في انتظار المؤتمر الوطني الفلسطيني

ينعقد في الدوحة الأسبوع المقبل المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي طال انتظاره، وسبقه انعقاد مؤتمرات فرعية عديدة في أوروبا وأميركا والعالم العربي والأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد كانت الحاجة لعقد هذا المؤتمر دوماً متوفرة، وبالتحديد منذ عام 2007 الذي شهد الانقسام الفلسطيني المشؤوم. أدرك عديدون من المبادرين الوطنيين خطورة الانقسام على المشروع الوطني الفلسطيني، فكانت هناك مبادراتٌ عديدة حاولت رأب الصدع وتوحيد الصف الفلسطيني، الا أن ذلك لم يتحقق، لأسباب متعددة، منها تعقيد درجة الانقسام وحدّتها، ووجود فيتو إسرائيلي – أميركي على أي مشروع يوحّد الصف الفلسطيني.

ورغم أن الحاجة لعقد مؤتمر وطني يوحد الفلسطينيين كانت دائماً متوفرة، إلا أن الأمر أصبح اليوم ضرورة وطنية لا مجال فيها للحياد أو الانتظار أكثر من ذلك، يتحمل فيها الصامت والمتفرّج ما لا يقل ثقلاً عن التي يتحملها رموز الانقسام أنفسهم، فمشاريع تهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم أصبحت على الأبواب، تدعمها وتقودها قوى الإمبريالية الأميركية بنسختها الترامبية الجديدة.

لا ينبغي رؤية المبادرة لعقد مؤتمر وطني فلسطيني أنها محاولة جديدة، بل تأتي مكملة لكل المحاولات السابقة، وتبني عليها، حيث إن التغيير لا يأتي بالعادة بـ “الضربة القاضية”، وإنما بتجميع النقاط التي فاقت بعددها أي مرحلة سابقة تعالت فيها الأصوات الوطنية الفلسطينية لتوحيد الصف الفلسطيني ومواجهة هجمات قوى اليمين الإسرائيلي المسعورة لإنهاء الوجود الفلسطيني على أرضه. بالإضافة إلى ذلك، هذه هي المبادرة الأولى التي تجمع في طياتها رموزاً وطنية فاعلة من الداخل والشتات الفلسطيني، في حين أن معظم المبادرات السابقة كانت تقتصر على فلسطينيي المهجر.

انعقاد المؤتمر ضرورة وطنية لا مجال فيها للحياد أو الانتظار أكثر من ذلك

يعزّز الحاجة لعقد المؤتمر الوطني اليوم الفراغ الكبير الناتج من غياب غير مسبوق للقيادة الفلسطينية، بشقّيها الفتحاوي والحمساوي الذي أصبح غير مقبول لدى كل الأطراف تقريباً لأن يقود عملية إعادة الإعمار، أو يكون جزءٌ منها في غزة التي ما زالت تئن تحت وطأة الإبادة الجماعية، حتى أن “حماس” نفسها أصبحت مدركة أن جهة أخرى، ربما لجنة تكنوقراط أو حتى خصمها التقليدي السلطة الفلسطينية، هي الأنسب لقيادة عملية إعادة الإعمار في غزّة الجريحة. ولا يقل الفراغ الناتج من غياب حركة حماس عن قيادة المشروع الوطني منه عن الفراغ الذي تتركه وبوعي كامل سلطة حركة فتح في رام الله التي لم يخرج رئيسها محمود عبّاس بخطاب واحد للشعب الفلسطيني، حتى بعد أكثر من 15 شهراً من الإبادة الجماعية ثم الترويج للتهجير الفلسطيني من غزّة، ناهيك عن دخول هياكل وأطر حركة فتح بلجنتها المركزية ومجلسها الثوري في سبات أو موت سريري سياسي لم توقظه منها صرخات تاجر العقارات في البيت الأبيض نحو تملّك قطاع غزّة وتهجير أهله إلى مصر والأردن وأرض الصومال.

وبرغم هذه الحاجة الملحّة أكثر من أي وقت مضى لعقد المؤتمر الوطني إلا أن التحديات التي تواجهه لا تقل صعوبة عن قتامة المرحلة. أولى هذه التحدّيات كيفية التعامل مع القيادة الرسمية الفلسطينية، وهي مسؤولة عن الانقسام وترسيخه، والتي سترفض قطعاً “إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية وديمقراطية”، وهو الشعار الذي يحمله المؤتمر الوطني طور الانعقاد. عملت القيادة الرسمية بمبدأ “قولوا ما شئتم وسأفعل ما أريد”، وهي بالتالي لن تتعاون على إعادة البناء التي تعلم جيداً أن أي إعادة بناء على أسس وطنية وديمقراطية سيُخرجها خارج المنظمة، حيث أن قيادة المنظمة لم تُكتسب على أسس شرعية منتخبة. وعليه، إنها ترى إعادة البناء الوطني الديمقراطي بمثابة صراع وجود للشريحة الحاكمة برمتها.

يمكن للمؤتمر الوطني الفلسطيني تحقيق نجاحات إضافية مهمة بقدرته على انتخاب هيئة تمثيلية للحاضرين لتشكل أداة ضاغطة على قيادة منظمّة التحرير

التحدي الآخر هو كيفية التعامل مع متطلبات المرحلة التي تعايشها القضية الفلسطينية وضرورة التعامل مع النظام الدولي الذي يرفض حتى قبول السلطة الفلسطينية بكل تنازلاتها التي وصل آخرها إلى وقف رواتب الأسرى الفلسطينيين، فكيف سيقبل بالتعامل مع قيادة وطنية ديمقراطية لمنظمّة التحرير. تريد الإدارة الأميركية قيادة فلسطينية تتعاون معها على تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وليس إدارة ممثلة لإدارته تدافع عن حقوقه الوطنية المشروعة.

نجح القائمون على مبادرة المؤتمر الوطني الفلسطيني في الحشد لعقد مؤتمر وطني هو الأول من نوعه منذ بدأ الانقسام الفلسطيني، حيث أصبح المؤتمر حقيقة واقعة رغم محاولات القيادة الفلسطينية المتنفذة في الهجوم عليه، وكيل كل الاتهامات التي عرفها القاموس السياسي الفلسطيني لتعطيله. سيجتمع الأسبوع المقبل الفلسطينيون بقرار وطني ديمقراطي شعبي زاحف من القاعدة الشعبية باتجاه إعادة بناء الهرم القيادي لمنظمة التحرير، فمجرّد انعقاد المؤتمر في ظل شلل الأحزاب السياسية الفلسطينية التي كان عليها هي المبادرة لعقد مثل هذا المؤتمر وتشكيل قيادة وطنية موحدة كما فعلت عند بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 هو تقدّم بحد عينه سيشكل قاعدة جديدة لديمومة عمل وطني فلسطيني هادف إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني وبناء منظمّة التحرير على أسس تمثيلية، وليست بقرارات فردية منفعية.

يمكن للمؤتمر تحقيق نجاحات إضافية مهمة الأسبوع المقبل بقدرته على انتخاب هيئة تمثيلية للحاضرين لتشكل أداة ضاغطة على قيادة منظمة التحرير بالبدء بخطوات فعلية لإعادة بناء المنظمة، ثم، وعلى القدر نفسه من الأهمية، بدء الهيئة الجديدة بالتفاوض مع الأحزاب والتكتلات السياسية الفلسطينية الأخرى لتشكيل قيادة وطنية موحّدة تقود المرحلة غير الاعتيادية التي تمر بها القضية الفلسطينية شبيهة بالقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى عام 1987، والتي تبقى المثال الناجح في تاريخ النضال التحرّري الفلسطيني.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *