في محاولة لتفكيك ما يحصل في الأيام الأخيرة ..الحقيقة لكسر الحلقة المفرغة

أهمّ ما يحصل في هذه البلاد منذ ما يزيد عن سبعة عقود هو هذا الكمّ الهائل من العنف الذي تمارسه الدولة بأذرعها بقوة السيادة بين البحر والنهر والقانون والعسكر. هذا ليس حدثًا لمرة واحدة وانتهى بل هو حالة ممتدّة تميل إلى التصعيد أو إلى التهدئة.

هذه السيادة هي التي تُنتج كلّ يوم ألف جريمة بشعة وألف حالة ظلم وغبن وقهر. سلب أرض وحيوات ناس وتهديم بيوت وحواجز وحصار واحتكار مياه البلاد ومواردها، والأهمّ مصادرة مستقبل الناس من الشعبيْن وجعله رهينة عقيدة عقيمة. وهي الأفعال ذاتها التي تُنتج ردود فعلها. أو بلغة فلسفيّة بسيطة ـ هي المنظومة التي تلد ضدّها. وهي سيادة عنصريّة كولونيالية في ذهنيتها واستحواذيّة. سيطرت على الجغرافيا وتسعى إلى السيطرة على الوعي بالتيئيس وعلى اللغة المتداولة. فهي التي تسمّي الأشياء والظواهر وتصنّف وتصف وتحدّد وتحكم وتعاقب. بمعنى أن هذه الأفعال تحديدًا هي التي تجعل منها سيادة وسُلطة وقوّة ترسم الواقع تقرر طبيعته. وهي تسعى إلى تحميل الضحايا وزر سياساتها العقيمة والظواهر التي تُنتجها هذه السياسات.

لا يُمكن رؤية العمليات الأخيرة إلّا ضمن هذا السياق المائل وهذا الزمن المدبّب بفعل القوة التي تمارس ضد الفلسطينيّ على مدار الساعة ـ أنظر النقب.

ستكون الفائدة عظيمة للجانب الإسرائيلي تحديدًا إذا لم نستنكر ونعتذر ونبرّر ـ خاصة وإننا يُمكن أن نكون في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ ونُقتل كالذين قُتلوا. بل إذا قلنا له بكلام واضح أنه لا يستطيع إنتاج المشكلة وتحميلنا مسؤوليتها. هو لا يستطيع تهيئة الشروط المثاليّة للعنف ـ بالعنف الذي يستخدمه لتحقيق مصالحه ـ ويُهَسْتر عندما يلجأ المتضرّر من هذه السياسات إلى الأسلوب نفسه. فلنقل له بوضوح: “هذا السياق الذي خلقته وهذا العنف الذي تمارسه كلّ يوم وساعة وثانية سيُنتج ألف ظاهرة غير مرغوبة بل مقيتة لكم ولنا. لسنا سعداء إذا ما سقط قتلاك في الشوارع كما نحن لسنا سعداء عندما يُردى جنودك فتى أو شيخًا يدافعان عن بيتهما وأرضهما، أو عندما تهدم الجرافات باسم القانون المائل بيتًا لعشرة أنفار في عشرين دقيقة وكان استغرق بناؤه عشرين سنة”.

حريّ بنا أن نقول لمحدّثنا الإسرائيليّ، أيضًا، أن العقيدة الأمنية والسياسية المعمول بها قد فشلت وانهارت المرّة تلو المرّة لأنها قامت على السيطرة والإخضاع وتغييب شعب لم يغب في واقع الأمر. سنقول له أنه كلّما اعتقد أنه يكاد يُنهي ويصفّي المسألة الفلسطينيّة أو ينجح في شطبها من جدول أعماله ووعيه ـ سيكون هناك مَن يأخذ على عاتقه دون أن يسأل أو يستشير مهمّة استحضارها بطريقته ـ وقد تحمل هذه الطريقة الضرر لي أكثر مما تحمله له. ليس لأن الفلسطينيين أبطال أو “كالعنقاء” أو “جبارون” بل لأنها طبيعة المجتمعات الإنسانيّة في صراع. لأن للجماعات البشريّة في مراحل من تاريخها وعي متطوّر بكرامتها الإنسانيّة.

إن موقفي السياسي والفلسفي والأخلاقي يأتي من رفضي المبدئيّ لفكرة تسوية الصراعات القوميّة المُستدامة وغير القومية بالعنف والقوّة وليس من “الخواجا” أو المذيع في محطّته أو نائب موتور في الكنيست. ويأتي من رفضي للاحتلال ومصادرة حقّ الشعوب حتى بأيدي حكامها كما في سوريّة المحنة. ويأتي من إيماني العميق بعدالة القضية الفلسطينية ووجوب حلّها حلّا عادلًا يوقف دورة العنف، التي ليس فيها أي منتصر ولا أيّ بطل وإن كان فيها الكثير من الضحايا. موقفي يأتي من اعتقادي الراسخ أن الضحايا غير محرّرين لا من المسؤولية عن الوضع ولا من السؤال الأخلاقي. يأتي من سعي جاد ولو نظريّ وتأمّلي للإمساك بزمام المستقبل كي لا يقع فريسة للصراع والاقتتال ذاته. يأتي من اعتقادي أن الدم الذي سُفك في المئة سنة الأخيرة بسبب الصراع يزيد عن طاقة الأرض على التحمّل.

يأتي من إيماني بأن المشروع الوطني الفلسطيني الذي ينبغي تطويره واعتماده كمخرج لنا ولليهود في فلسطين وكآلية لتفكيك حالة الاستعمار والسيطرة ومبنى القوّة القائم هو مشروع المصالحة التاريخية التي تشكّل رواية ثالثة قادرة على احتواء الروايتيْن وتحرير المستقبل من قبضة الماضي وإرثه الثقيل ويحرّر الحاضر من الأسر عبر آليات المصالحة وسيروراتها وفرضياتها. فقط فلسطيني واثق وشجاع مع عنفوان وأنفة فلسطينية وإنسانيّة يستطيع أن يصدع العقيدة الإسرائيلية التي توقع الشعبيْن في الحفرة ذاتها. وأن يصنع بساعديه تغييرا في المعادلة ويعترض سياسات إسرائيل الرسمية ويتحدّاها. فلسطيني كهذا هو الأمل في الخروج من سؤال “أستنكر لا أستنكر”.

لقد عاش جيلان قبلي وجيلي أنا في ظلّ حالة من الصراع ومن البقاء في أسر فرضيات سياسيّة ووعي فكري وذهنيّ قابض وحلول تقادمت أو فشلت ـ وأرى من مهمّتنا ألّا نهدر العمر في ثني الأيدي وعضّ الأصابع مع المجتمع اليهوديّ و”تربية” عنصريّيه ووسائل إعلامه، أو في تبرير هذا الفعل أو ذاك أو التنصّل منه ـ هيّا نهيّء للأجيال القادمة شروطًا أفضل للعيش الكريم. أو هيّا نفكّر ـ ولا نهرب إلى مواقع الراحة والاعتذار منها كالمكابرة.

السياسات الإسرائيليّة خلقت واقعًا معقّدا كأن نرتبك في كيفيّة فهم مقتل يزن فلاح وأمير خوري ـ وكلاهما خدم في جهاز الشرطة. وكلاهما ضحية سياسات العقيدة الأمنية الإسرائيلية العقيمة. معقّد بشكل يُحرجنا في كيفيّة تعريف قتل المدنيين في الشوارع، في تصديق الرواية الرسميّة أو تكذيبها، في كيفية التعامل مع شاب قرّر أن يقتل كفلسطينيّ باسم “داعش”، ماذا نقول لمشغّلنا اليهودي أو لزميلنا في المؤسّسة إذا سألنا؟

فلنقل لهم الحقيقة ونظلّ أخلاقيين ومسوّغين. لم أرَ أكثر من هذه الطريقة فاعليّة في كسر الحلقة المفرغة والحدّ من الضحايا ـ ولنتذكر أنه مهما كان الأسم والموقع فكلّهم ضحايا العقيدة ذاتها.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *