في ذكرى استشهاد خليل الوزير/ أبو جهاد
بدا صفير السفن المختلط بعتمة الليل وصراخ النوارس لحنًا جنائزيًا ونحن نستقبل أبو جهاد ورفاقه الخارجين من “حصار بيروت” في ميناء طرطوس، يكاد يقف شعر رأسي كلما مرّ بخيالي ذلك المشهد الرهيب. ضجيج الميناء وصمت الأفواه لوحة بكاء مرير. نحن فرحون بسلامة قادتنا ورفاقنا، لكنّ الثورة هُزمتْ. قال أبو جهاد لكبير مرافقيه ماهر الزغيَّر حين التقيته وأبو حسن قاسم وحمدي في شقته بحي ركن الدين في مدينة دمشق بعد يومين: جهزوا السيارات يا ماهر. رد ماهر مستغرباً: إلى أين يا أخ؟ قال: إلى البقاع….. دائماً حافظ أبو جهاد على البوصلة.
ما زال دويُّ المدافع يَصُمُّ آذان المقاتلين المنسحبين من الجنوب اللبناني إلى البقاع تاركين خلفهم ذكرياتهم، أحّبتهم وصُحبة شهدائهم. كان علي أبو طوق صورة لنحلة رسمها خيال روائي مبدع. ماكينة لا تكلّ عن العمل، أبٌ حاني وأخٌ كبير. بدا وضع الفدائيين النفسي قاسيًا وقد استشهد رفاق لهم، لكنّ القتال الاستشهادي في قلعة الشقيف كان مبعث فخر. هناك قاتل الشهيد راسم وعلي اليمني ورفاقهما حتى استشهدوا. بدت صدمة سقوط الجنوب اللبناني أسىً في وجوه الفدائيين، غيظًا وغضبًا على “القادة” الذين فرّوا من المعركة تاركين قوّاتهم خلفهم. ربما يُسجّل التاريخ أنّ تخاذل هؤلاء “القادة” كان سببًا أساسيًا لتجرؤ شارون على مواصلة عدوانه حتى حصار بيروت، وأنّهم تسببوا بخروج الثورة من لبنان، وكانوا سببًا رئيسًا لمأساة انشقاق “حركة فتح” بعد ذلك. تموضع الشبّان في بلدات ثعلباية، شديتا، تعنايل، سعد نايل، والقرى المجاورة، وكان لأبناء تنظيم “فتح” من المناضلين اللبنانيين دورًا أساسيًا في تأمين احتياجاتهم، هذا ما فعله رضوان الشحيمي من سعد نايل، وربيع ومحمد ملاعبي من بيصور وآخرون كُثر. في ذلك الصيف الحار نضجت ثمار بساتين سهل البقاع من التفاح، المشمش، الإجاص، والكاكا وليس هناك من سوق، أمّا في مزارع الدواجن فالفرخة بليرة لبنانية! مأساة للمزارعين. ذات ليلة شوَّشت أفكارنا أنوار أرتال آليات تهبط شرقًا باتجاه مدينة شتورا. ما الذي يجري؟ هل هي آليات إسرائيلية أم سورية؟ في الصباح عرفنا أنّها دبابات سورية منسحبة. اتخذ أبو الفتح – مسؤول العمليات في كتيبة الجرمق – قرارًا بسحب قواته شمالًا! مشهد أليم ورتل سياراتنا يشق طريقه نحو مدينة بعلبك. نساء ورجال يودعوننا بعيون دامعة دون أن يبادلوننا الكلام، أمّا المقاتلون العابسون فلا يستطيعون التطلّع في الوجوه. تطاولت امرأة من خلف سور ومسحتْ دمعها، وتطلّع شاب بأسى. ماذا لو كنّا منتصرين؟ سيُطلق الرصاص وتُلعلع الزغاريد.
أيام وعدنا إلى مواقعنا. بدا المشهد مأساويًا ونحن نتجه بالسيارة إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من البقاع في اليوم التالي، على امتداد كيلومترات من بلدة بر الياس حتى بيادر العدس، دبابات ومدافع وآليات سورية متفحمة. التقط مقاتلو كتيبة الجرمق أنفاسهم، وبدأوا ورشة تدريب ضخمة. في هذا المعمعان استشهد نادر شقيق الشيخ صالح الديك. أيام وخيّم جوٌ مأساوي حين خسرت الكتيبة متطوعًا تونسيًا، أصابت رصاصة رفيقٍ له إحدى عينيه ففقد بصره. في بلده تونس أقام الفدائي الضرير عبد العزيز بن محمد بن الشيخ جمعية لنصرة فلسطين. خرج مقاتلو الثورة من بيروت فتَيَتَّم الفلسطيني والوطني اللبناني، لكنّ جذور الثورة عميقة في الوجدان، استأنفت المقاومة الوطنية اللبنانية عملياتها العسكرية، وولد “حزب الله”.
مساء الرابع عشر من شهر شباط/فبراير عام 1988، كنتُ مستغرقًا وجهاد العمرين في حديث عن سفينة العودة التي اختطفت أضواء الأخبار، حيث تجمّع مُبعدون فلسطينيون من الأرض المحتلة في جزيرة قبرص بقصد التوجه إلى سواحل الوطن مطالبين بحقهم في العودة. قلتُ لجهاد وقد أصبحنا قريبين من منزلي في الجبل الأخضر: “لنشرب الشاي، ونستمع لنشرة الأخبار”. كان الذهول أبلغ تعبير عن صدمتنا ونحن نستمع لما بثّه التلفزيون الإسرائيلي: “قُتل ثلاثة مخربين بانفجار سيارتهم في مدينة ليماسول بقبرص”. لم نتمالك أنفسنا ونحن ندقّق في أشلاء الشهداء قاسم، حمدي، ومروان كيالي! مساء قاسٍ وقد توقفتْ سيارتا إسعاف تُقلان جثماني قاسم وحمدي أمام غرفة الموتى في مستشفى الجامعة الأردنية بعد أيام. اشتد النحيب، وتعالى البكاء ونحن نتلمّس النعوش مودعين قادتنا، في الوقت ذاته كان رفاق آخرين لنا يودّعون مروان كيالي إلى مثواه الأخير في مقبرة الشهداء ببيروت.
دارت الأسئلة حائرة في رأسي: “ما الذي نوّم يقظتك يا قاسم وأنت الحذر إلى درجة الشك؟ هل كانت الثغرة في قدوم حمدي من تونس باسمه الحقيقي؟ هذا ما تساءلتُ عنه لاحقًا بعد كشف عميل الموساد الإسرائيلي عدنان ياسين الذي كان مسؤولًا عن دخول ومغادرة الفلسطينيين في سفارة فلسطين هناك. ربما أنّ هذه هي البداية. جئتما لمقابلة من؟ ثمّ لماذا غامر الموساد بتأجيل اغتيال حمدي وقد سبقك بالمجيء بأيام يا قاسم؟ الموساد ليس غبيًا ليُفوّت فرصة صيد ثمين كحمدي لولا أنّ مُقرَّبًا منكما، من محيطكما الضيق، أكّد لهم أنّ السيارة ستُقلّكما معًا في ذلك الصباح الدامي، هذا من أعطى إشارة التفجير. سيظلّ اللغز مفتوحًا على فضاء البحث والتحليل، وستبقى أسئلة كبيرة برسم الإجابة، كيف وأين حصل الخرق؟ من الوغد الذي أعطى إشارة التفجير؟ أموتُ رعبًا وأنا أتخيّله ما زال يواصل رحلة نذالته منتميًا لحزب أو فصيل لبناني أو فلسطيني، مُستفيدًا من ماضي قربه من الشهداء الذين حظوا بمكانة رفيعة في الوسطين الإسلامي والوطني. طالما لم يُكشف السرّ ستظلّ يد العميل مُطلقة، ربما يُضحي أشدّ خطورة.
بدا أبو جهاد مصدومًا حين التقيته في عمّان مساء الثاني عشر من شهر نيسان/إبريل عام 1988، يومها كان مضى شهران على استشهاد حمدي وقاسم. قلتُ له منفعلًا: “بعد استشهاد حمدي وقاسم يعيش رفاقهما فورة غضب. أكاد أتخيّلهم يتساءلون: ’لم يُنصفنا أبو جهاد في حياة قادتنا فهل سيُنصفنا بعد استشهادهم؟’. أرجو أن تلامس جرح ألمهم برفق”. ردّ حزينًا: “قبل استشهادهما اتفقنا على كل شيء، يبدو أن ذلك جاء متأخرًا. سأبذل جهدي لاحتضان رفاقهما”. يومان على هذا اللقاء وصُدم الناس بنبأ اغتيال أبي جهاد في تونس، كان ذلك يوم السادس عشر من شهر نيسان/إبريل عام 1988. ضربة مزلزلة شاركتُ في الوفد الذي سافر إلى دمشق لحضور جنازة أبي جهاد. في الرمثا فُتحت لنا صالة الشرف، وفي درعا استقبلنا قائد المنطقة العسكرية السورية الجنوبية بحفاوة. قرّبت الانتفاضة واستشهاد القائد الكبير المسافات بيننا وبين أشقائنا العرب، الأهداف الكبرى تجمع. في أيلول/سبتمبر عام 1970 اقتتلنا مع النظام الأردني. عام 1976 وقعنا في الفخ ذاته مع النظام السوري. جَعَلَنا ضَعفنا نختلف على الحصص. لم أشهد في حياتي سيلًا بشريًا كالذي تدفّق على مخيم اليرموك في جنازة أبي جهاد، أناس يملأون الأزقة، وتزاحمٌ على الشرفات وأسطح المنازل. وفي عمّان حضر جلالة الملك حسين وجلالة الملكة نور إلى بيت العزاء في ضاحية مرج الحمام. همس الملك لأم جهاد قبل أن يُغادر: “البلد بلدك ونحن إخوتك وأهلك”.
*من كتابي رحلة لم تكتمل بتصرف