

كتبنا من قبل عن وضع الدروز ومكانتهم في إسرائيل من قبيل التأمّل في سيرورة تاريخية انتقلوا فيها من كونهم جزءًا من المجتمع العربيّ المشرقيّ في بلاد الشام إلى كونهم “موضوعًا” في خدمة المشروع الصهيوني.
نقول هذا في ظلّ التحوّلات الأخيرة التي تؤشّر على انتهاء المشروع الإسرائيليّ الليبرالي القائل بإمكانية إنشاء وتطوير “دولة يهودية وديمقراطية” قائمة على حدّ معقول من المواطنة للجميع.
إن اغتيال رابين في العام 1995 كان البداية. ثم أتى تشريع قانون القومية في العام 2018 وتصعيد سياسات الاستحواذ على الأرض وإعاقة تطوّر السكان الأصلانيين في وطنهم وخطاب الكراهية الاستيطاني اليميني ضد غير اليهود بضمنهم الدروز ونزع شرعيتهم السياسيّة والإنسانيّة، وضع فصل الخاتمة للمشروع الإسرائيلي الليبرالي وحويل إسرائيل إلى دولة شعب يهودي يمينيّة الأيديولوجيا.
بمعنى أن القانون وما رافقه من خطاب سياسيّ عنصريّ أخرج الدروز (وسواهم من عرب) من الـ”نحن” الإسرائيلي لأنه هذا الـ”نحن” صار حصريًّا على اليهود الذين هنا والذين في الخارج، أيضًا. وكذلك الجغرافيا والمكان والموارد. من هنا أتى غضب الدروز حيال قانون القومية الذي يستثنيهم ويقول لهم صراحة: “رغم 70 عاما من التضحيات وتكبّدكم الخسائر المعنوية على صعيد الهوية والمعنى والتاريخ فقد قرّرنا نحن اليهود ألّا تكونوا متساوين معنا، نحن أكثر وأنتم أقلّ!”. ليس هذا فحسب، فدلالة القانون معطوفة على دلالات الخطاب اليهودي العنصريّ وعلى قانون كمينتس وسياسات الأرض والتخطيط والبناء جعلت من الدروز كبقيّة العرب في الدولة أو في منزلتهم. ولأن كثيرين من الدروز صدّقوا أنهم ليسوا عربًا وأنهم أقرب إلى “المنتصرين” اليهود ومعهم في “حلف دم” ـ فقد كان غضب هذا البعض أضعاف. إذ كيف يُعقل أن يأتي اليهود العنصريون ويُعيدوا الدروز عربًا في مكانتهم بجرّة قلم؟ وهذا بالذات العامل الأقوى في احتجاج أوساط واسعة من الدروز على قانون القومية. فقد تقبل هذه الأوساط أنها غير متساوية مع اليهود، في رتبة أدنى وحقوق أقلّ، لكن أن يساووهم بالعرب الآخرين ـ فهذه كارثة حقيقيّة لا تُغتفر!
يشعر معظم الدروز لأسباب تاريخية ولعوامل فعلت فعلها في السنوات الأخيرة ولأسباب تتصل ببناء الهويّات أنهم في حالة دفاع عن أنفسهم على جبهات عديدة. في مواجهة العنصريّة اليهودية كما عبّر عنها قانون القوميّة، وفي مواجهة خديعة تاريخيّة تعرضوا لها من المجتمع اليهودي ـ أو قل المؤسّسة الإسرائيلية العميقة، في مواجهة خطاب مستهتر ومستخفّ من اليمين العنصريّ، في مواجهة حيل سياسية وإعلامية تستهدفهم كلّ يوم، في مواجهة سياسات الأرض والحصار. وعلى مستوى آخر، هم في مواجهة لاتهامات ترد من البيئة العربية المشرقية بالخيانة أو بالارتزاق لدى السلطة الإسرائيلية. على مستوى ثالث، هم مجنّدون بالكامل في مدّ يد العون للأخوة في سورية ويقظون متحفزون في متابعة شؤون الأشقاء في لبنان. هذا يعني أنهم مستنزفون تمامًا ومأزومون وفي موقع استراتيجي غير مريح.
باختصار الدولة القومية في الإقليم لا تُنصف الدروز في الراهن ولا تأخذ بتضحياتهم وتصرّ على اعتبارهم “جماعة مشبوهة” يُمكن التأثير على هويّتها بما يخدم عقائد وإيديولوجيات أو هي مجرّد موضوع (ليسوا ذوات وبني آدمين) يُستثمر هنا أو يتمّ توظيفه هناك. في إطار هذا الشعور بالغبن على مختلف الجبهات يتعامل الدروز في إسرائيل بريبة وعدم ثقة مع كل محاولات تصحيح قانون القومية أو إعادة الاعتبار لهم في إطار الحسابات الانتخابيّة الإسرائيليّة.
وقد سرّني كثيرا أن أرى المزيد من أبناء وبنات الطائفة المعروفيّة من مختلف الأجيال، يعبّرون عن رفضهم للمناورات التي تتعرّض لها طائفتهم ويُطالبون القيادات بعدم التعاون مع هذه المناورات التي قد تتحوّل إلى مؤامرات جديدة بحقّهم كلّما تدهور الوضع السياسيّ في إسرائيل والإقليم. بعد سبعين عامًا جاءهم قانون القومية العنصريّ وحشرهم في الزاوية، ولا حاجة لسبعين سنة أخرى كي تجيئهم كارثة أخرى. بمعنى، أنه ولو كان الراهن لم يعصف بالناس بقوة فإن المستقبل غير واضح البتّة.
لأنني لا أرى قيادة درزية واعية وجماعية فإنني أراهن على الأفراد أن يُمارسوا وعيهم الذاتيّ باتجاه الخروج من إسار الوهم الإسرائيلي وأدعيائه.
(الصورة من تظاهرة الدروز في العام 2018 في تل أبيب، ضد قانون القومية)