قرار الجنائية الدولية… الانفصام الإسرائيلي في تعريف العدالة
أثار قرار الجنائية الدولية عاصفة قوية من الردود الإسرائيلية، فلم يبق أي تيار أو صاحب منصب أو صحافي إلا وأعلن رفضه للقرار وعصيانه أمام قرار المحكمة الدولية بتوقيف بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة.
لن أدخل هنا في تحليل القرار وحيثياته ومآلاته الممكنة، فكلها أُشبعت تمحيصا وتفكيرا وتحليلا، قبل القرار وبعده. لكنني معني هنا بوصف الحالة الإسرائيلية المستعرة ضد القرار– ويكفي هنا أن ننظر إلى بعض الردود من جهات رسمية مختلفة فيما بينها في قضايا داخلية، ومتفقة في ردها الرافض لقرار المحكمة الدولية.
رد نتنياهو المتهم شخصيا بالجرائم من جهة والمستشارة القانونية للحكومة بهاراف ميارا والتي سعت وتسعى يوميا لوضع نتنياهو في قفص الاتهام بارتكاب جرائم الفساد والغش وغيرها، وتقديمه للمحاكمة أمام المحاكم الإسرائيلية، من جهة أخرى.
وإذا قمنا بنظرة سريعة على ردود زعماء أحزاب الوسط واليسار الإسرائيلي، ومنهم لابيد رئيس حزب “يش عاتيد” (يوجد مستقبل) وحزب “كاحول لافان” (أزرق أبيض) اللذان ينتقدان نتنياهو بأنه فاسد وغير مهتم بحياة الإسرائيليين– في سياق عدم تنفيذ صفقة لإرجاع كل المخطوفين من قبل “حماس” في غزة نجدها لا تختلف جوهريا عن رد نتنياهو وبهاراف ميارا. إنها جميعا وإن اختلفت في قضايا داخلية، فإنها متفقة على دعم السياسات المجرمة في غزة والضفة الغربية ولبنان، كما أنها متفقة على رفض الشرعية الدولية.
إن إسرائيل مختلفة جديا في قضايا لها معنى جدي في الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وما يسمى الديمقراطية الإسرائيلية وسلطة القانون ومنع الفساد… إلخ.
الخلافات الداخلية، وفي قضايا جوهرية وجدية، تناقش وتجادل ويتم التظاهر لأجلها. ولذلك يلجأ نصفها الأول تاريخيا، والذي تمتع بالكثير من الامتيازات، إلى المحاكم فيها ضد نصفها الثاني تاريخيا، الذي يتطلع إلى الانتقام من نصفها الأول على ما لحق به من إجحاف خلال الفترة الممتدة من إقامة الدولة وحتى يومنا هذا.
وبذلك فإن تفسيرا مركزيا لما يجري في سياق “الانقلاب القضائي” أو على الأقل لجزء من الحدث، يتعلق بحفظ الامتيازات مقابل سعي المجموعات التي سحقت تاريخيا إلى التمكن أكثر وجني ثمار الانتصار السياسي من خلال ضرب مؤسسات ترعى برأيهم مصالح المؤسسين وقبيلتهم ومن حولها. هذه الخلافات أدت ببعض محللي المنصات الإعلامية العربية إلى التنبؤ بأن إسرائيل في طريقها إلى الانهيار، وقريبا.
إلا أن إسرائيل نفسها تكشف لنا مرة بعد الأخرى، أنها في مسألة الانتقام من الفلسطينيين وفي مسائل الحرب والسلام مع الجوار، وفي موقفها في مجابهة قرار المحكمة الدولية التي تتهم قيادات إسرائيلية، ومن خلفهم إسرائيل بجيشها وشعبها ومؤسستها الأمنية والسياسية والقضائية، أنها شرعت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في حرب شاملة تخللتها جرائم إبادة وتهجير وتطهير عرقي وتجويع وإذلال وكل رذائل العقل البشري منذ ولادة الدولة وإلى يومنا هذا، فإنها في هذا تقف جميعها موحدة وواحدة. تتحدى الإرادة الدولية وتمتنع عن الاعتذار والانضباط، وحتى تسعى إلى التأكيد بأنها مستعدة لتنفيذ المزيد من الجرائم.
إن كل ما تقدم يتصل جوهريا بنقاش دولي وعربي، أكاديمي وشعبي، عن جوهر إسرائيل وما سبقها من مستوطنين يهود أتوا جبرا أو اختيارا من أوروبا وغيرها إلى فلسطين. والنقاش يدور جوهريا بين فكرة العنف كمتأصل في الصهيونية، أو أن العنف هو حالة تكتسب تدريجيا وفي سياق التطورات السياسية. هذا النقاش سيرافقنا لسنوات طويلة، لأنه من غير الممكن أن نحسم به.
فالصهيونية كحركة استعمار استيطاني تتطلع إلى إحلال، اليهود وغيرهم، مكان الفلسطينيين الأصليين، وقد طورت قبل النكبة وخلالها وبعدها طرق عنفها ضد الفلسطينيين، وصولا إلى ارتكاب جرائم غير مسبوقة في غزة ولبنان خلال العام الأخير.
من جهة أخرى لا نستطيع أن نفهم إذا كانت الصهيونية أصلا تستطيع أن تسلك طريقا آخر غير متورط بالعنف وبالدم الفلسطيني والعربي، لأنها ببساطة لم تقم بذلك. كانت هنالك مراحل أو محطات بعثت الأمل في ذلك، على سبيل المثال بعد اتفاق السلام مع مصر عام 1979 أو الأردن 1994 أو الفلسطينيين في “أوسلو”، إلا أنها جميعها كانت مؤقتة، حتى إن إسرائيل استغلت أجواء السلام والتهدئة النسبية للقيام بجرائم أخرى في مناطق أخرى.
وإذا اخذنا أعمالا موثقة لأكاديميين دوليين وإسرائيليين وفلسطينيين عن تطورات السيطرة على فلسطين من قبل الصهيونية كحركة إحلال استعماري، فإننا نستطيع الإشارة إلى توثيقات مهمة تشير إلى استمرارية عنف الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، قبل النكبة وبعدها.
ومؤخرا أصدرت الباحثة الفلسطينية الصاعدة أريج صباغ-خوري كتابها “استعمار فلسطين” (جامعة برينستون–2023) وبه توثيق مهم عن دور اليسار الصهيوني وحركة “الحارس الفتي” (هشومير هتسعير) في الاستيلاء على القرى الفلسطينية في مرج ابن عامر في فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما وصولا إلى النكبة وتنفيذ تطهير عرقي شبه كامل للفلسطينيين في منطقة مهمة تقع جغرافياً في وسط فلسطين.
إن قيام يسار الحركة الصهيونية والتي تغنت بشعارات “أخوة الشعوب” والتعددية والمساواة قبل قيام إسرائيل وبعد ذلك، وشاركت في حكومات بن غوريون ومن تلاه، أي إنها شاركت في الجرائم ضد الفلسطينيين منذ بداية المشروع الاستعماري وصولا إلى الدولة وجرائمها منذ إقامتها ضد الفلسطينيين والعرب، من مواطنيها ومن غيرهم، إنما يمثل حالة التكامل بين تيارات صهيونية وإسرائيلية مختلفة فيما بينها في قضايا داخلية، إلا أنها متفقة على قمع الفلسطينيين وغيرهم من العرب، وقتلهم وإرهابهم ونفيهم في سبيل السيطرة على وطنهم واستبدال أهله وتوطيد نظام تفوق عرقي شامل، ومستعد لتنفيذ أعتى الجرائم في سبيل ذلك.
عند مراجعة ردود الإسرائيليين على قرار المحكمة الدولية، فإنه من الضروري أن يوضع ذلك في سياق: خلاف إسرائيلي جدي في قضايا داخلية، واتفاق شامل في قضايا تتعلق بقمع الفلسطينيين والسيطرة على بلادهم وحتى ملاحقة من يناصرهم أو يقترب من ذلك من خلال اتهامه باللاسامية وملاحقته، حتى لو كان في أبعد نقطة عن فلسطين. إنها باختصار ماكينة تبدو مفككة داخليا- وهذا غير صحيح، ومتماسكة خارجيا أو في مواجهة من تعتبرهم أعداء خارجيين- وهذا صحيح.
بين هذا وذاك، من المؤكد أن إسرائيل حساسة جدا وقابلة للضغط خارجيا وداخليا، وهذا يستدعي أعلى درجات التنسيق أو على الأقل التجانس بين خطوات تتطلع لحصار إسرائيل سياسيا. هناك دور سياسي هام جدا للفلسطينيين من مواطني إسرائيل، وكذلك للسياسة الفلسطينية في إعادة الاعتبار لحركة وطنية فلسطينية منظمة وتعمل بنجاعة، ولأهل الضفة والقدس في تعضيد الصمود، وللعالم العربي في مساع دبلوماسية وفي دعم الفلسطينيين لتأكيد صمودهم، وفي دول داعمة للنضال الفلسطيني، وفي مظاهرات شعبية وجهود مقاطعة من المهم ترشيدها والتأكد من استمرارها، وفي جهود مؤسسات دولية تفضح الممارسات الإسرائيلية، ومنها قرارات الهيئات الدولية التابعة للأمم المتحدة، كما للمؤسسات الحقوقية وآخرها قرار محكمة الجنائيات الدولية وفي القريب بقرار مماثل من محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا بشأن ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة في غزة، وغير ذلك من النشاطات والجهود من أجل الدفع لتحقيق العدالة في فلسطين ولجم الوحش المنفلت في إسرائيل ضد جواره الفلسطيني واللبناني والعربي والإسلامي.
كل هذا من المهم أن يتم استيعابه كتطور في سياق عملية تراكمية تتطلع إلى تفكيك تبعات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وعلى رأسها وقف جرائم الصهيونية وإسرائيل وإبطال نظام التفوق العرقي-الأبرتهايد وتداعياته. من المهم أن يتم وضع مشروع استراتيجي فلسطيني يتضمن الأهداف والوسائل والقيام بعملية تنظيم وترتيب للجهود حتى نصل إلى طريق واضح يوصلنا إلى نهاية المعاناة العربية عموما والفلسطينية خصوصا.
لكل هذا من المهم أن يكون هناك فريق قائد وقادر على إدارة دفة الأمور، من المهم أن تكون قيادة فلسطينية وعربية قادرة على ذلك. الأداء العربي غير كاف، والأداء الفلسطيني حتى الآن فاشل بامتياز، فبناء قيادة فلسطينية موحدة وقادرة وفاعلة هو شرط وصول العملية التراكمية، التي يشكل قرار الجنائية الدولية جزءا منها، إلى إنجازات تسعى لإخراج الفلسطينيين من محنتهم. الإرادة الناقصة هي فلسطينية، والإرادة المطلوبة هي كذلك فلسطينية، وقبل كل شيء من المهم أن نبدأ كفلسطينيين في عمل ناجع لأجل ذلك، وأن لا نستمر في مسلسل الفشل في التعامل مع تحديات داخلية وخارجية في الوقت نفسه.
عن المجلة