في الذكرى السنوية الأولى لرحيل سالم خلة
أمس انقضى عام على غيابك. لم ينقص حضورك.
أنا الذي كنت أظن أني قد هُيّئتُ لذلك ، أنك قد هيّأتَني لذلك ، و أني قد هيأتُ نفسي لهذا الغياب.
كنتُ طفلاً ، قلتَ لي أكثر من مرة ، دون مناسبة ، أو قبيل مغادرتك إلى واحدة من مهماتك الكثيرة : “أنا ممكن ما أرجع .. أنا فدائي و ممكن أستشهد”.
قلتَها لي لتهيئني. “الفدائي” الذي كان كثيراً ما يذهب ، يغيب ثم يعود . كم كنتُ أحب ذلك الوصف ، المقرون بالموت و أخاف منه لما يحمله من غياب ، مع ذلك كنت أجيب و بصوت عال و بكثير من الزهو حين أُسأل: “شو بيشتغل أبوك” ، فأرد :”فدائي”.
المفردة التي تعني أن يموت حاملها في أي وقت و أي مكان. الكلمة المرادفة للغياب ، الكلمة التي حملها رفاق لك كثر سبقوك ، الكلمة التى رافقتنا و كان الموت أو الغياب معها قريبين على الدوام.
كبرتُ أكثر .. و كان بعد عودتك إلى أرض “الوطن” أن زرت أحد رفاقك في مكتبه، المجاور لمكتبك سابقاً . على الجدار خلفه صور لرفاقك ، الحاج سامي ، بهيج المجذوب ، مراد ، أبو الغضب ، خالد نزال .. جاء حديثه على ذكرك، فنظر خلفه إلى تلك الصور و قال لي : مش قادر أصدق كيف صورة “طارق أبو زياد” لهلق مش معلقة مع هالصور .
كبرتُ أكثر ، لأراك من بعيد في سنواتك الأخيرة قريباً أيضاً من الموت ، حملتَ ملف “شهداء مقابر الأرقام” ، انتزعت الكثر منهم من غيابهم بأن حررتهم منه ، و أعدت لهم أسماءهم ليكونوا حاضرين و إن من قبورهم لكن التي تحمل أسماءهم بين أهلهم ، فهزمت مع رفاقك الغياب، حتى حين داهمك السرطان . مرحلة جديدة لأتهيأ للغياب. الغياب الذي كان يقترب مع اشتداد المرض و كنت تواجهه بشجاعتك المعتادة ، صلابتك ، حبك للحياة و عدم خوفك من الموت ، باستخفافك بالمرض حين تقول ضاحكاً : “تلك الكتل اللعينة تنتشر كالسرطان” ، فتجعله كأنه يبتعد.
مرة أخرى كان الغياب يقترب ، يقترب أكثر هذه المرة.
نهشك المرض ، لكن كحالك دائماً ، كما كنت في كل مرة ، في تنقلاتك من يعبد إلى نابلس، إلى عمان فأحراش جرش، إلى الجولان و جنوب لبنان ، في سورية و العراق و اليمن ، ثم في العودة إلى فلسطين ، كنت الفدائي ، المقاتل الصلب الشجاع. الحنون الرقيق المحب إلى آخر لحظة. الأب و الصديق و الرفيق . المقاتل الذي لا يستلم ، الذي يحب الحياة و يعيشها كما يجيب أن تعاش ، كما يستحق و تستحق و حتى آخر لحظة منها استطاعها .
الذي حين يغيب يبقى حاضراً. أنت الذي حمّلتني كل هذا ، جهزتني له ، علمتني معنى الحياة ، كيف لي و إن كنت المهيأ على الغياب ، و أنا ابنك أن اعتاد عليه .. أن أقبل به أو أن أسلم به؟!