في ذكرى رحيل عبد الحكيم مفيد
– كلّ دروب وطننا تعرف جولاتنا الكفاحية أيها العزيز. كم تشاورنا في المواقف وفي الاجتهادات وتقاسمنا الهمّ والمهام، وكم اعتمدتُ عليك واعتمدتَ عليّ، فكنت الناطق باسمي وأنا الناطق باسمك، كم أفتقدك حتى قبل أن أعتاد على فراقك وغيابك الدائمين.
– حين كنت أفكر بالناس الذين سألقاهم عند لحظة الفرج وإطلاق سراحي، كان حضور عبد الحكيم يرتسم في المقدمة.. والآن ذكراه الطيّبة هي ما تبقّى أمامي.
– نص رسالة التعزية التي بعثت بها من السجن يوم 24/11/2017 واليوم أهديها الى عمر..
في صباح ذاك اليوم الأليم سألني أحد زملائي المناضلين القدامى في زنزانة الأسر، هل تعرف عبد الحكيم مفيد؟ فقلت له إنه صديقي القريب. واصل زميلي: “تحدثوا عنه في الراديو”، واعتبرت ذلك أمراً عاديا. لكن سرعان ما لاحظت تردّداً في إتمام ما بدأ به. سألني: هل هو إعلامي وكان مرشحاً لرئاسة لجنة المتابعة؟ فأكدت له ذلك. تردّد أكثر، وأنا راودني قلق استبعدته للتوّ، فلم يكن مجال امام زميلي إلا ليبلغني بالخبر المروّع الذي وقع عليّ ثقيلا يحمل حزنا صادماً. فهمت ولم استوعب.
تحوّلت انا للسائل وزميلي المقدسي الى المجيب، وكأنّي أعاتبه وأنا استفسر منه ما سمعه بالضبط، ربّما كان هنالك مجال للخطأ.. لكني أخفقت. قلت له: أتعرف أنك بإنبائك لي فإنني قد فقدت صديقي فقدت أخي.
خلدتُ الى ذاتي علّني استوعب الخبر المفجع، والدمعة تزاحم الفكرة، ولا من أحد أستطيع أن أتقاسم معه معه الحزن والأسى، لأستعيد ذكرى طيّبة لمن سأفتقده كثيرا كثيرا.. إنسان وصديق وسند، دائماً سألت عنه الأسرة والمحامين في زياراتهم لي، وسألت كلَّ معتقل جديد حضر الى السجن من مصمص وأم الفحم والمنطقة، فهو من الناس وتعرفه كل الناس وسمعته الطيّبة في القلوب وله عندي مكانة خاصة.
قبل أسابيع قليلة حضر أحد المعتقلين من أم الفحم فسألته عنه فأجابني: “عبد الحكيم هو عبد الحكيم” وأرفق كلامه بابتسامة. وهو فعلا كذلك هو عبد الحكيم بشخصيته المتميزة والفذّة، والتي تحظى باحترام وودٍّ وتقدير سواء من القريبين أم من البعيدين وحتى من الخصوم الذين هم خصوم موقف وليسوا خصومَ الشخص صاحب الحضور والموقف والخُلق.
ساعات قليلة قبيل اعتقالي في ايار 2010 كنتُ وعبد الحكيم والشيخ رائد صلاح ورجا اغبارية وقدري ابو واصل وعبد الرؤوف مواسي على ارض العراقيب نساند الأهل هناك ونخطط لحملة دولية لحماية القرية في مواجهة مشاريع المستعمر الاقتلاعية، ثم غادرناها في عتمة المساء.
لكنّ جولتنا مع عبد الحكيم لم تبدأ في العراقيب فحسب، ولا في الدفاع عن النقب والوجود العربي المتجذّر فيه، ولم تتوقف منذ حوالي الاربعة عقود دفاعا عن الوطن وعن الشعب فيه وفي الشتات حتى عودة الأخيرين.
إلتقينا في في الحركة الطلابية العربية في إحدى مراحل نهضتها في الثمانينيات الأولى، وكنا في موقع التنافس والخصام المُثري والمثقِّف. كان عبد الحكيم في الحركة الوطنية التقدمية – ابناء البلد، وأنا في الحزب الشيوعي وجبهة الطلاب العرب. وفي خضمّ التنافس كانت لنا لغة مشتركة وتفاهم جوهري على اختلافاتنا وعلى اتفاقنا، وهنا ولدت صداقتنا وعلاقة وثيقة من الاحترام والتقدير المتبادل والحوار الدائم وثقة عميقة تعززت على الدوام، وبالذات حين تبوّأ مواقع قيادية في الحركة الاسلامية ولجنة المتابعة العليا، وأنا في اتحاد الجمعيات الاهلية واللجنة الشعبية للدفاع عن الحريات في لجنة المتابعة.
التقينا في كل معارك شعبنا، في كل بيت جرى هدمه ليعاد بناؤه، وفي كل بيت مهدد بالهدم لنحمي بقاءه، وفي كل مسيرة كفاحية وفي مواجهة كل حملة بوليسية ترهيبية، وفي كل موقع لمعركة الدفاع عن الارض والوجود والمسكن والحق، التقينا وبادرنا للتصدي لكل ملاحقة سياسية ومساندة الملاحقين أفرادا كانوا أم مؤسسات أم أحزاب وحركات سياسية. لم تكن مسيرة نضالية إلا والتقينا وتقاسمنا المسؤولية، نظّمنا “حملة الصمود والتحدّي” دفاعا عن الحريات والأرض والمسكن. التقينا في النقب والساحل والجليل والمثلث، وفي الندوات وورشات النقاش ووضع التصوّرات المستقبلية، وفي مهرجان “الاقصى في خطر” في كل عام وفي الأقصى وساحاته دفاعا عنه، التقينا في الإفطار الجماعي الجامع والذي اعتمدته الحركة الاسلامية تقليداً من التكافل يليق بشعبنا ويجمع شملنا. جمعتنا مسيرات العودة والهبّات الشعبية الغاضبة لمواجهة العدوان الاسرائيلي المتكرر على غزة ومساندة صمود الغزيين، وفي حملات الإغاثة ومواجهة العدوان الاسرائيلي واجتياحه لمكن الضفة الغربية، وبالذات في إغاثة مخيم جنين وتضميد جراحه.
التقينا في مداخل السجون تضامنا مع أسرى الحرية في إضراباتهم ونضالاتهم، إلى أن غدوت أنا أسيراً وعبد الحكيم مناصراً مسانداً منذ لحظة اعتقالي، وفي الحضور التظاهري الحاشد لجلسات المحاكم. لم يترك عبد الحكيم للحظة البعد الإنساني في الوقوف الى جانب عائلتي واُسرتي ومساندتها والتواصل معها طوال السنوات للاطمئنان والدعم وإرسال التحيات لي، وذلك كموقف مبدئي منه، ووفاءً لثقتنا المتبادلة.
كلّ دروب وطننا تعرف جولاتنا الكفاحية أيها العزيز. كم تشاورنا في المواقف وفي الاجتهادات وتقاسمنا الهمّ والمهام، وكم اعتمدتُ عليك واعتمدتَ عليّ، فكنت الناطق باسمي وأنا الناطق باسمك، كم أفتقدك حتى قبل أن أعتاد على فراقك وغيابك الدائمين.
الى الإبن والزوجة والأهل
وإليك أيها الشاب الحبيب الواعد عمر، كم كان والدك فخورا بك ومحبّا لك ولإخوتك. أذكر كيف كان يتيح لك أن ترافقه في جولاته وبأن تجالس من يحضر الى بيتكم العامر بكم جميعا، وكان يخصص وقتا للحديث عن سعة معارفك ومعرفتك، وعن موهبتك الشخصية الفذّة منذ الصغر. وأؤكد لك أن فيك الكثير منه ومن شخصيته الاجتماعية والقيادية الفذة، والمتميزة بسعة ثقافتها وبقتلعاتها العميقة والمنفتحة على المعرفة وعلى الآراء والأفكار والتيارات الأخرى. أبوك هو مبعث فخر واعتزاز.
وإلى زوجة الفقيد الأخت نوال محارب أقول إنّ مصابك جلل، وفقدان عبد الحكيم هو صاعق وصادم تعجز الكلمات عن الإحاطة بحجم الحزن. إن فقدان إنسان كبير الحضور والأثر والحيوية والسمعة الطيبة هو مفجع بذات القدر. فحزننا عليه هو بمن كان الراحل، وفي ذلك بعض العزاء. ذكراه باقية في القلوب ، وحضوره وأثره ستصونه الناس الطيّبة وسيصونه ما تركه من أعمال وكتابات وأثر.
أتوجه إليكم الحاج مفيد اغبارية (بعد خروجي من السجن علمت انه توفي. لروحه السلام) والشيخ ابراهيم والى عموم العائلة بأحر التعازي ومشاعر المواساة، وأشارككم الحزن الذي يضاعفه القهر، إذ تحول جدران السجن دون أن أشارك في وداع عبد الحكيم.
حين كنت أفكر بالناس الذين سألقاهم عند لحظة الفرج وإطلاق سراحي، كان حضور عبد الحكيم يرتسم في المقدمة.. والآن ذكراه الطيّبة هي ما تبقّى أمامي.
وداعاً أخي وصديقي عبد الحكيم .. سأحمل ذكراك وأواصل.
أمير مخول
(من سجن الجلبوع) 24/11/2017