قادم من غزة كان في بيروت
كان من الممكن أن يكون ذلك أخر ساعاتي وكان من الممكن أن تكون عناوين أخبار فلسطين “خرج من غزة ليموت في بيروت”. على بعد كيلومتر ونصف تقريبا، أجلس على المكتب وأكتب متأخراً في ورقة بحثية حينما اهتز المكتب فجأة يمينا ويسارا. انقبض قلبي ووقفت مع الاهتزاز خلال ثانيتين نظرت للخارج وسمعت صوت الصفير. اعرفه، صوت صاروخ اف ١٦. هكذا اعتقدت، ولكن ثانية حتى انهار كل شيء. كل ما حولي انهار وتطاير الزجاج وكأنه صواريخ عشوائية. دخان في كل مكان، لا أرى شيء، أصوات الإنذار والصراخ في الخارج. جريت كالكلب اللاهث. عيون واسعة مفتوحة ومصدومة. حارس الأمن هرب، وترك المكان فلحقت به. “هناك انفجار.” تفقدت نفسي، جرح بسيط من زجاجة دخلت في يدي ورجلي اليمني. لا انترنت ولا هاتف. تركت المكان الى حيث أسكن لأتلقف بعدها الأخبار وأرى ماهية الانفجار. في اليوم التالي، رأيت الزجاج. استعجبت واستغربت من وجودي، فكل زجاجة أكبر من الأخرى في المكان ذاته كسكينة حادة حيث كنت أجلس وعن يميني وعن شمالي. من خيبات القدر أو معجزات ألا يموت الغزي بانفجار الا في غزة او ميتة عادية على سرير منفياً.
لم أعش حروب غزة الأخيرة كلها ولم أسمع أصوات الانفجارات الكبيرة. كان يوم الرابع من أغسطس العام الماضي اول مرة أسمع انفجار بهذا الحجم وأرى كل شيء يتطاير حولي. أول طلقة رصاص سمعتها وأنا في الخامسة من عمري وأول صاروخ سمعت انفجاره كان في مهبط الطائرات وصواريخ اللاو في “نتساريم” وصاروخ الاف ١٦ لاحقا. ولكن ما حدث في الرابع من أغسطس كان شيئا جديدا. رغم ما حدث بعده من تراوما مستمرة أكثر ما أزعجني هو قول البعض لي ” ما انت من غزة. عادي” وكأن الغزي مولداً وحياة هو كائن إما مستباح أو كائن خرافي فولازي. ما حدث في بيروت، لم يبق في بيروت وسافر معنا في قلوبنا كجروح وندبات نراها فينا وفي شخصياتنا. ذلك اليوم، رفرفت أرواح أكثر من مئتين شخص لهم محبين وأبناء وعاشقين وجرح الالاف يروا جروحهم كل يوم. هذه المدينة هي مدينة التناقضات التي نحيها بكل ما جرى فيها وما يجري فيها. المدينة التي تشبهنا. التي تقاتل الفساد وتعيش فيه وتحاول التأقلم معه. مدينة نضال الكل ضد الكل، والجميع ضد الجميع. كان مدينة القلم والكتاب والمثقف والصحفي، ولكن ربما لم تبق هكذا. اليوم نتذكر حاجتنا للعدالة في بلادنا وحاجتنا للحرية وحاجتنا للديمقراطية وحاجتنا للحماية وحاجتنا للفرح وحاجتنا للعلاج وحاجتنا للتعليم. كل ذلك حاجاتنا، ولكنها حقنا وحقنا. بيروت نحبها رغم جراحها. سنة على النجاة وسنوات على حب بيروت.