في مواجهة الغول الإسرائيلي: الصمود فعل مقاومة

كلُّ وعيٍ مُقاوِمٍ هو فِعلُ تحرُّر، بينما الوعيُ الغائبُ عن ذاتِه هو عَطالةٌ وجُمود. الشعوبُ التي لا تاريخَ لها تفقد إنسانيَّتَها، وتتوهمُ السعادةَ لأنَّها استُلِبَتْ وتشيَّأتْ وتحوَّلَتْ إلى أداة.

أمّا الشعوبُ التي خاضَتْ صراعاتٍ ضدَّ الاستعمارِ الخارجي أو الداخلي، وحمَلَتْ ذاكرةً من الألمِ والتأمُّل، فهي شعوبٌ حيَّةٌ لأنَّها تُدركُ ذاتَها وتعي معنى وجودِها. قد يكون حاضرُها مُثقلاً بالماضي أو مكبوحًا بقيودِ القمع، لكنَّها تستلهمُ تاريخَها لتتجاوزَ واقعَها. هي ليست شعوبًا مُرفَّهةً أو سعيدة، لكنَّها تملِكُ حسَّ الكرامةِ الوطنيَّة، حتّى لو جُرِّدَتْ منها مؤقّتًا، وحتّى لو أُخضِعَتْ لسلطةٍ غاشمةٍ حوَّلَتها إلى رعايا يُسبِّحون بحمدِ الملكِ أو الزعيمِ إلى الأبد، أو خضعتْ لسلطةِ استعمارٍ سلَبَها صوتَها لكن استطاعتْ أن تُحافظَ على هويَّتها، بل ثَمّة شعوبٌ بَلورَتْ هويَّتَها بفعلِ ديمومةِ نضالِها.

إدراكُ الذاتِ بفعلِها المقاوم يعني ـ فيما يعنيه ـ أنَّها تدرَّبَتْ على النضال، واكتسبَتْ أبعادًا جديدةً في مفهمةِ الصراع، وأنَّها باتَتْ تعي ذاتَها لذاتها. ولأنَّ فلسطينَ كانت موطنًا لاستعمارٍ استيطانيٍّ إحلاليٍّ يقومُ على مبدأ الطَّردِ والتَّرحيلِ والإبادة، واستبدالِ الشُّعوبِ الأصلانيَّة مكانَها بتجمُّعاتٍ بشريَّةٍ قد يجمعُها رابطُ الدِّين، فإن الزَّعمُ بأنَّه رابطٌ جمعيٌّ مُشترك، وصولًا إلى التوهُّمِ بتخليقِ قوميَّةٍ ، بفعلِ المشروعِ الصهيونيّ، هو عمل كولونيالي استعماري بحت.

ليس الهدفُ من كلِّ ذلك جَرْجَرةَ الكلامِ وما بعد الكلام، بقدْرِ ما أُحاوِلُ تفحُّصَ أن يكونَ فعلُ النِّضالِ والتَّفكيرِ فيه صنوانَ مرآةِ الحريَّةِ والتحرُّر، والدفاعِ عن الهويَّةِ الوطنيَّة في أبعادِها القوميَّة والإنسانيَّة، ولاستكشافِ فَهْمِ الصمودِ في زمنِ الإبادةِ والتوحُّشِ الإسرائيليَّيْن.

نعم، إنَّ التفكيرَ في النِّضال هو صِنوٌ للصُّمودِ في مواجهةِ الهزيمة. الصُّمودُ في زمنِ توحُّشِ الغولِ الإسرائيليّ هو فعلٌ نضاليٌّ من الطِّرازِ الأوَّل، هو إرادةُ التَّشبُّثِ بالحياةِ في وجهِ بطشِ العُدوانِ المُنفلتِ من كلِّ حدودٍ حتّى الجنونِ بأبعَدِ صُوَرِه. في حين يُشكِّل فعلُ الصُّمود ضرورةً وطنيَّةً وتاريخيَّةً وإنسانيَّة:

ضرورةً وطنيَّة، خشيةَ الاندثارِ والمحو.

ضرورةً تاريخيَّة، لأنَّ منطقَ التاريخِ يقولُ إنَّ الشعوبَ المُقاوِمة لا يُمكنُ أن يُمحى ذِكرُها.

ضرورةً إنسانيَّة، إذْ كيفَ لنا أن نقنعَ العالَمَ المُتعاطِفَ معنا بأنَّنا فقدنا القُدرةَ على الصُّمود دون أن نصمُدَ حقًّا، ودون أن نُحاوِلَ صَدَّ العدوانِ بصُمودِنا؟

قد لا نقوَى على القتالِ في مرحلةٍ ما، لكنَّنا قد نقوَى على الصُّمود. هنا يتحوَّلُ الصُّمودُ في معنىً من المعاني إلى فعلِ مقاومة، لأنَّ المستعمِر يسعى إلى نفي المستعمَر، إمّا مادّيًّا أو حضاريًّا أو سياسيًّا، كما في حالةِ الصِّراعِ الفلسطينيّ مع العدوِّ الإسرائيليّ في كلِّ مراحلِ الصِّراع.

بالمقابل، ثَمّة خَشيةٌ وخوفٌ كبيرانِ أن يتحوَّلَ خطابُ الهزيمة إلى بُنيةٍ مُؤسِّسةٍ في العقلِ السياسيِّ الفلسطينيّ، بدلَ أن يكونَ خطابًا نقديًّا يُؤسِّسُ ـ بعمليَّةِ النَّقض ـ إلى مرحلةِ ما بعد الهزيمة. فكلُّ نقدٍ ينطلقُ من الأرضيَّةِ السياسيَّة والفكريَّة والأيديولوجيَّة لموضوعِ النَّقد هو نقدٌ باطل، لأنَّه لا يتأسَّسُ على فعلِ استيلادِ مرحلةٍ جديدةٍ تُدركُ تبِعاتِ الراهن وإشكاليَّاتِه بمناحيها كافة. فمثلاً: أليس من الضَّروريِّ مناقشةُ فعلِ المقاومةِ في السابعِ من أكتوبر ضمن سياقاتِه الفلسطينيَّة والعربيَّة والدوليَّة؟ وهل من الضَّروريِّ الانتظارُ حتّى تضعَ حربُ الإبادة أوزارَها، أم أنَّ هذه الحربَ مستمرَّةٌ طالما استمرَّ نفسُ المقاومةِ بأشكالِه كافة؟

أظنُّ أنَّ تقديرَنا لعدوِّنا كان ينبغي أن يكونَ في الموضعِ الصحيح، ونقدَنا لقدراتِنا يتطلَّبُ جُرأةً في القول، لا تملُّقًا في واقعِ الحال. الهزيمةُ تكونُ هزيمةً حينما لا ننقدُ ذواتَنا السياسيَّة وفعلَنا السياسيّ، ونُشكِّلُ واقعًا في مِخيالِنا لا كما هو، فتأتي الصَّدمةُ ولا نستفيقُ منها إلّا بعد فوات الأوان. قد يغدو نقاشُ السابعِ من أكتوبر ضرورةً نضاليَّةً أو تسرُّعًا كما يراه البعض، أو ترفًا أمام مدحلةِ التوحُّشِ الإسرائيليّ المستمرّةِ في قطاعِ غزّة، وفي الضفَّةِ الغربيَّة بأشكالٍ أخرى. لكنَّه، في واقعِ الحال، ليس كذلك، إنَّه سؤالٌ يحملُ مشروعيَّتَه التاريخيَّة والوطنيَّة؛ لأنَّنا نعي تمامًا أنَّ بُنيةَ الكيانِ الإسرائيليّ والدورَ الوظيفيَّ العدوانيّ ثابتان، وبالتالي فإنَّ أيَّ كلامٍ أو تحليلٍ سياسيٍّ بأنَّنا دُهِشنا في رَدَّةِ فعلِه إنَّما هو تسويغٌ لا طائلَ منه، ومحاولةٌ لتبريرِ ما تمَّ الإقدامُ عليه، وليس اعترافًا بالتسرُّعِ في عمليَّةِ اتِّخاذ القرار. فأيُّ قرارٍ من هذا القبيل ينبغي أن يُحسَبَ حسابُ كلفتِه بشريًّا على الشعبِ الفلسطينيّ تحديدًا، لا أن نضعَ اللَّحمَ الفلسطينيَّ وكأنَّه كُتَلٌ بشريَّةٌ وأرقامٌ ينبغي التَّضحيةُ بها لنيلِ الحريَّة، حتّى وإنْ كلَّفنا ذلك ملايينَ منهم. من قال إنَّ حياتَهم هي أرخصُ ما في الوجود؟ بل ينبغي أن تكونَ أثمنَ ما في الوجود وأنبَلَه. وبالتالي فإنَّ أيَّ عمليَّةِ تحرُّرٍ تفقدُ أنسنتَها، تفقدُ بُعدَها الأخلاقيَّ وعدالتَها أمام شعبِها وأمام العالَم، ما لم تأخذْ بجوهرِ المسألة أنَّ حياةَ المستعمَرينَ أثمنُ ما في الوجود، وفي الوقتِ نفسه لا تُقلِّلُ من أنَّ حياةَ المستعمِرينَ يجب أن يُنظرَ إليها ببُعدِها الإنسانيّ والتاريخيّ والمكانيّ، ولا بُدَّ من التفكيرِ في كيفيَّةِ حلِّها إنسانيًّا، لأنَّنا معنيُّونَ بتخليصِ المستعمِرِ من شرورِه وآثامِه.

قد يبدو أنَّ الركونَ إلى استخدامِ هذا الخطاب فيه طلبُ استعطافٍ علينا، لأنَّنا ضحايا، فيسلبُنا حقَّنا في المقاومةِ المشروعة، ويُجرِّدُنا من حقِّنا في النِّضال، ويحرِمُنا من استحضارِ تاريخِنا النِّضاليّ الطويل مع المشروعِ الصهيونيّ. فهل لاستخدامِنا وإصرارِنا على مصطلحِ الحربِ الإباديَّة عزاءٌ لأنفسِنا المُتعَبة من حقِّها في الاشتباكِ والفعلِ والإرادةِ المقاوِمة؟ وهل يُشكِّلُ الركونُ إليه تعبيرًا مُضمَرًا عن عجزِ أدواتِنا السياسيَّة والوطنيَّة في كبحِ توحُّشِ الغولِ الإسرائيليّ في الاستمرارِ بنهشِ اللَّحمِ الفلسطينيِّ وسَلبِ الأرض؟

الحربُ الإباديَّةُ تعني ـ فيما تعنيه ـ أنَّ طرفًا واحدًا، وهو الإسرائيليّ، مستمرٌّ في إبادةِ الطرفِ الآخر (الفلسطينيّ)، وأنَّ الموضوعَ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقلّ من ذلك. يمضي المستعمِرُ لنفيِ المستعمَر بكلِّ ما أُوتيَ من قوّةٍ وعنجهيَّة، وتبدو نهايةُ الصراعِ محتومةً بسيطرةِ المستعمِر على المستعمَر سيطرةً أبديَّة، تُتيحُ للأوَّل إمّا طردَه أو إبادتَه أو كلاهما سويَّة. فتغدو النهايةُ واضحةً قبل أن تنتهي، ويُصبحُ الجدلُ في شأنِ المواجهة وكأنَّه جدلٌ عقيمٌ لا طائلَ منه، لأنَّ الزمنَ تأخَّر، والواقعَ المُتشكِّل أقوى من الجميع.

قد يبدو التساؤلُ مشروعًا ومنطقيًّا حينما نقول: كيفَ لنا أن ندخلَ في فمِ الغول دون أن نُربِّيَ الأملَ في نفوسِنا، ودون أن يكونَ الأملُ هو عنوانَ صُمودِنا؟ إنَّه مساحةٌ لا غِنى عنها لإرادةِ الحياةِ في وجهِ الموتِ والإبادةِ والتوحُّشِ الإسرائيليّ.

ويبدو في الوقتِ نفسه أنَّ سؤالَ الأملِ يُقابله أيضًا سؤالُ الوعيِ بالذات: سؤالُ أنَّنا أبناءُ النكبةِ التي سُلبَت الأرضُ منهم، وجُعِلَ أصحابُها لاجئين في شتّى بقاعِ الأرض، حتّى فيما تبقّى من وطنِهم. وليس ذلك وحسب، بل تمَّ توريثُ اللجوءِ إلى أجيالٍ وأجيال. أقول: إنَّه بقدْرِ امتلاكِنا لسرديَّةِ أنَّنا ضحايا العنفِ الاستيطانيّ الإحلاليّ الصهيونيّ، مُتحالفًا مع العنفِ الاستعماريِّ الأوروبيّ ومن ثمَّ الأمريكيّ، فإنَّنا نكونُ قد امتلكنا سرديَّتَنا. وامتلاكُنا لسرديَّةِ نكبتِنا يدفعُنا بالضرورةِ التاريخيَّة إلى تغييرِ نتائجِها، ولو استغرقَ الأمرَ أجيالًا وأجيالًا، لا أن نستكينَ ونسلِّمَ بسرديَّةِ الجلّاد، ونعتبرَ أنَّ تشكُّلَ الواقعِ أبديٌّ لا يتغيَّر.

وعيُ الفلسطينيِّ بذاتِه وإدراكُه لواقعِه يَحتَّمُ عليه أن يُصوغَ مسارَ نضالِه، وطرائقَ مقاومتِه، وآليّاتِ فعلِه. كلُّ مرحلةٍ تاريخيَّة قد تختلفُ عن سابقتِها حدَّ التناقض معها. ما يهمُّ في الموضوع وعْيَنا أنَّنا أصحابُ الأرض، وأنَّ المحتلَّ يسعى للسيطرةِ على الأرض، وانتزاعِ اعترافٍ من الضحيَّة بأنْ ليس لهم أيُّ حقٍّ يُذكَرُ في الأرض وتاريخِها. إنَّه يسعى لسلبِ سرديَّةِ الضحيَّة، يتقمَّصُ الجلّادُ حكايةَ ضحاياه، ويمارسُ فعلًا نرجسيًّا قذرًا يتجلَّى في الاستيلاءِ على كلِّ شيء: الأرضِ دون البشر، وسَلبِ تاريخِ المستعمَرين بما يُلائم سرديَّتَه.

مهمٌّ إدراكُ أنَّ ما يحصلُ في فلسطين ـ وغزّة تحديدًا ـ إنَّما هو استمرارٌ للحروبِ الإباديَّة التي خاضَها المستعمِرون الأوروبيّون في منطقتِنا لتغييرِ وجهِها، سواءٌ جاءت هذه الحروبُ تحت مسمَّياتٍ دينيَّةٍ أو غيرها. المهمُّ في الموضوع أنَّ الهدفَ هو السيطرةُ والاستحواذ.

ومهمٌّ إدراكُ أنَّ الهزيمةَ لا تكونُ هزيمةً إلّا حينما نُسوِّغُها، ونجعلُ منها نصرًا، ونحوِّلُ فعلَ المقاومةِ إلى إرهاب، كما يحلو لعدوِّنا أن يصفَنا. فيغدو حينها التعاونُ والتنسيقُ الأمنيّ بين سلطةٍ فلسطينيَّةٍ وقوّاتِ الاحتلال وكأنَّه جزءٌ من رُزمةِ السَّلامِ والاستقرار. فيغدو التحرُّرُ من الاستعمارِ منوطًا بالتعاونِ مع المحتلّ، ويغدو محاربةُ المقاومةِ شرطًا لنَيلِ الاستقلال. فتنقلِبُ موازينُ الفَهمِ والإدراكِ السياسيِّ رأسًا على عقب. يفقدُ فعلُ المقاومةِ مُبرِّراتِه، ويُصبحُ أيُّ عملٍ مُقاوِمٍ ضربًا من الجنونِ لا طائلَ منه، وتبدو ثقافةُ الهزيمةِ بلبوسِ الواقعيَّةِ السياسيَّة وكأنَّها حكيمُ الزمان في لحظةِ جنونِ المقاومين الباحثين عن حلمِ الحُرّيَّة.

صحيحٌ أنَّ كلَّ فعلٍ مُقاوِمٍ يحملُ مُغامرةً كبيرة، بيدَ أنَّ أيَّ مُغامرةٍ لها حدودٌ دُنيا وعُليا، إذ لا يجوزُ أن تتعدّى حدودَ القُدرةِ على رَدَّةِ فعلِ المحتلّ. وإلّا فإنَّ الفعلَ الفلسطينيَّ المقاوِم قد يُؤسِّسُ لفعلِ الإبادة أو يُسوِّغَ لها من قِبَلِ المستعمِر.

لكن، حذارِ من المبالغةِ في فعلِ الهزيمة، وكأنَّنا أمامَ قَدَرٍ لا بُدَّ منه أو لا فِكاكَ لنا عنه. إنَّ عدمَ امتلاكِنا لفعلِ الأمل سوف يحرِمُ الأجيالَ القادمة من حقِّها في المُقارعةِ والمواجهة.

في الحالةِ الإسرائيليَّة، برز المشروعُ الصهيونيُّ باعتباره مشروعًا استعماريًّا إحلاليًّا، ما كان له أن يقومَ دون وجودِ حليفٍ استعماريٍّ غربيٍّ أوروبيّ. برز هذا المشروعُ ليس ليُعبِّر عن توقِ الغربِ لاستعمارِ فلسطينَ وحسب، بل لطردِ أهلها أيضًا، فبرز باعتباره مشروعًا إباديًّا. صحيح أنَّ المجازرَ التي ارتُكبت في بدايات المشروع الصهيونيّ لا يمكن مقارنتُها بما ترتكبه إسرائيل راهنًا، لكن يمكن التأسيسُ عليها، وعلى نتائجِها، أنَّ بنيةَ المشروعِ العدوانيّة تدخل في بنية المشروع نفسِه، وليست حدثًا طارئًا؛ أي أنَّ فعلَ العدوان بتدرُّجاتِه وقياساتِه وتفاعلاتِه هو فعلٌ بنيويّ، وليس أمرًا عابرًا جاء في سياقِ تفاعلِ صراعِ المشروعِ الصهيونيّ مع محيطِه العربيّ، وتحديدًا الفلسطينيّ.

لقد بدأ المشروعُ الصهيونيُّ باعتباره مشروعًا يهوديًّا، جاء لحلّ ما اصطلح على تسميتِه بـ “المسألة اليهوديّة”. لكنَّ جوهرَ المشروعِ هو مشروعٌ استعماريّ، تفاعل عبر تحالفِ شقَّين: يهوديّ وإمبرياليّ، ذاك لبناء وطنٍ قوميّ، والآخر للسيطرة على عموم المنطقة العربيّة ومحيطها، عبر زرع وتدِ دولةٍ يهوديّة تكون بمثابة الحارس الوفيّ للمشروع الإمبرياليّ الغربيّ.

لنتذكَّر قليلًا: أَلَم تكن مشاريعُ الاستيطانِ الأوروبيّ الحديثة في فلسطين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، مشاريعَ استيطانيّة أوروبيّة وأمريكيّة؟ أَلَم يقاومها أهلُ فلسطين عبر موجاتٍ عاليةٍ من النضال؟ أَلَم تُشكّل مجزرةُ صرفند الخراب عام 1918 نموذجًا أوليًّا لتطبيقِ العنف الاستعماريّ الصهيونيّ المتحالفِ مع الغرب المتوحّش ضدَّ أصحاب البلاد الأصلانيين؟ وأَلَم يُشكّل صمودُ القريةِ وغيرها وعيًا جنينيًّا بأنَّ خطرَ المشروعِ يمسُّ كلَّ فلسطين وما حولَها؟ أَلَم تكن قيادةُ الشيخ عزّ الدين القسّام للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة المسلّحة عام 1935، واستشهادُه، محفِّزًا للثورة الكبرى في 1936، وإدراكًا بأنَّ خطرَ المشروع الصهيونيّ عميقٌ وكبير، ويمسُّ المنطقةَ برمّتِها، لا فلسطين وحدها؟

إنَّ إدراكَنا بهمجيةِ عدوِّنا يجعلُنا يقظين في كيفيّةِ التعاملِ معه، في حالتي الحربِ وعدمِ الحرب. وأيُّ خللٍ في هذا الإدراك قد يُشكّل نكسةً كبيرةً في كبح المشروع الصهيونيّ، بنزعاتِه الاستيطانيّة والإحلاليّة والإباديّة. فما حصل في السابع من أكتوبر كان فعلًا فلسطينيًّا طامحًا للتخلّص من الهيمنة الإسرائيليّة، لكنَّ هذا الطموح لم يكن في سياقاتِه الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، ما جعل الفلسطينيين يدخلون في فم الغول، ولم يستطيعوا الفكاك منه. والخوفُ كلُّ الخوف أن يلفظَ الغولُ الشعبَ الفلسطينيَّ خارج أرضِه في مرحلة ما بعد الحرب على غزّة.

صرنا أمامَ معادلةٍ جديدة: معادلةٍ تتفحّصُ السلوكَ الإباديَّ الإسرائيليَّ وتموضعاتِه اللوجستيّة في سياق تحالفِ المشروع الصهيونيّ مع المشاريع الإمبرياليّة العالميّة. إبادةٌ تُصوَّر وتُنقَل مباشرةً على الهواء، ليس من الضحيّة فقط، بل من الجلّاد أيضًا، إذ لم يَعُد يخشى العقاب، ولم يَعُد يأبه لأيِّ حرمةٍ قانونيّةٍ دوليّة، لأنَّ دولَ الشمالِ الرأسماليّ متورّطةٌ في دعم المشروع الصهيونيّ، وفي تقديمِ الضوء الأخضر للاستمرار في حربِه الإباديّة. بخلافِ شعوبِها التي انتفضت رافضةً ما تقوم به إسرائيل من إبادةٍ للمكان والإنسان في الزمن الحاضر.

لستُ في معرضِ نقدِ سلوكِ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بجناحها الإسلاميّ، بل في تحليلِ السلوك العدوانيّ الإباديّ للمشروع الصهيونيّ. عدمُ إدراكِنا لهذا السلوك يجعلُ حلمَنا في كبحِه بعيدًا جدًّا، ويجعلُ راهنَنا من أولويّاتِنا أن يكون الصمودُ عنوانَ المرحلة بدلَ الهجوم، لأنَّ تحليلَنا لطبيعة عدوّنا وقوّتِه وتحالفاتِه لم يكن موضعَ تقييمٍ صحيح.

العَقلنة تستدعي “فَهمَنة” الصراع مع عدوٍّ ليس استعماريًّا فحسب، بل استيطانيًّا إحلاليًّا، أُضيفَ إليه طابعٌ إباديّ بالغُ الوحشيّة، برز بعد السابع من أكتوبر العام الفائت، وما زال يُمارسُ الإبادةَ البشريّة والمكانيّة لقطاع غزّة مستخدمًا فائضَ قوّةٍ عسكريّةٍ ما بعد تكنولوجيّة. فاستخدامُ الذكاء الاصطناعيّ والخوارزميّات ما كان إلا لتحسينِ قتلِ أكبرَ عددٍ ممكن من الفلسطينيين، في تطوّرٍ يعكس فاشيّةَ الحركة الصهيونيّة عبر تحالفِها مع المعسكر الأمريكيّ–الأوروبيّ. وما كان لضبطِ ومراقبةِ فلسطينيّي الضفّة الغربيّة والقدسِ المحتلّة بكاميراتٍ تستخدم تقنيةَ الخوارزميّات إلا لإحكامِ القبضة الأمنيّة على حياةِ الفلسطينيين، وعدّ أنفاسِهم وسكناتِهم وتحركاتِهم، فوق الأرض وتحتها، عبر ربطِ كلِّ تقنياتِ الذكاء واستخداماتِها مع المراكز الإمبرياليّة الكبرى (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وغيرُها كثير).

ما أودّ قولَه: إنَّ التحكّمَ الإسرائيليَّ والمراقبةَ على المستعمَرين باتت تستخدمُ تقنيةً عن بُعد تتيحُ له معرفةَ وتقديرَ الأخطار، واصطيادَ المقاومين وملاحقتَهم. فالوظيفةُ العدوانيّةُ للمشروع الصهيونيّ، عبر تحالفِه مع المراكز الإمبرياليّة الأمريكيّة والغربيّة، حدّدت بنيتَه العسكريّة، فبات التجمّعُ الصهيونيُّ أشبهَ بثكنةٍ عسكريّةٍ ضخمة، يُجرى إمدادُها وتطويرُها وتعزيزُها بمقوّماتِ القوّة العسكريّة من منابعَ أمريكيّة تحديدًا، وأوروبيّة أيضًا. ولولا هذا الدعمُ لما كانت إسرائيل، بكلِّ جبروتِها، قادرةً على الاستمرار في نزعتِها العدوانيّة والتوسّعيّة. أو لنقل: لكان منسوبُ الدور الوظيفيّ العدوانيّ قد طرأ عليه تحوّلٌ مهمّ، دون أن يعني ذلك زوالَ الكيان، فهو يحتفظُ بآليّةٍ داخليّةٍ قادرةٍ على ممارسةِ هذا الدور. بيد أنَّ هذه الممارسةَ ستكون في هذه الحالة “مُقَلَّمة الأظافر”، خاصّةً في حالةِ توفُّر بيئةٍ عربيّةٍ مقاومة. أمّا في حال استمرار الواقع العربيّ كما هو راهنًا – تخاذلٌ وتنسيقٌ مع إسرائيل – فإنَّ الكيانَ الإسرائيليَّ قادرٌ على أداء وظيفتِه دون المدد الخارجيّ، لأنَّ أكثر من سبعين عامًا من نشوء الكيان جعلت لهذا الكيان استقلاليّتَه في اتّخاذ القراراتِ الاستراتيجيّة، خاصّةً فيما يتعلّقُ بمستقبلِه. ولهذا، يبدو الصمودُ ضرورةً سياسيّة، لا نزعةً ثقافويّة تُطلَق في أثير الواقع الفلسطينيّ والعربيّ المُتخم بالتحدّيات.

حصيلةُ القولِ: «إنّنا محكومون بالأمل… وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهايةَ التاريخ» – كما قال الكاتبُ المسرحيُّ السوريُّ الكبير سعد الله ونّوس –. فمن دونهِ تغدو حيواتُنا وكأنّ نهايتَها قاربت على الموتِ المؤكَّد؛ موتٍ يجمع أشلاءَ الضحيّة، أو يُبقيها تحت الركام، ويحوِّل الركامَ إلى ريفيرا للاستثمار الغربيّ الأمريكيّ، غيرَ عابئٍ بآلامِ الملايين، وغيرَ نادمٍ على ما قدَّمه لآلة العدوان الإسرائيليّ من أدواتٍ لتدمير ما يمكن تدميرُه من القطاع، مكانًا وبشرًا، وتحويلِه إلى بقعةٍ يستحيل إعادةُ إنتاجِ الحياةِ فيها.

ما يجري اليومَ يدفعُنا إلى التأكيد على أنّ فعلَ الإبادةِ يستلزمُ مقابلَه فعلَ الصمود، والتمسّكَ بأملٍ تصنعُه الشعوبُ ومنطقُ التاريخ، حتّى وإن تأخّر، أو بدا للبعض مستحيلَ التحقّق في الزمن الراهن. لكنّه هو هو ذاتُه، منطقُ الصراعِ الذي لا ينتهي، ولا يمكن أن ينتهي ما دام نَفَسُ المقاومةِ بكلّ أشكالها وتجليّاتها حاضرًا بحضور الشعب الفلسطينيّ مادّيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *