في بيت الأسيرة إسراء جعابيص … الرواية من مصادرها

حكاية الأسيرة الفلسطينية إسراء جعابيص توجع القلب وتفتح جروحا عميقة على مدى الظلم الذي لحق بها دون أن تأخذ حكايتها الزخم الذي تستحق، مثلها مثل الآلاف من أبناء وبنات هذا الشعب المناضل الذين يقبعون في زنازين الاحتلال ويعانون من الإهمال الطبي الذي أودى بحياة ما يزيد عن 280 أسيرا. لقد أثير حول عملية حرقها الكثير من الروايات الغريبة التي تحاول أن تجعل منها أسطورة وبطلة خارقة للعادة لكن بطولتها الحقيقية في بساطتها وصدقها وعفويتها وحبها للأطفال لأنها أم عادية وتحب طفلها معتصم. ولأنني أرغب في سبر أغوار مأساة إسراء قررت زيارة بيتها للاستماع مباشرة من إسراء نفسها ومن والديها وأختها منى. وقد ساعدني في ذلك الصديق حسن عبادي، محامي الأسرى والمعتقلين، بحيث تتزامن زيارتي مع اتصال هاتفي محدود من إسراء على هاتف أرضي فقط موافق عليه من سلطات السجون. وسأكون أمينا في هذا السرد في نقل ما قالته لي إسراء وأختها منى ووالداها أبو جميل وأم جميل بدون تحريف أو تجميل، لتقديم صورة إسراء الإنسانة.
لقد اقتصر حديث إسراء حول حياتها في المعتقل بعد الحادث لا عن الحادث نفسه قائلة: «التلفون مراقب ولا أستطيع أن أدلي بأي معلومة قد تساعد قوات الاحتلال». ولذلك سنستمع من أهلها وخاصة من أختها منى ما يتعلق بحياة إسراء قبل الحادث والحادث نفسه وعملية النقل إلى المستشفى وحكمها بالسجن لمدة 11 عاما.
تقول منى إن أختها إسراء «أم المعتصم» كانت تدرس في الجامعة (الكلية الأهلية في بيت حنينا) وكانت تحب أن تضفي روح المرح على الأطفال «كنا نسميها بابا نويل» الذي يوزع الهدايا، حيث كانت توزع الهدايا على ظهرها للأطفال. كانت تقوم بدور المهرج وتسمي نفسها «سوسو المهرج» وتقوم بفعاليات في المدارس والمستشفيات. استمرت في خلق هذه الأجواء الممتعة داخل الأسر حتى انتبه لها السجان ولاحظ أن نفسيات المعتقلات بدأت تتحسن وخاصة القاصرات، ومكنّت الأسيرات من إتمام دورها في تقديم الأنشطة الممتعة بعد وقفها من قبل السجان.
كانت إسراء تقوم بأعمال خيرية وأعمال تطوعية كثيرة وتتقمص دور المهرج لإسعاد الأطفال وكل ذلك على نفقتها الخاصة. كونت فرقة مع طلاب الجامعة للأعمال التطوعية وكانوا يجمعون تبرعات يقدمونها لتغطية رسوم طلاب لا يتمكنون من ذلك. وكانوا يشترون بالتبرعات أدوات وأثاثا للناس الفقراء ويتركونها أمام بيوتهم دون أي توقيع أو إشارة للمتبرعين.
كانت إسراء قد اكترت بيتا في القدس وتريد أن تنتقل من أريحا إليه. وكانت تحمل أغراض البيت في سيارة السوبارو القديمة. وفي ذلك اليوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015 كانت تنقل أدوات المطبخ بما في ذلك قارورة غاز فارغة.

الذي أطفأ الحريق شاب كان في حافلة خلفي وهو الذي أخرجني من السيارة، هم رفعوا السلاح عليّ. هددوني. وصرخت في وجوههم: «بلا هبل، أنا أحترق»

الحادث حصل قبل حاجز «زعيّم» بـ 1300 متر. تعطلت سيارتها ووقفت على جانب الطريق. الطريق مخصص للحافلات والسيارات العمومية وسيارات الإسعاف وليس للسيارات الخاصة. اضطرت إيقافها على هذا المسلك. جاء شرطي (إسرائيلي) كان مارا بسيارته. توقف قربها. طلب منها أن تفتح الشباك ليكلمها. قالت له الشباك لا يفتح. وأضافت: أكاد أختنق من رائحة تنبعث من داخل السيارة. طلب منها مرة ثانية أن تفتح السيارة وهي لا تستطيع وقالت أكاد أختنق. عاد الشرطي إلى سيارته وبالكاد فتحت الباب، حتى عاد الشرطي ورمى بها داخل السيارة وأطبق الباب على يدها الشمال فبقي نصف يدها في الخارج ونصفها في الداخل وفجأة اشتعلت النار من داخل تابلو السيارة وأكياس الهواء دون أن يكون أي مسبب خارجي للحريق. تفاقمت النيران. لم يكن هناك إطلاق نار، لم يكن هناك جنود. الضحية الوحيدة كانت إسراء. كانت تحمل أوراق الجامعة ومن المفروض أن تسلم بحثها في اليوم الثاني للجامعة. لم تكن تحمل إلا أدوات المطبخ. لم تنفجر قارورة الغاز، والنار آتية من مقدمة السيارة لا من خلفها، والسيارة لم تنفجر، الزجاج سليم.
حكم عليها من اللحظة الأولى فقد بصق عليها الفريق الطبي داخل ما يسمى المستشفى مع أنه في الواقع معتقل. قيدوا يديها ورجليها وقد أعدوا السيناريو تماما. كان الحكم قد صدر ضدها، ثم بتروا أصابعها. قالت لنا إسراء إنها كانت تحس بأصابعها تماما وعندما كانت تريد أن تحرك شيئا ما كانت تستخدم أصابعها. وعندما أرادوا بتر الأصابع قالوا لها إنها عملية بتر طرف بسيط من الأصابع. وعندما صحت من التخدير كانت أصابعها ملفوفة بالشاش الأبيض، فاكتشفت أن بتر الأصابع كان شبه كامل. تصور أنهم أحضروا لها امرأة ذات أصابع جميلة ومزينة بالطلاء الأحمر وسألت إسراء: ما رأيك بأصابعي فقالت لها إسراء جميلة جدا. فقالت لها: «أنت ما عندك أصابع». فقالت لها بل أنا عندي أصابع. فحاولت النظر إلى أصابعها لكن كانت مربوطة بالسرير. فقالت لها المجندة: «تستأهلين بتر أصابعك».
أحضروا لها مرآة وقالوا لها انظري إلى وجهك المشوّه. «تستحقين هذا». تصور هذه المعاملة داخل مستشفى هداسا – عين كارم.
تدخلت أم إسراء هنا وقالت أقسم بالله إنني رأيت من بين شقوق ستائر الشبابيك ممرضا يغير لها. شفت يديها وأصابعها موجودة. «والله لم يكن في أصابعها أي شيء». أيديها الآن كتلة عجين. وبعد أن اكتشفوا أنني راقبتها أغلقوا الستائر تماما. بقيت ثلاثة شهور وعشرة أيام. ثم نقلوها إلى سجن الرملة الذي يسميه الأسرى «المسلخ».
إسراء تتكلم: الذي أطفأ الحريق شاب كان في حافلة خلفي وهو الذي أخرجني من السيارة، هم رفعوا السلاح عليّ. هددوني. وصرخت في وجوههم: «بلا هبل، أنا أحترق». فأمرهم الضابط بإنزال السلاح. لم أستطع حمل جسمي. ارتميت على الأرض. وجسدي يحترق. معاملتهم لي كانت في منتهى الحقارة. تمت تعريتي وتصويري وأنا أحترق. والشاب، الذي أنقذني، خلع جاكيته وغطاني به فاعتدوا عليه وضربوه. حتى المسعف في سيارة الإسعاف كان يشتمني بكلمات بذيئة. لم أفقد وعيي في سيارة الإسعاف. في مستشفى عين كارم فقدت الإحساس بالوقت واختلطت علي الأمور ولم أعرف أين أنا. الحروق متعددة وهناك ثلاث درجات منها كلها من منتصف الظهر وفوق. ومن تحت ألوان مختلفة لأنهم قصوا من جلدي.
عملوا لي عمليات بسيطة في ظهري وأكتافي ويدي. كانت يداي سليمتين، ولم يكن هناك خطورة على يديّ وأصابعي. ما بترت الأصابع في وقت الحادث ورأيتها سليمة. أنا أؤكد لك أن بتر أصابعي كان متعمدا. عمليا أصابع يدي اليمين من تحت البتر ملتصقة ببعضها. وأصابع يدي اليسار أول إصبعين منفصلان وهو ما يساعدني على أن أمسك الهاتف وأتكلم معك، والثلاثة الأخرى ملتصقة. الحروق في الوجه كاملة درجة أولى وثانية وثالثة. نصف الوجه فيه حروق بسيطة من جهة ومن جهة حروق بليغة. في المحاكمة أخذوا بكلام الشرطي الذي غير أقواله واتهمني بما لم أقم به «لمن أشكو والقاضي غريمي».
بالنسبة لحياتي في المعتقل كل شيء صعب بدءا من شطافة الحمّام. ما عندنا في المعتقل أي نوع من الخصوصية. حمام النساء خارجي. ولو حدث مع أسيرة طارئ في الليل لا تستطيع أن تصل الحمام. لا أستطيع أن أخرج للتعرض للشمس ما أدى إلى انتشار الفطريات على جسدي. وضعت كاميرات منذ 2018 في السجون ألغت أي نوع من الخصوصية. أما بالنسبة للمساعدة فصديقتي في المهجع، عائشة الأفغاني هي التي تقدم لي كل العون من بين الـ 31 أسيرة. تشرفت بالتعرف عليهن. استطعنا أن نتأقلم مع الظروف داخل السجن. فالأسيرات القديمات تأقلمن على الوضع أكثر وقدمن لنا المساعدة وخاصة لبنت مثلي تواجه صعوبة في حياتها اليومية. لكن الصعوبة عندما تصل قاصرات. وقد وصلت أخيرا ثلاث قاصرات، واحدة منهن لا تستطيع أن تنظر إلي أو تتحدث معي، وانا أفهم رد فعلها كأسيرة جديدة.
نحن نموت ولكن نحيا في السجن. نتحدى الظروف. كثير من الأسرى كتبوا معاناتهم في إطار ما يسمى بـ «أدب السجون». الظروف ساعدتني في صقل كينونتي الخاصة. أخرت إصداراتي كي تنضج أكثر. كتبت عن الإهمال الطبي، كتبت قصائد شعر ورسومات فنية وستخرج في كتاب تحت عنوان «موجوعة» خلال شهر كانون الأول/ديسمبر. أنا بحاجة إلى ثماني عمليات والباقي عمليات تجميلية، أهمها عمليات فصل الأصابع ثم عمليات في الأنف والفم. هناك مشكلة في الأذن. الخلاص من هذا المأزق أن أسترد حريتي. لا أمل منهم في القيام بهذه العمليات. ما دمنا نواجههم هنا في الأسر فالعلاج غير متاح.
وتقول: آخر مرة ضممت ابني معتصم عام 2016. يؤخرون زياراته كثيرا، لكنه حاليا يزورني بانتظام ويرفع من معنوياتي هو ووالداي. باقي لي من المحكومية ثلاث سنوات ونصف ولكني أشعر أنها ثلاث دقائق ونصف وستمر بسرعة. وأقول أخيرا التضامن لا يكفي، يجب إيصال الصوت.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *