في الذكرى الخامسة عشر لوفاة أمي
وما هم هي أمي، امرأة عادية وبسيطة، وأجمل ما فيها أنها طيبة مثل كل الزمن الفقير العفوي الطيب الذي ربطني وطوق عنقي بأسرتي. أسرتي التي ميزت بشيئ من العفوية التي أفتقدها وأحن إليها. أمي التي خلقت والإبتسامة على وجهها، حتى دموعها كانت رذاذ نرجس يبتسم، أن يكون لأمي ذكرى هذا حقها علي.
أمي، وأي أم هي كي يتذكرها التاريخ، وكم هي درجة اهتمام الآخر بأن اضع أمي وذكراها أمامه وكأنها من مشاهير العصر، إلا انه يتبدى لي الكثير من الجوانب المضيئة والجميلة بأمي، وهي أمي على كل حال ولدتني بحالة ضنك كما تقول، فقد جئت للحياة وقد توفي أخي الأكبر الذي تتحدث عنه أمي وكأنه خارق الذكاء، وتقول لو قدر له الحياة لبزنا كلنا علما وذكاء، وتردف عندما تكون غاضبة بأنني وجه النحس الذي حل بعد فقدها لأخي البكر الذي تتقول عنه حكايا وقصص وكأنك أمام عبقرية وملهم للرضا والحب والحنان، إلا أنها تردف وقد وجدتني أتبرم من حظي السيئ الذي جاء بي ليخطف ذاك الأخ الذي لم أره ولم يقدر لي ان أعيش بقربه، فتمسح شعري برفق وتقبلني وتقول أنت السعد والحظ فبقدومك ازدهر عمل والدي وتوسع بيتنا وعمنا الخير.
صفات كثيرة كانت تمتع بها أمي فهي السيدة وابنة العائلة المحافظة، فوالدها كثيرا ما يتباهى بأنه وريث الإمام النووي وحافظ تاريخه وكتبه ووريث منبره، يؤم الناس بالجامع ويلقي خطب الجمعة ويتقشف بالحياة اقتداء بالإمام، كما أنها ربة بيت من الطراز الأول النظافة عندها وسواس جميل يرهقها وهي تنظف وترتب ، كل شيئ بمكانه ويدها دائما تعمل على بقاء البيت جنة، يدها خضراء كما يقول العامة. كان بيتنا دائما قارورة عطر تحفة غرسات للياسمين والقرنفل والحبق والختمية والمليسة والدالية التي تعرش صحن الدار. هكذا البيت يكون، أكان في المدينة التي انتقلنا اليها مبكرين، أم في القرية، البيت بعرقه الأخضر واليد الخضراء، يد امي بركة وتقى، اعتقاد ساد أهل المنطقة التي سكناها في دمشق وهو مخيم اليرموك. يتوافد على والدتي يوميا الكثير من النساء يحملن أطفالهن من أجل العلاج، الرضيع المملوع *1 والطفل الساخن، ومن التهبت لوزاته حيث يقال نزلت بنات آذانه، والوالدة بيدها الخضراء تمسد الطفل بالزيت البلدي وتدعك عضلاته الغضة وتقمطه *2 وتعيده لأمه حيث يكون الطفل قد ارتاح وتعرق وزال عنه الألم، بينما المصاب بالسخونة تصف له أعشاب المليسة وعصير الليمون وتقرأ له من كلام الله وتمسح جبينه بماء الزهر، وتتعامل مع المصاب بالتهاب اللوزات بأن تغسل يديها جيدا وتمس اصبعها بالملح وتفقأ الورم الملتهب بالملح فيتفجر القيح مصحوبا ببعض الدماء ومباشرة تجعله يتمضمض بالماء والملح المغلي والمبرد. كبر أسم امي باليرموك وصار بيتنا محجا ووالدي الذي لم ينسى جذوره البدوية حيث هناك مضافته وقهوته العربية التي تعبق بالدار وهو يحمس البن والهيل ويغلي الخمير ويصنع قهوته وكأنه يرسم لوحة أو يكتب قصيدة، لم يتذمر قط من الوالدة والنساء الذين يعمون الدار، كان يبتسم ويقدم قهوته سعيدا، وعندما ابتدأنا نفك الحرف ونتعلم وندخل أمنا الغولة ـ أمنا الغولة الحياة التي لم تكن آمنة يوما، ولكنها بسيطة وعفوية وكان شقاؤها مرتبط بأحلام أقلها أن نغير العالم ونستعيد فلسطين، يومها صرنا نتأفف من ما تقوم به أمي وننصح بترك هذا للطب والدكتور والعيادة، وكانت والدتي تبتسم وتقول كيف لي أن ارد من يعتقد أنني استطيع بإلهام الله أن أساعد بشفاء ولده، لا أستطيع وانا لا اتقاضى أجرا، كلما أبتغيه ثواب من الله يحفظ لكم الدرب والحياة الكريمة، وما كنا نستطيع إقناع أمنا بالكف عن طبها البدائي، وما كنا بالقدرة على صد الناس الذين أصبحوا يتكاثرون.
أصبح الناس يتوسمون طابع القداسة والبركة بأمي، وأمي لا ترد أحداً وتبتسم للجميع، من النوادر التي نضحك ونحن نتذكرها أن أبو طافش الذي يبيع المازوت على طنبره ويتجول بحارات المخيم مطوطا بطابته الحمراء التي تنتهي ببوق ومن ثم يصرخ مازوت مازوت، صادف ان وقع بغله في الشارع، خاف أبو طافش وأصفر لونه فالبغل رأسماله ومصدر عيشه وقوته، فما كان منه إلا أن ركض متوجها لبيتنا وهو يصرخ حجة بعرضك والله يخليلك ولادك البغل، البغل وقع بالشارع، شغلي ورزق أطفالي، ابتسمت الحجة كعادتها وقالت أذكر الله واتبعني. مسدت أمي رأس البغل وقرأت عليه بعض كلماتها نهض البغل منتفضا، هذه الحادثة جعلتنا بمأزق حقيقي، والدتي قديسة، وأنا ذو الميول العلمانية أناكدها وأقول تعب البغل فوقع، إرتاح البغل فقام، لفيها يا حجة، يعني أنت مباركة بس شوي شوي علينا. تضحك والدتي، أهمس بأذنها ماذا قرأت على البغل وماذا تقرأين تصر والدتي على الكتمان وتقول كلام الله الذي لا يرد، اقول وماذا تحفظين من كلام الله، تنهرني والدتي وتقول الله يعرف والله يسمع والله موجود وأنا اعرفه. اتعجب من أمي هذه التي لم تتعلم ولم تدخل المدارس ولكنها تعرف الله بطريقة عفوية ولا تحتاج لتعقيد، تصلي وتصوم وتصون ، وتحفظ كل شيئ بالنسبة لها علاقة لا تشوبها الرياء والزيف. تصادق الجميع، الفتيات والشباب من كل الأعمار، قدرة على نسج البسمة مع الجميع. كثرت الأحزاب والفصائل والمكاتب، وتمر بها النساء اللواتي انخرطن بالعمل المقاوم يتحرشون ويتمازحون معها حجة تعالي لندوتنا، تبتسم والدتي وتقول ضروري، أين ستقيمون الندوة، تذهب وترجع وتقول لم أفهم شيئ ولكن الفتيات حبابات الله يوفقهن، أسألها أي فتيات تقول فتيات جورج حبش، وكان هناك ايضا فتيات حواتمة، أضحك بدوري واقول يا والدتي شو يعني حبش وحواتمة تقول ما بعرف المهم بدهم يحرورا فلسطين، أقول هؤلاء تنظيمات ولها أسماء، لا تعير والدتي للأسماء أي انتباه يهمها أن الفتيات يتحركن ويتكلمن عن فلسطين وتاريخ فلسطين، ووالدتي مهتمة بفلسطين كما تهتم بنا وببيتنا. أول مرة لبست بها لباس الفدائيين المرقط وكان يومها غية وزهو للشباب، يومها زغردت والدتي، بكت وضمتني وخافت علي.
يا الهي كم أنا حانق على نفسي يوم تقرر أن أغيب بدهاليز السياسة ومتاهاتها الغويطة، يومها عرفت كم أصبحت الحياة قاسية على هذه الأم التي هجرت النوم، وأصبحت تتنسم أخباري، ومن ثم أخبار أخي الصغير الذي انخرط أيضا معي وأصابته لعنة المطاردة. ما عزاها يومها أنها لم تكن الوحيدة. أمهات كثر يتزاورن ويجلسن يتابعن أخبارنا ووالدتي لم تعد تميز فكل رفاقي أنا وأخي، ترسل الأكل وبعض المال. يوم أعتقل أخي ضربت على عينيها وأصبحت تتردى حالتها، جاءتني الى لبنان عندما علمت انني هناك، كانت محملة بكل خيرات بلدنا، حملت معها الفريكة والعدس البلدي والبرغل، مربى التين والمشمش، المكدوس والزيتون والمكسرات. حضنتها بين الهذيان والبكاء والفرح والجنون ـ ما هذا ياوالدتي، يا أمي يا قاتلتي، من بين دموعها التي تختنق قالت ـ لا بد أنك لا تأكل جيدا، الزيتون والمكدوس الذي تعرفه والمربى، التففنا أنا والأصدقاء الذين بدورهم أرادوا أخراجنا من الجو الذي غطى المكان، حجة بدنا تطبخي لنا، حجة محشي، ضحكت والدتي واسرعت تطبخ لنا وتعيدنا لعالم افتقدناه وضيعنا شرف عفويته وبرائته.
أمي التي ذهبت ولم استطع وداعها ولم احمل تابوتها، تزورني وتحيط بي دائما وهي تمسد رأسي وتعيدني لكل الأشياء الحلوة التي ضاعت وتركتنا نلوح بأيدينا على الشواطئ والمطارات بانتظار أفق.
*1 الملع هو نوع من المرض العضلي العصبي يؤدي لألم شديد .
*2 التقميط هو لف الرضيع وتثبيته من بمنديل كبير من كتفيه لغاية رجليه .