في تفحّص بديهية برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني
أولا، لقد مرّت على هذا الخيار 46 عاما (منذ إقرار النقاط العشر في المجلس الوطني الفلسطيني 1974)، ومرّت على اتفاق أوسلو (1993) قرابة الثلاثة عقود، وهو أقل بكثير من سابقه، إلا أن شيئا من ذلك البرنامج لم يتحقق. مفهوم أن إسرائيل والولايات المتحدة هما من أعاقتا ذلك، لكن المسؤولية تقع على الذين توهموا أن هاتين الدولتين ستقومان بتقديم ما يريدونه، بالحوار والمفاوضات، على طبق من فضة!
السؤال الآن للذين يتمترسون وراء خيار القيادة الفلسطينية: كم 46 سنة يفترض أن تمر حتى تقتنعوا أن ذلك البرنامج لن يتحقق ولن تستجيب له إسرائيل في المفاوضات، بخاصة وأن الواقع على مر تلك السنين تغير، بانتشار المستوطنات والحواجز والجدار الفاصل وتعزيز هيمنة إسرائيل على كل نواحي الحياة في الضفة، وإخراجها غزة المحاصرة من المعادلات؟
ثانيا، يجدر التذكير بأن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت انطلقت أواسط الستينات، أي قبل احتلال 1967، وكان هدفها تحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية، وأن تلك الحركة، آنذاك، لم تطرح في برنامجها إقامة دولة في الضفة وغزة، اللتين كانتا خارج السيطرة الإسرائيلية (غزة مع مصر، والضفة مع الأردن).
إضافة إلى ما تقدم فإن ما يلفت الانتباه أن الحركة الوطنية الفلسطينية بعد عشرة أعوام على احتلال الضفة وغزة (في الدورة الـ13 للمجلس الوطني 1977) أكدت على الآتي: “تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني”.
فأين يضعنا ذلك مثلا، إزاء كيان أوسلو وتبعاته، أو إزاء البرنامج المرحلي ذاته من الناحية العملية؟
ثالثا، فوق ما تقدم فإن دعاة ذلك الخيار يتناسون الطريقة التي تم بها تمرير ذلك الخيار، واعتماده كبرنامج إجماع وطني، في حينه، إذ التحول نحو البرنامج المرحلي، أي من الصراع على ملف 48 إلى الصراع على ملف 67، بدأ من الدورة الـ12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974)، الذي أتى للتماثل مع النظامين الدولي والعربي (بعد حرب تشرين الأول – أكتوبر 1973)، أكثر مما أتى نتيجة الاستجابة لتطورات العملية الوطنية الفلسطينية في الصراع ضد إسرائيل.
هذا أولا. ثانيا، يفترض التذكير هنا بأن هذا البرنامج لم يحصل على إجماع الفلسطينيين، وحتى إن “فتح”، أكبر الفصائل الفلسطينية، والتي تبوأت مكانة القيادة في الكفاح الفلسطيني، لم تقر البرنامج المرحلي في مؤتمرها الرابع (عقد في دمشق 1980)، وفقط تم إقراره في مؤتمرها السادس (تونس 1988)، في الشروط التي وجدت فيها تلك الحركة بعد الخروج من لبنان (1982).
وتم تمرير ذلك البرنامج، في حينه، من قبل القيادة في المجلس الوطني الفلسطيني (1974)، مع معرفتنا بطريقة تركيب تلك القيادة لذلك المجلس (بالتعيين)، ومدى هيمنتها عليه (بغض النظر عن رأينا بهذا التحول سلبا أو إيجابا، رفضا أو قبولا)، علما أن معظم الفصائل رفضته، وبعضها جمد عضويته في المجلس الوطني.
كل ذلك للتذكير بكيفية صوغ الخيارات وكيفية تقرير السياسات في البيت الفلسطيني، وذات الأمر جرى في اتفاق أوسلو (1993) الذي تم من وراء الشعب الفلسطيني، وهو ما يجري في شأن التقرير بكل الخيارات الوطنية، وهو ما يذكر ايضا بطريقة قرار تعديل او تغيير معظم بنود الميثاق القومي في اجتماع غزة بحضور الرئيس الارمريكي بيل كلنتون 1998، فهل ذلك يجعل من اوسلو او من اجتماع التعديل المذكور اجماعا وطنيا؟!
وفي المحصلة فإن ذلك التحول، آنذاك، حصل بصورة فجائية وفوقية وقسرية ومن دون تمهيد ثقافي مسبق، وبدليل الحديث بداية عن إقامة “سلطة” على أي أرض يجري تحريرها مرورا باعتبار ذلك مجرد برنامج مرحلي (تكتيكي)، من دون ارتباط برؤية فلسطينية لطبيعة الحل النهائي، وصولا إلى طرح فكرة دولتين لشعبين بالارتباط مع حل قضية اللاجئين على أساس القرار 194.
رابعا، فوق كل ما تقدم، فإن دعاة التمسك بما يسمى ببرنامج الإجماع الوطني (دولة في الضفة والقطاع) يتناسون، أو يتجاهلون، عن نية حسنة أو من دون ذلك، أن ثمة طبقات سميكة ذاتية أضحت تحيط أو تحبط ذلك الخيار، وذلك بمعزل عن الموقف الإسرائيلي والأميركي، ومن دون ذكر الوقائع التي رسختها إسرائيل على الأرض.
ولعل أهم تلك الطبقات: أولا، تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من كونها حركة تحرر إلى سلطة، في الضفة وغزة، إذ إن اعتبارات السلطة، بمكانتها وطبيعتها ومصالحها وامتيازاتها، غير اعتبارات حركة التحرر الوطني. ثانيا، وجود طبقة سياسية فلسطينية مهيمنة معنية باستمرار الواقع الراهن، للدفاع عن مصالحها وامتيازاتها ومكانتها، لاسيما مع حال الفساد في بنية السلطة، بحيث لم يعد بإمكانها، ولا برغبتها، حمل أي مهمات وطنية، مهما كان قدرها. وثالثها، إن ظهور ذلك الخيار أدى إلى تشويش رؤية الفلسطينيين إلى ذواتهم، وإلى كونهم شعبا واحدا، لاسيما مع الانزياح من الرواية الأساسية المتأسسة على النكبة (1948) إلى الرواية المتأسسة على أن الصراع بدأ مع احتلال الضفة وغزة (1967)، وكأن إسرائيل أضحت استعمارية واستيطانية وعنصرية فقط منذ ذلك الوقت، وليس أنها قامت منذ البداية (1948) على هذا الأساس. ورابعها، حال الارتهان للخارج، سياسيا وماليا.
مراجعة ذلك الخيار، بعد كل ما مرّ به من تحولات وعوائق وثغرات، وبعد ما تمثل بتجربة أوسلو خصوصا، باتت ضرورة لصوغ برنامج إجماع وطني حقا على أساس استعادة التطابق بين الأرض والشعب والقضية والحركة الوطنية، على نحو ما يحاول ملتقى فلسطين تمثله في وثائقه (www.palestineforum.net)، باعتبار ذلك أساسا لتوليد رؤية وطنية جمعية جديدة، وأساسا لإعادة بناء الكيان السياسي الجمعي المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية.
على أي حال يفترض التأكيد أن الإجماع الوطني، بخاصّة في حالة الشعب الفلسطيني، وفي مرحلة التحرر الوطني، وفي واقع التجزئة والتشتّت، هو أمر ضروري، وملح، وهو قضية وطنية كفاحية ووجودية، أيضا.
بيد أن ذلك يفترض التأكيد، أيضا، أن مسألة الإجماع الوطني لا يمكن اختصارها في توافق الكيانات السياسية، التي تعبر عن هذا الشعب، في كيان واحد، وفي رؤية سياسية واحدة، إذ إن المعنى هنا يتعلق برؤية الشعب لذاته، في ذاته، ولذاته، أيضا، أي في إدراكه لذاته الجمعية كشعب، ولتاريخه، في الماضي والحاضر والمستقبل، ولحقوقه وهويته وسرديته التاريخية.
هكذا، بناء على هذا التعريف يمكن للشعب أن يكون موحدا حتى لو اختلفت الكيانات السياسية التي تحاول التعبير عنه، بما يفيد بأن وحدة الشعب هي الأساس، لأنه بذاته، أي بوجوده، وبحقوقه، هو الثابت، في حين أن تلك الكيانات يمكن أن تنشأ، وأن تختفي، ويمكن أن تصعد كما يمكن أن تهبط أو ينحسر نفوذها.
- أصل المادة منشورة في جريدة العرب اللندنية 24/10/2020