يوم الجمعة الخامس من شباط/فبراير أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، وبعد مداولات استمرت لسنوات، قرارها في ستين صفحة بإجماع قضاة الدائرة التمهيدية إلا قاضيا واحدا، والذي ينص على الآتي: «لهذه الأسباب، تقر (الدائرة التمهيدية) أن فلسطين دولة طرف في النظام الأساسي؛ وتقر بالأغلبية، القاضي كوفاتش معارضا، نتيجة لذلك، أن فلسطين توصف بأنها «الدولة التي حدث السلوك المعني في إقليمها». ولأغراض المادة 12 (2) (أ) من النظام الأساسي؛ تجد الدائرة، بالأغلبية، القاضي كوفاتش معارضا، أن المحكمة تملك الولاية القضائية على الوضع في فلسطين، وتمتد ولايتها إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وتحديداً غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية».
قرار لا شك مهم، اعتبره بعض المسؤولين الباحثين عن انتصارات بأنه اختراق عظيم، وكأننا نشاهد جنرالات الحرب الصهاينة مقيدين في الأصفاد، وفي طريقهم إلى الزنازين في لاهاي. وهذا أمل بعيد المنال، والطريق إليه طويل وشاق، ويحتاج إلى عمل دؤوب ومتواصل، خاصة من قوى المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وروابط أهالي الضحايا والأسرى والمعتقلين. إذن من المبكر أن نقيم الأفراح والليالي الملاح على قرار ما كان أمام المحكمة إلا الانصياع للنص القانوني.
فبعد انضمام فلسطين لقانون روما الأساسي كعضو كامل العضوية عام 2015 وحسب المادة 12 من نظام روما، فليس أمام المحكمة إلا أن تصدر مثل هذه الفتوى. لكن المحكمة ولأسباب معروفة من بينها الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، أعادت فتح ملف ما إذا كان للمحكمة ولاية على الأراضي الخاضعة لدولة فلسطين، لتعود وتقول بعد سنوات نعم للمحكمة ولاية قانونية على أراضي الدولة العضو، والمحددة بالضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة. عملية المماطلة وإعادة البحث كانت نوعا من التهرب من مواجهة الحقيقة الواضحة قانونيا. ولكن لنقل إن قرار يوم 5 فبراير حسم هذا الأمر ووضع حدا للنقاش، فهل سينتهي الأمر عند هذا الحد وتسير الأمور بسهولة؟
الصعوبات المقبلة
إذا استغرق الوصول إلى هذا القرار ست سنوات، فماذا نتوقع للمراحل المقبلة؟ كم سنة ستستغرق المحكمة ومحققوها في جمع الأدلة والوثائق وشهادات الشهود، ومعاينة الأمكنة ولقاء الضحايا والاستماع إلى شهاداتهم، ولقاء المحامين وجمعيات حقوق الإنسان التي وثقت الكثير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتصنيف تلك المداخلات والشهادات والتحقق من صدقيتها، وهذا يشمل كذلك التحقيق في ما جاء في تقرير وليام شاباس، ومن قبله تقرير غولستون من استهداف المدنيين في الجانب الآخر من قطاع غزة، عن طريق المقذوفات الصاروخية. ولكن هذا يتطلب تعاونا إسرائيليا، وهو ما لا نتوقعه، لأن التعاون يعني قبول قرار المحكمة وقبول ولايتها على المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة. وبما أن إسرائيل ليست عضوا في نظام روما الأساسي، لذلك فهي ليست معنية بالتحقيق في ما ارتكب على أراضيها من انتهاكات. أما الجرائم التي ارتكبت في الأرض الخاضعة للسلطة الفلسطينية فلا مجال لتهرب إسرائيل منها بعد أن قبلت عضوية فلسطين في نظام روما، فقانون المحكمة واضح في مسألة ولايتها حول الجرائم التي ترتكبها دولة عضو أو تُرتكب في أرض دولة عضو. بعد جمع الحقائق والإثباتات والشهادات والوثائق يقوم قضاة المحكمة وبعد مداولات قد تستغرق سنوات، بتوجيه التهم للأفراد الذين ثبت، بما لا يقبل الشك، ارتكابهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وكذلك القيادات، فردا فردا، التي أصدرت الأوامر لهؤلاء المتهمين للقيام بمثل ما قاموا به. تبدأ بعدها إجراءات المحاكمة غيابيا وبحضور محامي الضحايا والشهود، ومحامي المتهمين إذا قرروا الحضور والمشاركة. وقد تأخذ المحاكمة سنوات أيضا، ولنفترض أن المحكمة سارت بطريقة مهنية بعيدة عن الضغوط والتسييس، وأصدرت مجموعة أحكام لعدد من الضباط الإسرائيليين وقياداتهم المباشرة، التي أصدرت أوامر استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، كالمدارس والمستشفيات، والمباني السكنية، ودور المسنين والأطفال والنساء، فهل سيتم اعتقال أي منهم؟ هل ستتعاون أوروبا والمجتمع الدولي لضبط هؤلاء الضباط وقياداتهم وتسليمهم للمحكمة؟ هذا هو المفروض. لقد صدر قرار بتوقيف طاغية السودان عمر البشير، في 14 تموز /يوليو 2008 وبقي في الحكم لغاية 2019 زار خلال هذه الفترة نحو 20 دولة ولم يسلمه أحد للمحكمة.
المهم الجرأة على محاكمة ضباط إسرائيليين، وإصدار أحكام بعد إدانتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. عندها تتثبت المحكمة أنها غير مسيسة، لا تنحاز إلا للقانون وليس لمحاكمة الأفارقة فقط.
الجرائم التي سيحاكم عليها الجنرالات الصهاينة
أود أن أذكر أن هناك ثلاثة ملفات أساسية أمام المحكمة: أولا حرب 2014 على غزة وممكن توسيع الملف ليشمل حرب 2008-2009، وثانيا- ملف الاستيطان وهو جاهز وقد قدم للمحكمة في لاهاي. وهذا الملف واضح المعالم وانتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحرم نقل مواطنين من البلد القائم بالاحتلال إلى المناطق المحتلة. ثالثا- ملف الأسرى والمعتقلين، خاصة الاعتقال الإداري، واعتقال الأطفال وتقديمهم لمحاكمات عسكرية. فهناك الآن نحو 5700 أسير فلسطيني في سجون جزء منها داخل الكيان وهو محرم دوليا. ومن بين السجناء نحو 700 مريض لا يكاد يمضي شهر أو اثنان إلا ونسمع بوفاة أحدهم نتيجة الإهمال الطبي، كان آخرهم كمال أبو وعر الذي توفي في تشرين الثاني/نوفمبر 2020. ويصل عدد الأطفال المعتقلين نحو 240 طفلا منهم 160 طفلًا وطفلة في معتقلات «مجدو» و»عوفر» و»الدامون»؛ إضافة إلى وجود عدد في مراكز التوقيف والتحقيق، فضلاً عن عدة أطفال من القدس تحتجزهم في مراكز اجتماعية خاصة. ويتم تقديم ما بين 500-700 طفل أمام المحاكم العسكرية سنويا، وهو خرق فاضح للقانون الدولي يجب أن تدفع إسرائيل ثمن هذه الجرائم. وأود أن أضيف إلى هذه الملفات الثلاثة عددا من الجرائم الكبرى التي يجب أن تقدم ملفاتها للمحكمة. يجب أن يكون هناك هجوم قانوني كاسح ضد إسرائيل يشمل كل ممارساتها على الأرض وتحت الأرض وفي البر والبحر والجو.
- حصار غزة منذ عام 2007 وهو يدخل ضمن العقوبات الجماعية التي تعتبر انتهاكا للقانون الدولي.
- تهويد القدس وانتزاع ملكية البيوت من أصحابها، رغم أن مجلس الأمن اعتمد أكثر من سبعة قرارات حول القدس، أهمها القراران 476 و478 عام 1980 بعد إصدارإسرائيل القانون الأساسي لضم المدينة، وإعلانها رسميا عاصمة دائمة وموحدة.
- هدم البيوت والقرى وتشريد سكانها، كان آخرها خربة حمصة في شمال غور الأردن، وقبلها هدم 100 شقة مرة واحدة في صور باهر وتشريد 500 مواطن. وتقارير هدم البيوت تملأ صفحات تقارير مكتب منسق الشؤون الإنسانية في فلسطين المحتلة.
- بناء جدارالفصل العنصري الذي يزيد طوله على 480 ميلا، وأدى إلى خنق العديد من القرى والمدن الفلسطينية وابتلع 15% من أرض الضفة الغربية. وقد قامت محكمة العدل الدولية، بالتداول في شأن الجدار وأصدرت فتواها يوم 9 يوليو 2004 التي تنص على أن الجدار غير شرعي، ويجب أن يفكك وأن يتم تعويض الفلسطينيين المتضررين. إسرائيل لم تعر ذلك الراي أي اهتمام وتابعت بناء الجدار.
- الاستيلاء على المصادر الطبيعية، خاصة المياه التي تعود ملكيتها للشعب الفلسطيني، وقد اعتمدت عدة قرارات دولية بهذا الخصوص. كما يشمل هذا الاستيلاء على شواطئ غزة وكذلك على الحزام الفضائي الفلسطيني، الذي يعتبر ثروة وطنية من أجل الاتصالات وإقامة الهوائيات وأمواج الإذاعة والتلفزيون وشبكة الإنترنت.
- احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين وهو ممارسة غريبة لا يوجد لها مثيل في العالم. وقد يصل عدد الجثامين المحتجزة حاليا إلى 51.
هذا غيض من فيض وأتمنى على المختصين بالقانون الدولي، توسيع دائرة توثيق الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل على مدار السنين الماضية، والتي تملأ مجلدات.
الخوف من التراجع
أخشى، أنا وغيري، أن يتم التنازل عن هذا الحق مقابل ضغوط سياسية ووساطات عربية وأوروبية، ووعود ببعض الامتيازات والصفقات والرشوات السياسية. لقد عودتنا سلطة أوسلو أن تتنازل عن متابعة التقارير الدولية حول جرائم الحرب الإسرائيلية، واستبدال ذلك بنوع من الصفقات المؤقتة التي ما تلبث أن تتبخر. لقد قبلت إلغاء وفد التحقيق في مذبحة مخيم جنين عام 2002، بسبب الضغوطات، وفضت اجتماع جلسة للأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة في جنيف يوم 15 يوليو 1999 بعد دقائق من بدء الجلسة بسبب الضغوطات والتهديدات التي وصلت للسلطة الفلسطينية. أما تقرير غولدستون عن حرب 2008/2009 وقبل أن يجتمع مجلس حقوق الإنسان لمناقشة التقرير يوم 2 تشرين الأول/أكتوبر 2009 وصل هاتف للسفير الفلسطيني، طالبه بسحب التقرير وتأجيل مناقشته والتصويت عليه. إنها فرصة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وإجبارهم على الاختباء في جحورهم كالفئران أو اعتقالهم. وكما قال ديفيد لنك، المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة: «لن يتغير شيء في سلوك إسرائيل إذا لم يكن هناك مساءلة».
عن القدس العربي