في معنى نشر إسرائيل لخارطة مملكة “إسرائيل ويهوذا”

انتفضت بعض الأنظمة العربية وأدانت نشر شبكات التواصل الرسمية الإسرائيلية لخريطة تشير إلى حدود دولة “يهوذا وإسرائيل” عام 925 قبل الميلاد. من بين هذه الأنظمة، المملكة العربية السعودية، التي صرحت: “ندين ونرفض مزاعم الاحتلال الإسرائيلي وادعاءاته الباطلة حيال الخريطة المنشورة من قبل حسابات رسمية تابعة له، والتي تُظهر أجزاءً من دول عربية (الأردن، ولبنان، وسوريا) ضمن حدودها المزعومة.”

 هنا، يتطلب الأمر توضيح الخلاف القائم بين الأوساط اليهودية حول نوعين من حدود أرض الميعاد، حيث يستند كلا التعريفين إلى النصوص التوراتية. الأولى هي “حدود الوعد”، حيث يعتبر المؤمنون بأنها تمتد ما بين نهري الفرات والنيل والبحر المتوسط. والثانية “حدود الخارجين من مصر”، التي تُوصَف بأنها أصغر من “حدود مملكة داود وسليمان”، كما نشره موقع إسرائيل بالعربية قبل أيام.

لم يأتِ هذا النشر من فراغ، خصوصاً أننا بصدد حكومة عقائدية توراتية تؤمن بهذه الحدود للدولة اليهودية وتتحين الفرصة للتقدم نحو هذا الهدف بعد إتمام المرحلة الأولى من بناء الدولة في حدود نكبة عام 1948. وقد أُنجزت المرحلة الثانية بهزيمة عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والجولان، والتي رفضت إسرائيل التنازل عنهما في مفاوضات كامب ديفيد لأسباب عسكرية وعقائدية توراتية. كما حاولت ضم جنوب لبنان في حرب 1982 واحتلاله حتى عام 2000، وانسحبت منه تحت وطأة ضربات المقاومة.

مع سقوط نظام بشار الأسد، ووفقاً لعقيدتها العسكرية الجديدة “المبادرة والهجوم”، احتلت إسرائيل منطقة العزل الأمني وفق اتفاق 1974 بعمق 15 كم، مما يشمل ما تبقى من جبل الشيخ. في هذا السياق، أكد مسؤولون إسرائيليون كبار لصحيفة “يديعوت أحرونوت” أن هذا الاحتلال المباغت يرمي إلى معرفة حقيقة أحمد الشرع، صاحب العقلية الجهادية والمشروع الإسلامي، والذي تتجلى خطورته في كونه أصبح جزءاً من الاستراتيجية التركية لبناء دولة المحور السني البراغماتي، مما تعتبره إسرائيل تهديداً استراتيجياً لوجودها. وبالتالي، يمنح هذا الاحتلال إسرائيل التحكم الاستخباراتي في دائرة 60 كم من خلال قمم جبل الشيخ أو “الحرمون”، وفقاً للمصادر التوراتية، والذي كان جزءاً من دولة “يهوذا وإسرائيل” بحسب مزاعمهم.

يضم الجبل أربع قمم: القمة الأعلى تُسمى “شارة الحرمون” ويصل ارتفاعها إلى 2814 متراً، والثانية جهة الغرب بارتفاع 2294 متراً، أما الثالثة ناحية الجنوب فترتفع 2236 متراً، والقمة الرابعة تقع في جهة الشرق بارتفاع 2145 متراً. وبذلك، يعتبر الجبل أعلى منطقة مرتفعة في سوريا، حيث يطل على دمشق وبادية الشام والجولان وسهول حوران، بالإضافة إلى جبال الخليل وبحيرة طبريا وسهل الحولة وجزء من محافظة إربد، وكل جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع، ويبعد عن العاصمة دمشق 40 كم فقط. لهذه الأهمية الاستراتيجية والمعنى التاريخي، وقف عليه قبل أسابيع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو برفقة وزير الدفاع كاتس، وصرح: “سنبقى في هذه المنطقة المهمة حتى تُضمن ترتيبات أمننا، وستحدد إسرائيل بنفسها الترتيب الأمثل لضمان ذلك.”

يحمل تصريح نتنياهو هذا دلالات متعددة تستند إلى الادعاءات التاريخية القديمة والتوجهات السياسية الراهنة، مما يوحي بأن إسرائيل قد تستكمل، من خلال هذه الخطوة، حدودها التوراتية مع سوريا، بعد احتلالها هضبة الجولان وضمها رسمياً بدعم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

نعم إن الإشارة إلى التاريخ القديم هنا تهدف إلى شرعنة الاحتلال استراتيجياً من خلال تعزيز الهوية الجغرافية اليهودية، وإظهار وجود تاريخ طويل لليهود في المنطقة، مما قد يسهم في النقاشات حول ملكيتهم وحقوقهم في الأرض مستقبلاً.

وهذا ما يجب أخذه على محمل الجد، لأن إسرائيل تخطو خطوة كبيرة أخرى في ترسيم حدودها التوراتية على الجبهة السورية، متحينة الفرصة لإتمام المهمة في لبنان والأردن، لدرء أي خطر قادم من التحالف التركي-السوري ومشروعه الإسلامي أولاً في بلاد الشام، والذي يشمل دول الطوق والمواجهة المباشرة مع إسرائيل.

خلاصة القول:

إن نشر المواقع الإلكترونية الرسمية الإسرائيلية لخارطة مملكة “إسرائيل ويهوذا”، بعد احتلال عمق 15 كم جديدة في الأراضي السورية والسيطرة الاستخباراتية الجغرافية على محيط وعمق 60 كم، يُعتبر ضربة استباقية في إطار استراتيجية إسرائيل الجديدة “المبادرة والهجوم”، كما أوصت بها لجنة “نغل”. ترى إسرائيل ما يجري في سوريا في سياق الاستراتيجية التركية كخطر استراتيجي داهم على وجودها، خصوصاً إذا كان هدفه القادم هو الأردن ولبنان. وعليه، ولقطع الطريق على المشروع الأردوغاني وحليفه الجدّيد أحمد الشرع، ليس مستبعداً أن تكون حدود إسرائيل في قادم الأيام هي نفسها حدودها التوراتية، كما تبينها الخارطة التي نُشرت بهدف توجيه هذه الرسالة. هذا إذا لم تكن ضحية سياستها هذه.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *