“قدوتنا رئيسنا”.. أين الخلل؟

إبراهيم فريحات”

العربي الجديد” 14 مايو 2019

طالبات في الصف العاشر اجتهدن ووضعن كتابا سمينه “قدوتنا رئيسنا”، يقتبس من أفكار الرئيس الفلسطيني محمود عباس وكتاباته، فيما نشره سابقاً من كتب يعود معظمها إلى فترة دراسته في الاتحاد السوفييتي عندما كان يحضر لنيل الدكتوراه. أثارت مبادرة الطالبات لتجميع الكتاب وإطلاقه نقاشاً مجتمعياً حاداً، لم يُعرف له مثيل في أزمات سياسية كبرى، كان جديراً بالمجتمع الفلسطيني التحرّك لمعالجتها، خصوصاً التي تتعلق بالانقسام وغيرها. وكعادتها، تُواجه الاختلافات بالرأي والصراعات بشكل عام بتحد كبير، يتمثل بتعريف ماهية المشكلة التي يدور بشأنها الاختلاف؛ فبينما يفترض المدافعون عن الكتاب أن الاحتجاج يجري على “مبادرة من طالبات صف عاشر”، يقول بعض المحتجين إن احتجاجهم على “نهج” و”تقديس أفراد” وعودة إلى كتاب ماو تسي تونغ الأحمر وكتاب معمر القذافي الأخضر وكتاب جوتشه لكيم إيل سونغ الكوري الشمالي. واللافت أن المشكلة ليست في الكتاب ومن أعده (الطالبات)، ولا حتى في من كُتب له (الرئيس)، وإنما هي بصدد من حضر حفل إطلاقه.اجتهدت الطالبات، وبمبادرة ذاتية منهن، وللمجتهد أجر إذا أخطأ وأجران إذا أصاب. نعم، قد يكون من الأجدى للطالبات التفكير بما هو خلاق ومبدع وبعيد عن التقليد، ولكن يبقى مبدأ المبادرة الذي يعزّز فرص التغيير المجتمعي لاحقاً، ويجب أن يُشكرن عليه. وعلى المحتجّين إدراك أن محاولة سحب الكتاب من السوق قد توقعهم ضحية لحسن نياتهم، فينتهوا بمحاولة مصادرة الرأي الآخر، وهو الأمر الذي عارضوه أصلاً. للطالبات الحق بكتابة ما شئن، ولكن من دون توزيعه على المدارس، فالكتاب في السوق ومن أراد شراءه فله ذلك. نُقل عن الرئيس عباس أنه أمر بطباعة الكتيب، “وأن يتم توزيعه على كافة المؤسسات التعليمية في الوطن”، ثم لم يصدر أي تأكيد أو نفي منه، كما أنه لم تصدر أي ترجمة فعلية للقرار، حتى يتم التأكد بأنه فعلاً أعطى الأوامر بذلك. وعلى الرغم من أهمية التصريح، كونه نقل على لسان عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، عزام الأحمد، إلا أن الأمر بحاجة إلى نوع من التروي، حتى يدخل باب التنفيذ، أو التأكيد من الرئاسة، وعندها لكل حادث حديث.تتعلق معظم التحفظات التي أثارها الكتاب بما بدر عمن حضر حفل إطلاقه، فقد أكد وزير التربية والتعليم، مروان عورتاني، على أهمية المبادرة، وشدد على “ضرورة وجود توجه مزدوج للمزج بين البعد الوطني والمعرفة”، مؤكداً التزام الوزارة بطباعة هذا الكتيب وتعميمه على المدارس. وعورتاني قامة علمية كبيرة، وقد درس الماجستير والدكتوراة في جامعة ليهاي العريقة في الولايات المتحدة، وصاحب إنجازات علمية كبيرة، ولكن تصريحه يثير إشكاليتين كبيرتين: تتعلق الأولى بفلسفة تربوية تعليمية، تؤكد على ضرورة تعليم الطلبة التفكير النقدي المبدع الخلاق، والبعيد عن التقليد وتقديس الأفراد والأبوية المجتمعية، بغض النظر من يكون هذا الفرد. وكما كتب الصديق خالد الحروب “هذه الأبوية التي كتب عنها هشام شرابي منذ عقود هي إحدى عوائق تقدم مجتمعاتنا، لأنها تنصب فوق المجموعة المعنية من العائلة إلى المدرسة إلى المؤسسة إلى الوزارة، وصولاً إلى هرم السلطة، آلهة صغيرة تتسلط على الأفراد، وعليهم أن يتبعوها من دون أي فكر نقدي، ومن دون الشعور بالتمكين الذي يتيح لأي فردٍ مهما كان صغيرا أن ينتقد من هو على رأس الهرم”.يشارك وزير الثقافة، عاطف أبو سيف، زميله وزير التربية والتعليم هذه الإشكالية، فهو الذي تعرّض لحادث مؤسف ومدان، قبل تعيينه وزيراً، كان المتوقع منه التركيز على وضع رؤية تغيير في الثقافة الفلسطينية، وتحديداً بشأن الجانب القائم على الولاء والطاعة للمسؤول، والذي يؤدي فيه إلى الاعتداء على كاتب وروائي سلاحه الكلمة. عوضاً عن ذلك، فقد حضر أبو سيف الحفل، ليساهم بتجسيد ثقافة الولاء والطاعة والأبوية وتقديس المسؤول، عوضاً عن التأكيد على قيم تفكير نقدي وحرية وتنوير واستقلالية ومساءلة.تتعلق الإشكالية الثانية في تصريح وزير التعليم بالحوكمة الرشيدة التي لا تسمح بـ”طباعة هذا الكتيب وتعميمه على كافة المدارس” من ميزانية الوزارة، وهذه أموال عامة ملك الشعب الفلسطيني، ومن غير المقبول تبديدها على مصروفات لكتب تقدّس القادة والأفراد، فهذا ليس في مصلحة القادة أنفسهم أصلا. الشعب الفلسطيني هو أوْلى بهذه الأموال، سيما وأن الحكومة الجديدة رفعت شعار الترشيد في المصروفات، خصوصاً في هذا الظرف الذي يجابه الغطرسة الإسرائيلية واقتطاعاتها الآلية بأمعاء خاوية.وكان لصورة صائب عريقات، حاملاً للكتاب المذكور دور محوري في إثارة الاحتجاجات التي تبعت حفل إطلاق الكتاب، فمن غير المفهوم وجود أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في حفل كتيب طالبات صف عاشر، في حين أن هناك خطة تصفية للقضية الفلسطينية معروفة بـ”صفقة القرن” سيتم إطلاقها بعد عيد الفطر، والمتوقع منه، بحكم موقعه كبير للمفاوضين الفلسطينيين، أن يكون منشغلاً بالعمل على جميع الجبهات لمقاومة الصفقة. وكان من المتوقع أن تظهر صورة عريقات وهو يرفع استراتيجية مقاومة “صفقة القرن”، عوضاً عن حمله كتيب طالبات صف عاشر يمجد القائد.بالمنطق نفسه، تُثار التساؤلات بشأن وجود عضو لجنة مركزية لحركة فتح، عزام الأحمد، في الحفل نفسه، وهو المسؤول عن ملف تسوية الانقسام البغيض الذي عانى منه المجتمع الفلسطيني، وأصبح عبئاً عليه يهدد بتصفية قضيته الوطنية، فهل الاستثمار الوطني لوقت مسؤول بحجم عضو لجنة مركزية في حركة فتح يكون في تمتين الجبهة الداخلية لمواجهة “صفقة القرن” التي على الأبواب، أم في مبادرة طالبات صف عاشر؟ ولا ينتقص هذا القول طبعاً من أهمية مبادرة الطالبات، فهو عن مسألة استخدام المسؤولين الفلسطينيين أوقاتهم وواجباتهم الوطنية. من جهة أخرى، يحمل الأحمد صفة حزبية، في حين أن حفل الطالبات من اختصاص مؤسسة وطنية (وزارة التربية والتعليم)، وليس حزبية، فهل كان من المتوقع أيضاً دعوة عضوي مكتب سياسي في الجبهة الشعبية وحركة حماس وممثلين عن بقية الفصائل؟ يعيد هذا الحدث إلى السطح ضرورة تنظيم العلاقة ما بين الحزب الحاكم (حركة فتح) والسلطة الوطنية، فالمزج بينهما مدمّر لكليهما. ومع ذلك، يجب أن لا تكون الاحتجاجات مدعاة قلق، على العكس يجب النظر إليها بإيجابية تامة، تؤكد أن المجتمع الفلسطيني ما زال حيا ونابضا، والأهم أنه قادرٌ على المساءلة، والتي بدونها يعيد المجتمع الفلسطيني نسخ الدكتاتوريات العربية والأنظمة الشيوعية البائدة، فهناك دساتير يتم تعديلها تسمح لبقاء الرؤساء فيها مدى الحياة، من دون أن تسمح الأنظمة باحتجاج واحد. والأمل في المسؤولين الفلسطينيين الذين جرى انتقادهم بشأن واقعة إطلاق “رئيسنا قدوتنا” أن يأخذوه بصدر رحب، ويتعلموا منه كيف يكون أداؤهم أفضل، بل عليهم أن يشكروا الذين جهروا بآرائهم بحرية ومسؤولية عالية، من دون مجاملة أو خوف.ويعطينا الاحتجاج على الكتاب أيضاً فرصة للتعلم، فالنقاش المجتمعي الذي دار بشأنه وفر فرصة للأفراد لنقاش قضايا، مثل المبادرة وحدودها والحريات العامة والمساءلة والعلاقة بين الحزب والسلطة ودور الفرد في المجتمع والفلسفات التعليمية المختلفة، وما كان ذلك ليتحقق لولا هذا الحدث الذي أثار اهتمام كثيرين، ووجدوا أنفسهم يجادلون بشأن هذه القضايا. وأعطى الحدث أيضاً فرصة للسياسيين للتفكير بما يقومون به، فوفر لهم فرصة ليتأملوا فيما يقومون به (reflection)، ومدى ملاءمته للتوقعات المجتمعية منهم، ولتوقعات المرحلة السياسية. والأهم أن الاحتجاجات رسخت مبدأ المساءلة في المجتمع الفلسطيني، والتي يفترض أن تتطور إلى درجات متقدمة مستقبلاً، فعلى السياسي أن يدرك أنه مُراقب، وأن هناك من يحاسب، وهذا لمصلحة السياسي أولاً، فبدون المساءلة يتحول المسؤول فاسدا، فالقوة تغوي وتوقع صاحبها، إن لم يكن هناك من يراقب ويحاسب.أخيراً، على الطالبات في مدرسة بنات البيرة الثانوية اللواتي أنجزن كتاب “قدوتنا رئيسنا” أن يفخرن أن مبادرتهم قد أثارت هذا المستوى من النقاش المجتمعي، فقد حققت أكثر مما كنَّ يتطلعن إليه، وتحديداً تنبيه المواطن إلى ما يفعل المسؤول بوقته، وربما تكون مبادرتهن المقبلة هو تجميع ما يريد المواطن الفلسطيني قوله لرئيسه ومسؤوليه، أي الشق الآخر من المشروع الذي بدأوه، لمواجهة تحديات تواجهنا جميعاً، وفي مقدمتها الخطر الداهم المتمثل بمشروع تصفية القضية الفلسطينية الذي يهدّد الجميع.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *