في ذكرى ياسر عرفات بعض ما كتبته عنه في كتابي تبغ وزيتون حكايات وصور من زمن مقاوم…
تُرى، كيف يمكن أن نفسّر سيرة الزعيم الفلسطيني الأبرز الذي أطلق الرصاصة الأولى في الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965، وأصبح مطاردًا من الأنظمة العربية التي اتهمته بمحاولة توريطها في مواجهةٍ لم تستعد لها، ليتحول العمل الفدائي إلى أنبل ظاهرة في الأمة العربية بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967 كما وصفه الرئيس جمال عبد الناصر، وتُفتح أمامه العواصم، ويتمكن الفدائي من التنقل عبر الحدود العربية بورقة إجازة، بعد أن كان الفلسطيني ممنوعًا من الحركة والتنقل.
تسلّل عرفات إلى الضفة الفلسطينية، بعد حرب حزيران، ليطلق منها الرصاصة الثانية. قاتل مع الجيش الأردني في الكرامة والأغوار، وحاول تنظيم العلاقة مع لبنان في اتفاق القاهرة، ليجد نفسه هناك متورطًا في حربٍ أهلية سعى جهده إلى الخلاص منها. أقام في لبنان قواعد ارتكاز لقتال العدو الصهيوني، إلّا أنّ محاولاته في العثور على مقعد في قطار التسوية، بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، حولت لبنان إلى ورقة متنازع عليها بينه وبين سورية، حليفته بالأمس، وخصمه اللدود في ما بعد. غيّر استراتيجية منظمة التحرير، من تحرير فلسطين كلها، وإقامة الدولة الديمقراطية إلى إقامة السلطة الوطنية في الضفة وغزة منذ 1974، وبرنامج النقاط العشر. لم يمنعه ذلك كله من البقاء في خنادق المواجهة والقتال، وقيادة غابة البنادق، كما كان يسميها. قاتل في بيروت شهراً إضافياً، بعد أن تقرر الانسحاب منها، حتى يضمن انسحاباً مشرفاً، لجيش ثوري مقاتل، يعتز ببندقيته ويقدّس سلاحه. خرج من أبواب بيروت، ليعود من شبابيكها في طرابلس والجنوب والمخيمات، وليثبت أنّه حيث يوجد الفلسطينيون توجد منظماتهم، وحيث تكون هناك مواجهة مع العدو يكون هناك الفدائي.
بعد خروجه من بيروت، وفقدانه الورقة اللبنانية، توهم كثيرون أنّه خرج من المعادلة، وبجرأة شديدة، عاد إلى طرابلس، وقاتل فيها، وتمسك بمواقعه في لبنان، وخاض حرب المخيمات، وكأنّه ينتظر شيئاً يعوضه عن تلك الخسارة الكبيرة. هذه المرة، أنقذته الأرض المحتلة بانتفاضتها، فبعد أطفال الـ “آر بي جي” جاء أطفال الحجارة. ولم تعد أيٌّ من القوى الإقليمية قادرة على منازعته التمثيل الفلسطيني، بدا مقعده في قطار التسوية المنطلق ببطء أقرب إليه من أي وقت مضى، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفنه، اجتاح صدام حسين الكويت، ونشبت حرب الخليج.
كان أبو عمّار لا يزال مسكوناً بمرحلة الحرب الباردة. تأخر في إدراك المتغيرات على المستوى الدولي، ولم يعتقد أنّ حرباً ستنشب. ظل على اعتقاده بأنّها أزمة ستُحلّ، فتخلى عن حذره، وعن شعار حركة فتح التاريخي في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وبعد الحرب، دفع ثمن هذا الموقف. سابقاً، كان مكانه المفضل في الجو على متن طائرة لا تهدأ، أمّا الآن، فأصبح مقيماً بصفة دائمة في تونس، وغير مُرحّب به في عواصم عديدة. عاش وسط حصار عربي خانق، أشد وأصعب من حصاره في بيروت، وبدا وكأنّ مرحلته أوشكت على الأفول. فجأة ضرب ضربته، وفاجأ الجميع بما فيهم حلفاءه، ووقّع اتفاق أوسلو مع العدو، وغدا بين ليلة وضحاها الضيف المرغوب به في أروقة البيت الأبيض، وعادت طائرته تحلّق في الأجواء. في اتفاق أوسلو، اعترف أبو عمّار بدولة إسرائيل، في حين اعترفت الأخيرة بأنّ منظمة التحرير هي الممثل للشعب الفلسطيني في أي مفاوضات معها. في “أوسلو”، خطيئته التاريخية، اعترف العدو بصفته التمثيلية، ولم يعترف بحقوقه، وبذلك نجح عرفات في تفكيك آثار الحصار الذي فُرض عليه، وعاد إلى مربع الفعل، لكنّه لم يعرف أنّه وقّع أيضاً على وثيقة استشهاده.
أحد المقربين منه كتب عنه أنّه كان مسكوناً بجنون الجغرافيا، كان حلمه إيجاد بقعة جغرافية ينطلق منها نحو الوطن. الجغرافيا تحكمت في مسيرة ياسر عرفات، ولم يتمكن من ترويضها، وأدخلته في تحالفات ومعارك، ربما لم يكن يريد التورط فيها، وسعى جاهداً إلى الخلاص من آثارها ونتائجها.
ولعلي هنا أضيف هاجساً آخر سيطر عليه، هو الخوف من انتظار الحدث. كان ماثلاً أمام عينيه مصير الحاج أمين الحسيني الذي انتقل بعد حرب 1948، ودخول الجيوش العربية فلسطين من دائرة الفعل إلى مربع الانتظار، دفعه هذا الخوف إلى أن يسعى جهده، ليكون في دائرة من يصنعون الفعل، وليس من ينتظرون نتائجه، وفي سبيل ذلك، ركب المخاطر، واتخذ قراراتٍ أصاب في بعضها وأخطأ في غيرها. يقوده اجتهاده إلى النصر أحياناً، ويجره إلى كارثة “أوسلو” التي تجرع مرارتها، لكنّه في جميع الأحوال لم يكن يتردد في قراراته، ولعل ذلك نابع من إيمانه بأنّ في وسعه، من خلال الحركة، تغيير المعادلات القائمة، أو التأثير فيها، لكنه كان متيقناً أن السكون قاتل.
عندما كان يحدّثه أحدهم عن بعض الفساد المحيط به، كان يجيب أنّ التاريخ سيحاسبه على القدس، إذا فرط بها، أو لم يتمكن من استعادتها. وظل وفياً لذلك، إذ سرعان ما أدرك أنّ “أوسلو” وصلت إلى نهايتها، بعد فشل مباحثات كامب ديفيد وطابا، وأصبح مطلوباً منه أن يدخل في دوامة المفاوضات التي تلد أخرى. رفض العودة إلى مربع السكون، فتمرّد على “أوسلو”، ولم يعد سراً أنّه كان مع عسكرة الانتفاضة الثانية، وأنّه موّل وسلّح ووجّه ودفع بهذا الاتجاه. اعتقد أنّه قادر، بذلك، على الضغط على عدوه، وعلى فرض شروط أخرى جديدة على هذا العدو في أي مفاوضات لاحقة، وغني عن القول كيف حوصر ياسر عرفات، وكيف انقلب عليه بعض رفاق الأمس، ففي حين كان يسعى إلى تأجيج الانتفاضة، وهو محاصر، كان آخرون يسعون إلى إجهاضها. واجه أبو عمّار مصيره بشجاعة، وذهب كما أراد شهيداً شهيداً شهيداً.