في فهم “ظاهرة” نزار بنات
لا أقصد قتله. فهي ليست ظاهرة وإنما جريمة ينبغي معاقبة مرتكبيها، من أعلاهم إلى أدناهم رتبةً.
أقصد بالظاهرة هنا ازدواجية المعايير وتورّط مناضل ضد سلطة قمعية في تأييد سلطة قمعية تفوقها استبدادًا وعُنفًا. فنزار بنات المُنتقد العنيد لأداء “السلطة الوطنية” في الضفة الغربية (وقد ردّت بملاحقته ومضايقته) عبّر فيما مضى عن تأييده لنظام المجازر في دمشق في حربه ضد مواطنيه (في صفحته) ـ وهي حرب سحق فيها هذا النظام الشموليّ نصف الشعب السوري وشرّده كما شرّدت الحركات الصهيونية في حينه وإسرائيل لاحقا حوالي مليون فلسطيني.
كيف يحصل أن يقاوم نزار بنات “سلطة” لم تبلغ هذا المدى من القمع والتقتيل والتدمير ويُدافع عن تلك “السلطة” التي عرضت وطنها للبيع وتكفّلت بإخلائه من نصف مواطنيه؟ ويصير السؤال قاتلًا إذا عرفنا أن نظام المجازر في دمشق دمّر حاضرة اللجوء الفلسطيني في دول الجوار وغيّب آلاف الفلسطينيين من قبل ومن بعد في الوديان السحيقة أو المقابر الجماعية أو المسالخ البشريّة؟
كيف؟
نسأل لأن نزار بنات لم يكون في هذه “الخانة” المُربكة وحده. كان معه فيها “مناضلون” كثر، لاسيّما ممن اصطفّوا مع نظام المجازر قبل العام 2011 وبعده ضد شعبه.
وفق تجربتنا، هنا وفي مواقع أخرى، قد يكون “المناضلون” و”المقاومون” و”المثقفون”، ككل أهل الأرض ضحايا وعي كاذب وشعارات كاذبة أو نتاج خيارات ذاتيّة بائسة في هذه المرحلة من حياتهم أو تلك. (ونزار بنات واحد منهم ـ بناءً على فيديوهاته ومداخلاته هو وما دوّنه على صفحته في الفيسبوك) لكن، يبدو لي أن الظاهرة تتكرّر لأن “المثقّف” أو “المناضل” العربي اعتاد في غالبية الوقت الاتكّاء على “مركز قوة” كي ينشط ضد آخر. هذا بدل أن يُشكّل هو بمبادئه وأفكاره “مركز قوة” رمزي. لم يبذل أكثر من تسجيل مواقف “معارضة” لحالة ما استنادًا إلى مرجعيات في الجوار. عارض البعث السوري واتكأ على البعث العراقي والعكس. عارض السلطة الوطنية واستند إلى سلطة حماس. عارض سلطة إسرائيل واتكأ على “عروبة” سورية. شوهد “المناضل” و”المعارض” و”المثقّف” العربي كغيره من الناس يُسقط أفكاره على “سلطة” خارجه كي يكون! ورأيناه يتبع سُلطات وأطرا سياسية أو أيديولوجية ويتنازل عن يكون ضالعًا بمهمّة تفكيك السلطات كافّة وعن القناعة في ضوء مهمّة نبيلة كهذه بأنها لن تنجح إلّا إذا كانت نقيّة خالصة. ومن هنا يصير الطريق قصيرا إلى تمجيد هذا الدكتاتور وذاك النظام حدّ التقديس بدل أن تكون وظيفته الأساسيّة تعرية الأنظمة ونقدها.
سيُشفى هو ونحن لو أنه اتّبع فكرة الحريّات والحقوق والكرامة الإنسانية وجعلها دينه وديدنه، ولم يُسقطها على أيّ من “السلطات” حوله خاصة تلك التي ترتبط بعلاقات صراع مع السلطة التي يعيش تحتها. كنا سنرى ظواهر مُشرقة لو أن سلطة المثقّف نبعت منه هو، من ضميره وإرادته، ومن فكرة الجوهر الإنساني الرافض للقهر، ومن مبدأ العدالة باعتبارها الفضيلة الأولى.
كان سيُشفى نزار بنات ومثله كثيرون لو أنهم ناضلوا من أجل الحقوق السياسية والحرية والعدالة والكرامة باعتبارها حقوقًا لكل إنسان في كلّ زمان ومكان. ومن هنا، من هذه النُقطة، بالذات نندّد بجريمة قتله، مهما اشتدّ الخلاف بيننا وبينه من نظام المجازر في سورية، لأننا لسنا مع نزار بنات بل لأننا مع حقّ المقاومة ومع حرّية المعتقد والرأي، ولأننا ضد المحاكم الميدانية والتصفيات كأسلوب “إدارة” المجتمع.