواليد إسرائيل في فرنسا على عاتقه مسؤولية تربيتها بحسب الشرائع اليهودية، ويستغل دوره هذا للتحرش بها مسببا لها صدمة عميقة، وحين تكبر الفتاة وتقع في غرام شاب يهودي من أصول فارسية يستمر في مساعيه من أجل هدم علاقتها عبر وضع مؤامرة خبيثة لإفساد زواجها بادعاء أن تهويد والدتها لم يكن صحيحا من الناحية الدينية وبالتالي فإن يهوديتها هي أيضا مشكوك بها. لاحقاُ تصل الفتاة إلى مقر الحاخامية اليهودية في تل أبيب في زيارة سرية ومستعجلة للحديث مع الحاخام الأكبر، وخلال الحديث الذي يشوبه كثير من الغموض يطرح الراوي أسئلة الصراعات بين الأجيال والأفكار والتوترات بينهم وبين الأديان وغيرها، وفي نهاية القصة تعرض السيدة أزولاي رؤية غريبة لحل الصراعات بين “الأديان السماوية” الثلاث من خلال إقامة هيكل ثالث على قمة جبل الزيتون بحيث تلغى الصراعات بين الجميع. من خلال ذلك يتم إعطاء جواب للحلم المسياني اليهودي بدون المس بالوجود الإسلامي في الحرم الذي يقع عليه الهيكل بحسب الرواية اليهودية[4].
هذا الحل الساذج الذي تطرحه السيدة أزولاي اليهودية المشكوك بيهوديتها التي تجمع معا هويات مختلفة كاثوليكية ومتهودة وإسرائيلية وقصة حب مع رجل شرقي وقلق يتعلق بمن هي وما هي هويتها، يراد له أن يعطي جوابا للخروج من مصيدة صراع الهويات الذي يشكل السياق العام للصراع، لكنه حل بلا مقومات، مجرد معادلة تلصقها على حائط في تل أبيب، لتنتهي القصة نهاية مفتوحة بلا إجابة مع خروج الحاخام نحو دكان الخضار اليانعة لشراء قائمة الخضروات التي طلبتها زوجته بالهاتف.
[1] https://www.ynet.co.il/news/article/r1owic4l5
[2] https://www.haaretz.co.il/opinions/2022-05-31/ty-article/.premium/00000181-13f0-d71c-a3c9-d3f33d850000
[3] يائير شيلغ، لنوقف الحرب الأهلية، 29.6.2018 : https://www.idi.org.il/articles/24267
[4] أنظر/ي تحليل آفي غرفينكل لقصة أ.ب. يهوشع في هآرتس
عن مدار – ملحق المشهد العدد 547