في صراع المستعمرين المؤسسين والمستعمرين المستجدين
تشهد إسرائيل حالة صراع داخلي غير مسبوقة تشرخ المجتمع الإسرائيلي اليهودي وتقسمه إلى فئتين متصارعتين يبدو الجسر بينهما غير ممكن، على الأقل في الظرف القائم. تنتظم هاتان الفئتان حاليًا في معسكرين متنازعين: معسكر اليمين الجديد الذي يتبوأ الحكومة ويضم في صفوفه تنويعات من أقصى اليمين الشعبوي واليمين الكهاني والصهيونية والحردلية (المتزمتة قوميًا ودينيًا) والحريدية التي مرت بعملية “تهويد قومي” مستمرة، وذلك في مقابل المعارضة التي تقوم بالاحتجاجات على خطة الانقلاب القضائي لياريف ليفين وتجمع أحزاب الوسط واليسار واليمين الدولاني. ولكل معسكر سماته الطبقية والاجتماعية والإثنية ورؤيته لطابع الدولة. ويتوافق المعسكران على يهودية الدولة وعلى الصهيونية لكنهما يختلفان على باقي التفاصيل.
يعتبر اليمين أن المعارضة تراخت في تحقيق الصهيونية الحقة واستفردت بالحكم من خلال توظيف النخب، وترى المعارضة أن اليمين يدمر الصهيونية ويأخذ الدولة التي حققتها إلى الهاوية من خلال تحويلها من يهودية ديمقراطية إلى دكتاتورية.
يسير أقصى اليمين الجديد باتجاه إعادة بناء المشروع الصهيوني على أسس جديدة تستبدل الصهيونية العلمانية الإسرائيلية الرخوة، تقوم على القومية اليهودية وقيم المحافظة والتفوق اليهودي وحصرية الحقوق الجماعية بين النهر والبحر باليهود واستكمال تحقيق كامل السيادة اليهودية على “أرض إسرائيل”.
أقترح في هذه المقالة قراءة للصراع القائم من خلال ربطه بعلاقة المجموعتين مع المشروع الاستعماري الصهيوني والصراع على رأس المال الرمزي الاستعماري، ووفق ذلك قراءة الصراع كصراع متعدد الطبقات، تاريخي واجتماعي وسيكولوجي، بين “المستعمرين المؤسسين” و”المستعمرين المستجدين”.
“المستعمرون المؤسسون“: أطلق عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ على هذه الجماعة تسمية “الأحوساليم” للإشارة إلى الأشكناز والعلمانيين والقدامى والاشتراكيين والقوميين ومن تطبّع بطباعهم
[1] ممن قادوا المشروع الصهيوني، هؤلاء هم من أنشأوا المشروع الصهيوني وسكوا مفاهيمه ووضعوا لبناته وقادوا عملية الاستعمار في فلسطين وصولًا إلى إقامة الدولة اليهودية في 1948، وقيادتها في عقودها الأولى. قاد المستعمرون المؤسسون عملية التطهير الإثني والتدمير المنظم للوجود الفلسطيني في العام 1948، وأقاموا البنية التحتية القانونية للدولة اليهودية على أساس نتائج النكبة ومنع عودة اللاجئين، وهم من وضعوا دين الدولة المدني وقادوا عملية استجلاب المهاجرين من الدول العربية والإسلامية وأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودفعوا بسياسات “بوتقة الصهر” التي هدفت إلى صهر المهاجرين في هوية إسرائيلية تحاكي تصوراتهم الغربية الحداثية العلمانية وشكلوا بنيتها المؤسساتية على أساس فكرة المملختيوت/الدولانية التي تحيل إلى فصل الحزبية عن مؤسسات الدولة. وبحسب كيمرلينغ تشكل هيكل السلطة الأشكنازي التقليدي في إسرائيل على قاعدة مزيج من الهيمنة الاقتصادية والثقافية والعسكرية.
وبفعل دورها التاريخي، فقد حظيت هذه الجماعة برأس المال الاقتصادي والاجتماعي والرمزي للمشروع الصهيوني، وشكلت نخبة الطبقة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، لكنها بدأت تفقد هيمنتها تدريجيًا على زمام “مشروعها ” بفعل العوامل الديمغرافية والاجتماعية وتفاعلها مع الأيديولوجيا الصهيونية وسياسات بوتقة الصهر والبنية الديمقراطية للدولة اليهودية، والتي أدت إلى ظهور جماعات قوة جديدة ونخب سياسية منافسة وتتيح تحالفات قادرة على أن تصارع على رأس المال المتعدد الذي تمتلكه الجماعة المهيمنة.
“المستعمرون المستجدون” parvenu[2] البارفينو كلمة فرنسية تستخدم لوصف “القادمون الجدد للطبقة” او “الجماعة” الذين ما زالوا غير قادرين على التخلص تمامًا من خلفيتهم الاجتماعية ويمكن استخدامها لوصف القادمين الجدد للصهيونية بفعل انضمامهم المتأخر للمشروع الصهيوني. تضم هذه الجماعة بشكل أساسي جماعات واسعة من الشرقيين خاصة من أبناء الطبقات الاقتصادية الأقل حظًا والمحافظة، والحريدين وتيار الصهيونية الدينية. يشكّل هؤلاء اليوم المخزون الانتخابي الأساسي لمعسكر أقصى اليمين الجديد الحالي والجزء الأساسي من النخبة السياسية الحاكمة.
تتميز هذه الفئات بأنها التحقت بالصهيونية في وقت متأخر، بعد إقامة إسرائيل، أو كانت تاريخيًا على هامشها وتموضعت عل هامش الهيمنة الأشكنازية العلمانية التي قادها مباي في السنوات الأولى للدولة، لذلك فهي أيضًا لا تتمتع برأس المال الرمزي الذي يتمتع به المؤسسون (الأحوساليم) بوصفهم من قاد ونفذ وكتب وسك مفاهيم الصهيونية. في ظل التغيرات الاجتماعية وتحالفهم السياسي تمكن المستجدون من مراكمة رأس مال “سياسي” دون أن يراكموا بموازاته رأس مال رمزي واقتصادي وثقافي الذي ظل محفوظًا للنخب المؤسسة وانعكس في السردية القومية وفي بنية النخب الثقافية والقضائية والاقتصادية. أنتج هذا الواقع هوة بين “قوة” رأس المال السياسي للمستجدين وبين “ضعف” رأس مالهم الثقافي والاقتصادي والرمزي ككل بسبب علاقات القوة التي أفرزها تشكل المشروع الصهيوني تاريخيًا.
فقد التحق الشرقيون بالصهيونية بعد إقامة إسرائيل ولم يلعبوا دورًا يذكر في تأسيس الصهيونية ونحت معانيها وتصوراتها أو في تحقيقها عبر استخدام العنف الممنهج وصولًا إلى إقامة الدولة اليهودية في 1948، سياسات بوتقة الصهر والبنية السياسية الحزبية من جهة وبنية الجيش وفرص العمل التي أتاحها من دون حاجة لشهادات مميزة، أسهمت في تصعيد نخب شرقية سياسية وعسكرية وصولًا إلى تبوؤهم قيادة الجيش ورئاسة الدولة وتبوؤ الوزارات المهمة، لكن ذلك لم يوازى بتصعيد نخب قضائية وفكرية وثقافية بسبب المعيقات البنيوية التي انضفرت في هيكلة التعليم وفي توزيعه الشرقيين الجغرافي على بلدات الأطراف وبالتالي في الطبقات الأقل حظًا.
فيما عارض الحريديون تاريخيًا الصهيونية ولم يوافقوا على عدم معارضة إقامة الدولة اليهودية في 1948 إلا بعد توقيع اتفاق الستاتوس كوو مع ديفيد بن غوريون الذي ضمن لهم شكلًا من الحكم الذاتي داخل الدولة ، تمكن هؤلاء أيضًا من ترجمة قوتهم الانتخابية إلى رافعة لبناء نخب سياسية لكنهم وبسبب بنية مجتمعاتهم وتمحورهم حول دراسات التوراة وتزمتهم لم يُصعّدوا أي نخب لا ثقافية ولا اقتصادية بل تحولوا إلى أقل الجماعات حظًا في البنية الاقتصادية القائمة.
وكانت الصهيونية الدينية مجرد تيار قطاعي هامشي في الصهيونية، وتذنبت بشكل عام لحكم مباي قبل أن تتحول إلى رأس حربة المشروع الاستيطاني بعد الاحتلال في 1967.
تسبب انضمام “الشرقيين” للمشروع الصهيوني بعد إقامة الدولة بتغيير البنية الديمغرافية للمجتمع المؤسس، وبعد أن كان اليهود الأشكناز العلمانيون يشكلون أكثر من 85% من المجتمع اليهودي في 1948 أصبح مجتمع المهاجرين اليهودي مقسومًا مناصفة بين أشكناز وشرقيين، وبالتقاطع مع انضمام الحريديين وتزايدهم عدديًا إلى جانب المتدينين القوميين، تراجعت بشكل مثابر ومستمر قوة العلمانيين العددية وتحولوا من أغلبية ساحقة ومسيطرة سياسيًا إلى ما يقارب 40 -45% اليوم، توازت هذه التغيرات مع تحول الحريديين وبشكل تدريجيّ من جماعات “خارجية” للصهيونية تتصرف على أساس قطاعي مصالحي غير محسوب لا على يمين ولا على يسار، إلى جزء نشط وفاعل في المشهد السياسي، جاء ذلك محمولًا بعملية قومنة وانزياح مستمر نحو اليمين وصولًا إلى تموضعه في قلب معسكر اليمين الجديد والتحول إلى أحد أعمدته المركزية، أما الصهيونية الدينية فمرت بثورة أيديولوجية داخلية حولتها من حزب ملحق لمباي إلى رأس حربة الصهيونية الاستيطانية، وأما الليكود الذي كان أيضًا بطوره الأول – حيروت – حزبًا أشكنازيًا متموضعًا خارج حدود الاعتبار السياسي لحكم مباي، فنجح بعد التحالف مع “الصهاينة المستجدين” بالفوز في 1977، وهذا الحزب الذي يقود اليوم تيار أقصى اليمين الجديد مر بدوره بتحولات عميقة أدت إلى تحوله من حزب يميني ليبرالي إلى حزب يميني شعبوي يتمحور حول شخصية الزعيم ويطور حوله طقوس ولاء وتبجيل.
في هذا السياق يمكن فهم الصراع الحالي بأنه صراع مركب ومتعدد الطبقات في واقع استعماري متغير ودينامي يصارع فيه المستعمر المستجد المستعمر المؤسس من أجل استبداله وتبوؤ مكانته التاريخية عبر إقامة هيمنة جديدة نشطة قوية تستبدل هيمنة القدماء الذين ارتخت بحسبه قيمهم القومية وتعولمت هويتهم وابتعدوا عن المعنى الحقيقي للصهيونية، من هنا فإن زعماء أقصى اليمين لا يستأنفون على الصهيونية الأم بل ينتقدون “الابتعاد عنها” ويدعون أنهم هم وحدهم من يمثلون اليوم “الصهيونية الحقة”.
في المشهد الاجتماعي السياسي القائم على التوافق بين اليمين والمعارضة على مبدأ الصهيونية ومبدأ يهودية الدولة، ومع خلخلة هيمنة الصهيونية العلمانية الأشكنازية وظهور قوة الجماعات المتدينة الحريدية والاستيطانية والمحافظة الشرقية، تتحول “المبالغة” و”التمادي” في الخطاب والممارسة معًا إلى جزء لا يتجزأ من أدوات الصراع على الحكم والهيمنة.
في مقابل علمانية المؤسسين والدولانية التي أقاموها ويصارعون للدفاع عنها، يدفع أقصى اليمين الجديد باتجاه الردكلة نحو دولة أكثر يهودية، ويهودية أكثر قومية وقومية أكثر يهودية، ويدفع إلى حسم “العدو/الفلسطيني” وإقامة السيادة الكاملة والصلبة في أرض إسرائيل.
على خلاف الصهيونية المؤسسة التي تحولت من سلوك استعماري عنيف قبل 48 إلى سلوك دولاني استعماري بعد إقامة إسرائيل يقوم على المؤسساتية والبيروقراطية القانونية والديمقراطية الليبرالية، فإن الصهيونية المستجدة تمارس دورًا يقوم على خليط بين ممارسة المستعمر النشط والطلائعي المتدين والمتزمت قوميًا ليهوديته ويمثله نموذج “شبيبة التلال” التي تقود عمليات الاستعمار في الجبال والهضاب في الضفة الغربية والعربدة العنيفة مقابل الفلسطينيين وبين المستعمر الدولاني الذي يتخذ من أدوات الدولة المؤسساتية والقانونية روافع لتحقيق مشروعه، لذلك فإن ممارسته التي تستفيد من قوة الدولة وحمايتها وموروثها الاستعماري من جهة ومن اندفاعه اليهودي الخلاصي للاستيطان الذي يرى أنه جزء من استكمال تحقيق الصهيونية، تتحول إلى ممارسة أكثر مشهدية في مقابل الفلسطيني وتتخذ شكل انفلات الجماعات المتطرفة كما جرى في حرق حوارة أو خلال هبة الكرامة العام 2021، ومن ثم مع صعود حكومة أقصى اليمين في الإسراع بهدم بيوت منفذي العمليات قبل أن يتم إجراء تحقيق واتخاذ إجراءات قمعية باتجاه الأسرى فقط من أجل “إظهار” قدرة الحكم والبطش. وفي ظل استمرار الصراع مع سكان البلاد تتحول “المبالغة” إلى أداة المستعمر المستجد إلى تجاوز المستعمر المؤسس، ويعمد دورهم في السردية القومية الكبرى وأساطيرها الجمعية إلى التموضع في تاريخها ليس كهامشيين ملتحقين بل كفاعلين نشطين.
في هذا السياق يشكل احتلال الأراضي الفلسطينية في 1967 “فرصة ثانية” للصهاينة الملتحقين للعب الدور المشتهى في المشروع القومي الاستعماري الذي فاتهم عام 1948، ولعب دور طلائع الاستيطان الجدد الذين يسعون لاستكمال المشروع الصهيوني “المبتور”.
يتحقق المستوى الاستعماري عبر المواجهة مع الفلسطيني والسعي إلى سحقه، حيث يصبح هزم الفلسطيني الأصلاني (عماليق) والسيادة على كل البلاد هو الطقس الذي سيعمد مكانة الصهاينة المستجدين في المشروع القومي الاستعماري العام كـ”أسياد البلاد وأصحاب المكان” (وبلغة إيتمار بن غفير “باعل هبيت”). لكن هذا المشروع يظل غير كاف لتعميدهم إن لم يواز انتصارهم على الأعداء قتل أب رمزي بلغة فرويدية، تمكن المستجدون/الأبناء من أن يرثوا فعليًا الآباء المؤسسين وأن يجلسوا مكانهم، بكلمات أخرى تمكن الصهاينة المستجدون من أن يصبحوا صهاينة مؤسسين سواء عبر “ثورة قضائية” تمكنهم من تفكيك آخر معاقل هيمنة الصهيونية المؤسسة أو من خلال نزع شرعيتهم ومحاصرتهم ومنع عودتهم للحكم بعد إجراء تغييرات بنيوية في النظام أو عبر تعميدهم في البنية الجديدة كيهود جدد. تأخذ الصهيونية المستجدة بقيادة أقصى اليمين الجديد من قاموس الصهيونية المؤسسة قيمها المركزية، وتعيد تدويرها وتوظيفها لاستكمال المشروع الصهيوني والدفع لتحققه الكامل بعد أن تراخى الأبناء المؤسسون عن استكماله: تحقيق السيادة الكاملة على أرض إسرائيل عبر الاستيطان بكل أشكاله وأدواته، والتهويد المثابر وترسيخ التفوق اليهودي بين النهر والبحر وسحق الفلسطينيين وأيضًا إعادة تهويد “الصهاينة الأوائل” الذين تراخت يهوديتهم وهويتهم.
[1] باروخ كيمرلينغ في “أفول الهيمنة الأشكنازية الأحوساليم هي الأحرف الأولى من “أشكناز، وعلمانيون، وقدامى، واشتراكيون وقومويون”.
[2] للمزيد انظر حنة أرندت عن البارفينو في راحيل فارغنهان ، Arendt, H. (1957). Rahel Varnhagen: The Life of a Jewess. The Jewish Writings, edited by Jerome Kohn and Ron H. Feldman, Schocken Books, 2007, pp. 235-301.
عن المشهد الإسرائيلي – مدار / المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية