في خضم الخراب أتعرف على حلمي الأجمل

ثمانية عشر عاماً من الزمن المتجمد الباهت أمضيتها بين فوارق الأمنيات والواقع، وبعد أن خُذلنا بفعل التحولات والتحورات الاستثنائية الصاعقة التي ضربت، وما زالت تضرب دوائرنا المحيطة والعالم أجمع، ففي دائرة الألم المترامي الأطراف لم تبقَ وحدها الزنازين ورطوبة الجدران الفاعلين الأساسيين الوحيدين الضاربين بقوة على الروح الأسيرة، فعوامل الزمن و”الانخضاض” الإنساني لهما وقع أكثر ضراوةً على الفكرة والنفس المقيّدة، حتى أن مجرد المحاولة للدفاع عنها يصبح إمّا ضرباً من الجنون، وإمّا هذياناً، ومع كل هذه التراكمات المكثفة بفعل فوارق السنوات الضوئية بين الأمنيات والواقع، يصبح التحلل من الإرث وثقله أشبه بموضة العصر، وتصبح الذات المهشّمة بفعل الانهيارات المتكررة غير قادرة على صد “الفيروسات” الإنسانية المعطوبة والضحية بذات الوقت.

وفي خضم كل هذا الخراب يأتي ذاك الحلم الجميل، ذاك الحلم الآتي من بعيد والموشح بالنقاء الرباني، بذلك القلب الملائكي الطفولي الأبيض، وغير المقيد بالسلاسل والقيود المجتمعية، والمتحرر من المخاوف الواقعية. تنزل المنار من العلياء، تحمل همومي وأحلامي وتطير بها إلى دنيا أراها من بعيد وأشتاق إليها من دون أن أتذوق طعمها، أو حلاوة أي من أيامها، تأتي كأنها عصفورة السماء تحط وتغادر هكذا بين الحلم واليقظة. ففي زماننا المُقَولَب، يصبح التخيّل هو الحيلة الأهم، والسلاح الأمضى لقطع هذه السلسلة اللامتناهية من الفقدان والضياع والخذلان، وتصبح الإطلالات، أو ما يسمى زيارة الأهل والأحبة، على قلّتها، كالموج المتسلل من عمق البحر، يلقي عليكَ التحية، ويأخذك إلى عوالم الأحلام السعيدة، حيث اللقاء الأول والفرحة الأولى والضحكة الأولى، تتسلل إلى قلبك نسمات لم تعهدها ولم تعتد عليها من قبل، فما بين عالمك المتهالك ونفسك المجروحة وأوجاعك الملتهبة تنبت هذه الزنبقة الجميلة وتصبح هي بوصلتك مع تزاحُم الأوقات. إنها البوصلة ذاتها التي تنقلك إلى البساتين وعبق الزهور، فتتحول هذه الصحراء الحارقة إلى ربوع ممتدة من السعادة والابتهاج بالقادم، من تلك المسامة المنفرجة، وعند بزوغ فجر الحياة الجديدة القادمة من بعيد تبدأ هذه الروح المتكلسة بسنوات العتمة بالتحرر والانعتاق، وبالمجازفة في مطاردة أحلامها واختصار ما تبقى من أزمان إضافية. فالسنوات الثقيلة المميتة قادرة على سحق حيوات بأكملها، وما محاولات المنظومة الاستعمارية على آلاف الأسرى الفلسطينيين إلّا جزء من عمليات السحق والتذويب، وبالتالي، فما تحدثنا عنه في زمن حروب الظل، في ثنايا كتابنا “للسجن مذاق آخر”، إلا بضع عيّنات مقتضبة من ظاهرة التجميد “التفريز” الإنساني الذي تعمل المنظومة الاحتلالية على نشرها بين صفوف الأسرى، وكل ما أطلق عليه من عقوبات بحق الأسرى يندرج في خدمة الهدف المذكور. فمنع لقاء الأهل، أو الاتصال بهم، أو التقاط الصور معهم، أو حتى إخراج صورة واحدة كل عام لمجرد الاطمئنان على الوضع الصحي للأسير، بالإضافة إلى وضع الزجاج العازل بين الأسير وأهله، وتحديد وتيرة التصاريح وعدد المصرّح لهم بزيارة الأسير، ومئات الإجراءات التي لا تعني سوى محاولة تجفيف منابع تلك الروابط الإنسانية والعائلية التي هي سرّ عظمة صمود هذا الأسير، وهي ذاتها سرّ تعلقه بحقه وحقوق شعبه.

وفي محاولتي للربط بين الزمنين، أردت عبر هذا المقال أن أتبع مقالة المنار بمقالة من الزاوية المقابِلة لزمانكم الطبيعي، من زمننا المتجمد، لأشرح بنوع من الحذر بعض ما يمر في ليلة أسير يفتقد كل شيء، ولا يملك داخل زنزانته إلاّ بعض ذكرياته، وما يتسرب إلى قلبه من أحلام قد يكون أكثرها أضغاثاً، لكنها تفعل فعل السحر في ذاته المنتصبة هامةً وكرامةً، والمتطلعة إلى  تذوُّق شيء من حياة البشر. قد لا يستطيع مَن لم يجرب على جسده، وتلتاع روحه، ساعة بساعة ويوماً بيوم، وهو يمضي في السجن زمناً لا نهائياً وسط تراكمات عشرات السنوات في دائرة مفرغة من الصدمات والانكسارات والانهيارات وأنصاف النجاحات وأشباه الأفراح والأحزان، سنوات غير محدودة بصخبها وضجيجها وتعرّجاتها، تمرّ كأضراس المجنزرات على ذاته، تفعل فعلها المجنون مع كل تقدُّم أو تراجُع، ولا يمكن بأي حال محو آثارها إلّا بما يحاول أن يصنعه، أو ما يُفسَّر بأنه مشاركة في الفعل الإنساني المتسارع خارج نطاقه الزماني والمكاني. على الرغم من هذا الوصف الموجع الذي لا حدود ولا قرار لحجم الألم فيه، فإن هذه النسمات تبقى هناك، في قلب شراييننا وفي أعماق حبات الأوكسجين في دمائنا تسكن مئات المنارات اللواتي قاومن هيجان الموج العالي، وسِرنَ في مواجهة العواصف وانتصبن كصخرات تكسرت عليها كل مرادفات الإرادة والعزيمة والصبر، وأصبحت أفعال البطولة خجولة أمام رُسل الحياة القادمات من أجمل العوالم، والتي ما زالت تُشعرنا  لغاية الآن بأن “أرضنا ليست بعاقر”، وأنها قادرة على التجدد والولادة والعطاء، والمنار ومثيلاتها صانعات أحلامنا وصاحبات فعل القداسة في روايتنا الممتدة من زمن الخلود الكنعاني، المروية بمداد من دماء مخضبة، وسنوات من العذاب، ورحلة طويلة من المشقات.

وفي زمن المنارات يبدأ حلمنا بالتوالد ويتجرأ على الاندساس بين جنبات أرواحنا، ويتحول زمننا المتجمد إلى جزء أصيل من زمنهن الجميل بكل تفاصيله، وتصبح الخيوط اللامرئية في أنفاسهن مَشعلاً لفرح قادم ننتظره بما تحمله جوارحنا مع فارغ الصبر.

في زمن المنارات، تبدو الأماني البعيدة حقائق جميلة تعبر من بين الفرص المقتنصة في أثناء أجمل اللقاءات “الزيارات”، ويصبح الزمان يدور كله في فلك هذه اللقاءات المسروقة رغم الحراب ورقابة السجان المتربّص بفسحة فرح.

*في هذا المقال، يردّ الأسير أسامة الجميل لمنار خلاوي الأشقر على مقالها “بين زمنين أتعلم أبجديات الانتظار“، والذي نُشر في هذه الزاوية.

عن المؤلف: 

أسامة محمد علي الأشقر: أسير فلسطيني من بلدة صيدا شمالي طولكرم. حُكم في سنة 2002 بالسجن ثمانية مؤبدات وخمسين عاماً. أكمل مسيرته التعليمية في السجن، فتقدم إلى امتحان الثانوية العامة، والتحق بجامعة القدس المفتوحة وتخرّج منها بعد أن منعته إدارة السجون من إكمال دراسته في الجامعة العبرية. ويعكف حالياً على دراسة اللقب الثاني، الماجستير في العلوم السياسية. يُعتبر من قادة الحركة الأسيرة، ويقوم بتقديم الدورات التعليمية والتثقيفية للأسرى، ويكتب المقالات السياسية والاجتماعية، وله العديد من المبادرات التي تم نشرها، ويُعدّ لإصدار مجموعة من الكتب التي تتحدث عن حياة الأسر.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *