في مثل ليلٍ كهذا نريدُ مُريد البرغوثي!

“أكاد أصيحُ: تعرّف إلى غيرنا أيّها الموتُ

ابحث، على الفور عمن يجود عليك بمأوىً سوانا

ودع غير أطفالنا يمسكوا بذراعك

عبر ازدحام الطرق

منذُ دَهرٍ نؤدي لك الواجبات ونرعاك

نحن انشغلنا بشغلك، فاذهب، ولكن

إلى أين تذهب في مثل ليل كهذا

تدفأ ونم جيدا أيها الموت، حتى نواصل أثناء نومك أشغالنا

أكاد أصيح: تعرّف إلى غيرنا أيها الموت

أنت تجاوزت كل سياجٍ

وطاب لك المكث فينا

أغلطتنا أننا كرماء لتأخذ من تنتقي ثم نعطيك من يرتقي بك

نحو السمو الذي تشتهي

آن أن تنتهي من طموح يديك

أما فاض موسمك المر عن حاجتك؟

اخسر الشوط حيناً

ربما لو ذهبت سنكتب شعرا عن الإنس والجن والجنس

والشبق الصلب

نغشى الملاهي

ونسكب شاي المقاهي

بطيش أصابعنا

أكاد أناشدك الابتعاد

ولكن إلى أين

يا من صفاتك تمشي معك؟

هل ألفناك؟

هل لا طريق لنبعد عنك سوى الاقتراب الجنوني منك

أأنت الطريقُ

أم أنك قاطع هذا الطريق؟

أتمشي الجنازة فينا؟

أم أنّا نسير ونبحث من حولنا عنك فيها؟

نرى النعش والسائرين

ويا موت لسنا نراك

ففي أي زاوية تختفي حينذاك؟

أكاد أصيح: تعرف إلى غيرنا أيها الموت

لكن إلى أين تذهب في مثل ليل كهذا

تدفأ ونم جيداً

ثم واصل مع الفجر شغلك، حتى نواصل بعد رحيلك أشغالنا”.

كنت أتمنى من كل قلبي امتلاك الجرأة اللازمة لادعاء أنني كاتب هذه الأبيات الرائعة، حتى لا أواصل قضاء العمر بحسرتي لأنني لم ـ ولا أقول لن ـ أستطع أن أكتب سحراً كهذا، لكن كاتب هذه الأبيات شاعرنا العربي العظيم مريد البرغوثي موجود بيننا الآن، وحتى لو سمح كرم أخلاقه وجعلني أنسب لنفسي هذه الأبيات التي اخترتها بتعسف اقتضاه ضيق الوقت من قصيدته الرائعة (إلى أين تذهب في مثل ليل كهذا)، فلن يجدي ذلك نفعاً معكم، لأنكم جميعاً من عشاقه، ولذلك فأنتم بالتأكيد ترددون هذه الأبيات كثيراً وسط هذا الجنون الذي يحيط بنا من كل اتجاه، والذي جعل أبياتاً مثل هذه كتبت في نهاية عام 2000 تصلح لأن تكون مكتوبة في أي يوم في شهر في سنة لا تهدأ فيه الجراح العربية ولا تنام على عكس ما بشرنا به المرحوم عبد الحليم حافظ.

كنت سعيد الحظ عندما دخلت إلى عالم مريد البرغوثي من مدخل أعمق حزناً وأشد عبثاً، هو ديوانه الأثير لديّ (منطق الكائنات) الذي قدّم فيه خلطة سحرية لا مثيل لها يمتزج فيها العبث بالحكمة، ويرقد الأسى مرتاحاً في حِجر السخرية، أنظر إليه وهو يقول في مقطوعة (المرآة):

“قالت المرآة:

ما أشد تعاستي

لا أحد ممن ينظرون إليّ

يريد أن يراني”.

أو وهو يكثّف مأساة العقل العربي في مقطوعة (دوجما):

“قال بؤبؤ العين:

هؤلاء القوم سينقرضون لا محالة

لأنهم لا يفكرون فيما يرون

بل يرون ما يفكرون فيه”.

خذ عندك أيضاً مقطوعة (جغرافيا) التي تقول:

“قال التلميذ:

في العالم العربي

أرواحنا وبيوتنا

لا تحتاج إلى الزلازل

كي تتشقق”.

أو مقطوعة النرد التي يتجلى فيها قائلاً على لسان نرد لا شك عندي أنه كان نرداً مصرياً بامتياز:

“قال النرد:

أنا وأهل هذه البلاد سواءٌ بسواء

المتنافسون يتقاذفونني بالأيدي

ويتركونني أرتطم بكل الحواف

ليتلذذوا بالفوز

فإن خسروا الجولة

وقع اللوم عليّ”.

لست أحمق لأتصور أنه من الممكن تلخيص شاعر عظيم كمريد البرغوثي وإنتاجه الرحب في مساحة مخنوقة كهذه، ولا أريد أن أظلم شعره باختيار مقطوعات قصيرة فقط لأن ذلك يناسب ضيق الوقت، لكن هل يمكن مثلا أن يمر عليّ ديوانه البديع (رنة الإبرة) ـ والذي يمكن أن ترى فيه كيف يمكن أن تكون القصيدة الواحدة في نفس الوقت فيلماً سينمائياً ورواية ملحمية وحدوتة جدة وكتاب فلسفة وبوح أصدقاء ـ فلا أقتبس منه لكم مقطوعة (استراحة) التي اختار أن يختم بها ديوانه ويفتح أبواب الشجن على مصراعيها:

“غالبني النعاس في انتظار نجدة تأخرت

باعدت جثتين

ونمت هادئا بينهما”.

وهل يمكن أن أتجاهل حتمية قراءة قصيدته الملحمية (سيدتان) من ديوانه الرائع (طال الشتات):

“سيدة تعرف كل محلات الفضة في باريس

وتشكو

سيدة تبكي كل خميس في خمس مقابر

وتكابر”.

يمر الوقت سريعاً دون أن تتاح لي فرصة تحقيق الأمنية التي تصورت أن الأستاذ مريد أتاحها لي بدعوته الكريمة لي بتقديم أمسيته، وهي أن أمسك بالأعمال الشعرية الكاملة التي أصدرتها له دار الشروق في مجلدين نتمنى أن يضم إليهما ثلاث مجلدات جديدة في عمره المديد القادم بإذن الله، وأبدأ أمامه وبصحبته ورغما عنه في قراءة كل ما يعجبني من شعره مصحوبا بعبارات نقدية محكمة ومنهجية من نوعية “يخرب عقلك جبتها إزاي دي.. يخرب بيت أم كده.. يادين النبي.. أحيه عليّ وعلى سنيني” وما إلى ذلك من العبارات النقدية الحقيقية التي تلخص علاقتنا بالشعر كما نحبه ونتمناه.

لا أدري هل سبق لزوجة الأستاذ مريد وحبيبته الدكتورة رضوى عاشور أن اتبعت هذا المنهج النقدي عندما قرأ لها ما كتبه فيها من قصائد غزلية، تلك القصائد التي من فرط سحرها جعلت بعضنا يتمنى أن يكون رضوى عاشور لبعض الوقت، لا بد أن أنتهز هنا الفرصة التي جمعت “رضوى ومريد في بروجرام واحد” لإعلان محبة هذه الكاتبة العظيمة التي ـ وامسكوا الخشب ـ أضافت إلى كل ما حققته من انجازات مدهشة في الكتابة الروائية إنجازاً إنسانياً رائعاً هي أنها كسرت ثلاث قواعد شائعة: أولاً  تعاسة الشعراء في الحب وثانيا ذوق الشعراء الرديء في الحبيبات، وثالثاً أن عظيم الموهبة لا يسعد إلا بصحبة نصف الموهوبة والعكس بالعكس.

لا يعلم إلا الله كم أنعشت قصة حب مريد ورضوى من آمال بين المبدعين المتحابين مختلفي الموهبة، ولا يعلم إلا هو جل جلاله كم كانت أيضاً قصتهما سببا لترديد عبارة “كل قاعدة ولها استثناء ومريد ورضوى هما الاستثناء لا القاعدة”.

هذا وإلى أن أترككم بصحبة البستان نفسه، أسمح لنفسي بأن أهديكم منه وردة تختصر مذهبي الفكري لما تبقى من حياتي قبل أن يتعرّف إليّ الموت:

“لا بُدّ أن هناك طريقةً أخرى

لا بُدّ أن هناك قُبطاناً آخر

لا بُدّ أن هناك شِراعاً أكثر متانة

لا بُدّ أن هناك سُفُنا لا تغرقُ مرتين

لا بُدّ أن يحيا المرء أولا ويموت ثانياً

لا بُدّ أن تكون هناك امرأةٌ أعشقها

أموتُ في سبيلها، دون أن يغارَ الوطن”.

جزء من الكلمة التي ألقيتها في يونيو 2013 في تقديم الاحتفال الذي أقامته دار الشروق بمناسبة صدور الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي الكبير مريد البرغوثي عليه ألف رحمة ونور، خالص العزاء لابنه الشاعر تميم البرغوثي ولجميع أفراد عائلته وكل محبيه في بلاد الله الذين سيفتقدونه في مثل ليلٍ كهذا.

ـ الصورة من نفس الأمسية حين دعوت الدكتورة رضوى للحديث عن حبيبها مريد ـ

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *