في ذكرى رحيل صديقي نائل بلعاوي

1- كـــاتـــب مــــمـــيـــز

لم أر إنساناً كتب عن الحرية والإستبداد، والاحتلال، وحقوق الإنسان مثلما كتب نائل بلعاوي. لم يكتب فقط عن كم من الموضوعات: الثورة السورية، الطاغية بشار الأسد، عطش الشعوب العربية إلى الحرية، هذه الإسرائيل، هذا الشيء محمد بن سلمان، تمتع الشعوب الأوروبية بالحرية وممارسة حرية الرأي والنقد وعدم مجاملة ومنافقة الحكام…، بل إن ما يميز نائل هي تلك الرؤية الواسعة والعميقة للإنسان والحياة والعالم، تلك الكيفية التي يتناول بها الأشياء والأحداث والظواهر، وقدرته على طرح قضايا والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة ذكية ومبتكرة.

أعتقد بأن نائل بلعاوي كان الأكثر تفرداً وتميزاً في الكتابة على الفيس بوك كماً ونوعاً، اختياراً للمواضيع ومعالجة لها بجمالية لغوية وشجاعة أدبية وإنسانية، وانحيازاً لقيم الحق والخير والجمال، انحيازاً للحرية والإنسان.

2- عـــاشـــق لــلــحــريــة.. كــاره لــلــطــغــاة

كثير من السوريين حزنوا لرحيل نائل بلعاوي، وهو الفلسطيني، وكتبوا عنه، لأنه كان مع الثورة السورية حتى العمق. لكن نائل كان مع كل ثورات الحرية وضد كل الطغاة. بالنسبة له هذه قضية مبدأ، الإنسان لا يتجزأ.. الحرية لا تتجزأ.. والأخلاق لا تتجزأ.

..  لم أر مثل نائل بلعاوي عاشقاً للحرية.. كارهاً للطغاة.

3- الــمــنــغــمــس فــي الــحــيــاة.. الــمــحــلــق فــي الــجــمــال

كان نائل منغمساً في الحياة وصديقاً لها لدرجة الجنون. كنت ترى من أصدقائه النمساوي والألماني والبولندي والروماني واليوناني والشاب المثقف والعجوز بائعة الجرائد…، كان يصادفهم في الحانات والمطاعم والشوارع، يجالسهم ويسهر معهم ويحاورهم، ومنهم من كانت تربطه بهم أواصر الصداقة.

من تفاعله الحي مع الواقع، ومن إتقانه للغة الألمانية وعمله كمترجم متصل بحيوات الناس، ومن اهتمامه بالقضايا العامة ومتابعة الصحافة الأوروبية، ومن عشقه لجمال فيينا وفنها وموسيقاها ومعمارها وخبرته بشوارعها وأزقتها، كان نائل ينهل من كل ذلك موضوعاته الهامة والمدهشة.

4- تــلــك الــمــرأة الــلــعــيــنــة.. هــذا الــمــوت الــلــعــيــن!!

ربما يتساءل كثيرون: نائل بلعاوي، هذا الكاتب الشاعر المثقف المترجم المدهش، لماذا رحل وترك لنا كتاباً واحداً، ديوان شعر فقط، لا غير (“ما يشبه الشعر”، الأهلية، عمان، 2018) ؟!

اعترف لي نائل – وهذا من سوء حظه، ومن سوء حظ قرائه- أنه أودع مخطوطات كتبٍ له لدى سيدة، أقدمت على حرقها ” انتقاماً من حب فاشل، أو بسببه”.

أخبرني أنه يعد للنشر “قصائد كلارا” مع مقدمة لحكايتها، وقد غمرني الفرح والامتنان لثقته بي، عندما طلب مني أن أعطي رأيي بمقال له قال أنه مر بسجال قبل نشره، وهو بعنوان ” تجلّيات الحبّ: دوروتي بيرلنغهام وآنا فرويد مثالاً ” نشره في “النهار” اللبنانية (تاريخ 23-1-2019)، مقال جريء وغاية في الأهمية، قدمت له رأيي مفصلاً، واقترحت عليه أن يكون هذا المقال منطلقاً لكتاب ينشره بالألمانية، ويقوم هو، أو غيره، لاحقاً بترجمته إلى العربية.

كتب لي:

”  تحياتي عدنان العزيز مرة أخرى وأخرى، عليً بداية أن أعلن عن احساسي بالفخر امام موقفك النبيل مما أكتب عموماً، وعليً أن اخبرك بأن لديً عديد المشاريع المؤجلة.. نحن أهل كل شيء مؤجل ” .

” أحب السرد وأدب الرحلة وقراءة أحوال الأمكنة، قد أقوم مرة بجمع بعض المواد ونشرها في كتاب مستقل حول بعض الشخصيات.. سنرى، ولكن الحياة تأخذ مني الكثير، انا ابنها البار وصعلوكها الشريد “.

ما أود قوله، أن نائل لم يكن خالي الوفاض، لم يكن مجرد كاتب فيس بوك، بل كانت لديه مخطوطات ومشاريع ذات قيمة ثقافية وجمالية عالية، قابلة هي وغيرها لأن ترى النور، لولا تلك المرأة اللعينة.. وهذا الموت اللعين.

5- نــائــل وأمــه

صدفة موجعة، أن يكون عمر نائل (1966-2020، 54 عاماً ) هو نفس عمر أمه، التي أنجبته وهي في العشرين ورحلت قبل رحيله بعشرين عاماً( 1946-2000، 54 عاماً).

موت أمه وهي شابة ترك حسرة في قلبه، وحزناً وسخرية في عينيه، وها نحن يتأكلنا القهر والأسى لرحيله شاباً.

استهل نائل ديوان شعره بهذا الإهداء إلى أمه:

” إلى رويده.. (1946 / 2000)

لم أجد ما أفعله في غيابك

غير ما أفعله الآن:

رعاية الظلام

وتلوين الهواء ”

6- رحــيــلــه لــيــس أي رحــيــل

كثيرون يفتقدون نائل بلعاوي. كنا نتابعه بشغف، لأنه جميل.. عميق.. ومدهش.

كان نائل يمتلك سبيكة جمالية أدبية ذات لغة خاصة ونكهة مميزة، الكلمات بين يديه تغدو طيعة ومتفجرة، تنثر المعاني والدلالات، تذهب إلى الأعماق، ثم تحلق إلى آفاق رحبة.

..  بعد رحيل نائل بلعاوي، سيأسرنا الحزن والظمأ طويلاً.

كنا اتفقنا أنا ونائل أن أزوره في النمسا، وأن يزورني في فرنسا، لكن الموت السافل اختطفه بتاريخ 21 نيسان أبريل 2020.

هناك قبورٌ كثيرة، في أربع رياح الأرض، لمبدعين وثوار وأحرار، رجالاً ونساءً، ومن جنسيات مختلفة، أريد أن أزورها، وأن أنثر عليها وردة.. دمعة.. وأغنية.

من بين هذه القبور: قبر صديقي نائل بلعاوي، في عاصمة الموسيقى والدهشة، فيينا.

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *