في البحث عن معنى المشروع الوطني الفلسطيني


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

يفتقد الفلسطينيون لما يعرف بمراكز صنع القرار، أو لهيئات قيادية وإطارات شرعية، تحدد خياراتهم وترسم سياساتهم. ثم إن مشكلتهم لا تكمن فقط في وجود أو عدم وجود إجابات على الأسئلة المعقدة والصعبة التي تطرحها قضية شعب فلسطين، إذ هي تكمن، أولاً، في احتكار القرار في الساحة الفلسطينية وضعف علاقات المشاركة والتمثيل والمأسسة والديمقراطية. وثانياً، في تكلّس واهتلاك البني السياسية السائدة، التي يفترض بها حمل أية خيارات وطنية فلسطينية مهما كان نوعها. وثالثاً، ضعف إمكانيات الشعب الفلسطيني إزاء إسرائيل. ورابعاً، في غياب الحقل السياسي الموحّد للشعب الفلسطيني.

على أية حال، فإننا في هذه الظروف، وفي ظل ضياع المشروع الوطني، وتدهور حال حركة التحرر الفلسطينية، وواقع الاحباط على الصعيد المجتمعي، أحوج ما نكون إلى البحث عن إجابات جديدة، بعيدة عن الوصفات الجاهزة، أو الرغبوية. أي أننا بحاجة إلى نوع من الاجابات المركّبة، التي تتناسب مع التعقيد الهائل في قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والتي توفق بين الممكن والمطلوب، وبين الواقع والطموح، والحق النسبي والحق المطلق.

 اولاً: في تعريف المشروع الوطني وفي الحاجة إلى التجديد..

يكشف البحث في معنى المشروع الوطني الفلسطيني عن ضياع هذا المشروع، بعد حوالي نصف قرن على انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك تبديد التضحيات، التي تم بذلها، وتآكل المنجزات، التي تم تحقيقها، كما يكشف حال التدهور، أو الأفول، التي تمر بها هذه الحركة.

فمنذ زمن، وبالأخص منذ التوقيع على اتفاقات أوسلو (1993) لم يعد بالإمكان الحديث عن مشروع وطني للفلسطينيين، لا بمعنى مشروع جامع لهم في كافة أماكن تواجدهم، ولا بمعنى المشروع الذي يجيب على مختلف الأسئلة التي ولدتها القضية الفلسطينية. فما لدينا اليوم مجرد مشروعات مختلفة ومتباينة، تحاول الإجابة على حاجات كل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني، أو تياراته السياسية، من دون أي رابط يجمع بينها، لا على صعيد الرؤية السياسية المستقبلية، ولا على مستوى تعزيز الهوية الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين.

لا يصدر المشروع الوطني  كتعبير عن رؤية ذاتية، أو رغبوية، بقدر ما يصدر كتعبير عن القضية الوطنية ذاتها، لأنه إذا لم يغطّي الأسئلة، التي تطرحها تلك القضية، يكفّ عن كونه مشروعاً وطنياً، ويغدو مجرّد مشروع سياسي، يعكس، ربما، طموحات طبقة سياسية، أو جماعة بشرية، معينة.

وفي حالتنا، فقد بدأت القضية مع ظهور المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ثم توّجت بإقامة إسرائيل، التي نجم عنها تشريد حوالي مليون من الفلسطينيين، وانكسار الوحدة المجتمعية لهم، وتهميش هويتهم، وتقويض كيانيتهم السياسية. لذا فإن أي مشروع وطني ينبغي أن ينطلق بداهة من هذه النقطة، بالضبط، أما الانحراف عنها أو تجاوزها، تحت أي مبرر كان، فهو يؤدي إلى ضياع المشروع الوطني، وإزاحة الرواية الأساس، ما يخلق تصدّعات في الهوية الوطنية، وفي شعور الفلسطينيين بوحدتهم كشعب. أيضاً، فإن الانحراف عن هذه النقطة يعني في ما يعنيه “التكيّف”، إلى حد ما، مع الرؤية الإسرائيلية، التي تنظر لإسرائيل باعتبارها نتاج حركة تحرر قومي لليهود، والتي تعتبر أن القضية بدأت مع الاحتلال الذي بدأ في 1967، في الصراع بين شعبين على الارض ذاتها (وهي هنا الضفة). ولا شك أن هذا الانحراف يعتبر، أيضاً، بمثابة إقرار بهزيمة المشروع الوطني الفلسطيني.

هكذا، فإن نكوص الحركة الوطنية الفلسطينية عن أهدافها الأولية، واختزالها قضية فلسطين، بمجرد أرض محتلة في الضفة والقطاع، (1967)، وتحولها من حركة تحرر وطني إلى مجرد سلطة في الضفة والقطاع، أي لجزء من شعب على جزء من أرض، قبل دحر الاحتلال، ولّد تداعيات كبيرة وخطيرة. فقد بدت هذه الحركة، في تحولاتها تلك، كأنها اقتربت من الادعاءات الإسرائيلية، وأقرّت بهزيمتها، في حين بدت إسرائيل وكأنها هي التي كسبت المعركة على الوعي، باحتلالها وعي الطبقة السياسية الفلسطينية المهيمنة، بدل ان يحتل الفلسطينيون وعي الإسرائيليين، في معركة “الصراع على المخيلة” أو على الوعي (بحسب تعبير لإدوارد سعيد). أيضاً فقد نجم عن اختزال قضية فلسطين مسألة أخرى، على غاية في الخطورة، تتمثل بفتح مسار قد يودي إلى تفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني، مع إخراج ملايين اللاجئين، في الأردن وسورية ولبنان، من هذا الإطار، ومن معادلات موازين القوى في الصراع الجاري مع إسرائيل، وهذا بحد ذاته كسر لمفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، وتفريط بكتلة كبيرة من الفلسطينيين.

لم تقف المسألة عند هذه الاختزالات الثلاثة للقضية والأرض والشعب، ذلك أن الكيان الناشئ تورّط، أيضاً، أو استدرج نحو ممانعة كافة أشكال المقاومة، وضمنها الشعبية أو المدنية، وهي التي كانت متاحة قبل مجيء قيادات المنظمة والفصائل الى الداخل، لا سيما مع وجود أجهزة أمنية متضخّمة، تشتغل في إطار من التنسيق الأمني مع إسرائيل.

على ذلك فإن مشكلتنا اليوم لا تكمن فقط في اختزال المشروع الوطني بمجرد قيام كيان سياسي ناقص، ويخضع للهيمنة الإسرائيلية، في مختلف المجالات، وإنما في الانعكاسات الخطيرة التي تنجم عن ذلك، أيضاً، لجهة تدهور مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية، في مجتمعها وفي صراعها ضد عدوها، كما في انعكاسات ذلك لجهة تآكل إدراكات الفلسطينيين لذاتهم، ولكونهم شعباً. فما قيمة أي كيان، إذا كان بثمن كسر وعي الفلسطينيين لذاتهم ولقضيتهم ولحقوقهم ولهويتهم؟ وما أهمية أي إنجاز، إذا كان تحصيله مرهوناً، في الأغلب، بهزيمة المشروع الوطني، وبانتصار إرادة إسرائيل، وفرضها لمصالحها ولروايتها ورؤيتها عن ذاتها وعن حاجاتها الأمنية؟

ما الحل؟ أعتقد أن تصحيح هذا الوضع يفترض من الفلسطينيين تجديد معنى مشروعهم الوطني، بحيث يتم المطابقة بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين والحركة الوطنية الفلسطينية. إذ لا يمكن الحديث عن مشروع وطني ينتقص حقوق الفلسطينيين، أو يلبي حقوق بعضا منهم، أو يتأسس على إقامة كيان على جزء من أرضهم، لاسيما إذا لم يرتبط ذلك برؤية مستقبلية، تضمن تطوير هويتهم الوطنية وكيانيتهم السياسية، وتضمن التطابق بين القضية والشعب والأرض، فكيف إذا كان الأمر ينتقص أو يصدّع هذا التطابق؟

الآن، قد يبدو هدف “التحرير”، على نحو ماجاء في التصورات الأولية للمشروع الوطني، كنتاج لحرب شعبية او نظامية، وبالاستناد لدعم جيوش أنظمة عربية، قد تجاوزه الزمن، لاسيما أن التجربة بينت قصور القدرة على انجاز ذلك، لأسباب عديدة، لكن البديل عن ذلك لا يفترض التخلي عن الرواية والحقوق والطموحات الفلسطينية، لا بحجة موازين القوى، أو تغير الواقع، ولا بحجة المعطيات العربية والدولية غير المواتية، لأن ذلك لن يحل شيئا، ولأن القضية الوطنية، والأسئلة المنبثقة عنها، ستبقى هي ذاتها.

القصد أنه لا ينبغي حل هذه المشكلات بخلق مشكلات أخرى، وإنما من خلال ايجاد حلول مبتكرة للقضية ذاتها، ما يفترض مراجعة المفاهيم التقليدية، التي سادت طوال العقود الماضية، عن هذا الصراع وكيفية حله، والتي ثبت قصورها. ويأتي ضمن ذلك مراجعة المفهوم السائد عن “التحرير”، ليس بإلغائه، وإنما بتطوير معانيه، بحيث لا يقتصر هذا المعنى على تحرير الأرض، وبحيث تشمل هذه العملية تحرير الفلسطينيين من علاقات الاستعمار والعنصرية والهيمنة الإسرائيلية، وتحرير اليهود ذاتهم، من الصهيونية، وإضفاء قيم الحرية والمساواة والديمقراطية على عملية التحرير.

ولعل هذا كله يجد تمثّلاته في مشروع الدولة الواحدة (الديمقراطية العلمانية)، الذي يمكن يتماهى مع فكرة التحرير، بمعنى التحرر من الصهيونية، كأيدلوجية ومؤسسات، للفلسطينيين وللإسرائيليين اليهود، لاسيما أن هذا الخيار يحمل في مضامينه معنى الحل النهائي والشامل والعادل (ولو نسبياً)، لمجمل تجلّيات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أكثر من غيره من الحلول الأخرى.

ويستمد هذا الحل مشروعيته من كونه الخيار الأمثل، ربما، الذي يجاوب على مختلف مشكلات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي (اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية)، ومن كونه المشروع الوحيد الذي يخاطب الإسرائيليين ويتمثّل مشكلتهم، وفق رؤية وطنية، تحررية وإنسانية وديمقراطية، تتأسس على الحقيقة والعدالة، ولو بشكل نسبي.

قد يفيد لفت الانتباه هنا، أيضاً، إلى أن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية بات في هذه المرحلة يستمد مشروعيته، أيضاً، من صعود دور المجتمعات المدنية، على الصعيد الدولي، وشيوع قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، كقيم عالمية، وكذا من إمكان قيام دولة مواطنين في البلدان العربية، المحمولة على رياح الثورات الشعبية (على علاتها ومشكلاتها ونواقصها)، والتي يفترض أن تحرم إسرائيل مكانتها، باعتبارها ذاتها الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة، وإظهارها على حقيقتها باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية.

وهنا يجدر التنويه إلى ثلاثة ملاحظات، أولاها، عدم اعتبار خيار الدولة الواحدة بديلاً لخيار الدولة المستقلة، أو نقيضاً له، لأنه بطبيعته خيار مستقبلي، ويحتاج إلى تطوّرات عند المجتمعين المعنيّين، وإلى توفّر المعطيات الدولية والعربية الملائمة. وتنبثق عن ذلك ثلاثة مسائل، الأولى، وتتعلّق بضرورة فتح أفق الحلول والخيارات الفلسطينية، وعدم إغلاقها إزاء التطورات المستقبلية. والثانية، وتتعلّق في عدم الانحصار في إطار خيار واحد ووحيد ولا في أي مرحلة او ظرف. والثالثة، تتعلّق بضرورة ربط كل الخيارات برؤية مستقبلية للحل النهائي، بمعنى أن تجري مراعاة أن تصبّ كل الحلول في هذا الحل.

أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بعدم ضرورة تحديد شكل الدولة الديمقراطية الواحدة، إذ أن هذا الأمر يمكن ان يحسم في المستقبل، وبحسب تطور الحالة الصراعية بين الطرفين، أي الفلسطينيين والإسرائيليين. ومع أن حل الدولة الديمقراطية الواحدة، القائمة على دولة المواطنين المتساوين الأحرار هو الامثل، إلا ان الواقع قد يضعنا امام محطات انتقالية، وتدريجية، كالدولة الديمقراطية الواحدة القائمة على أساس “ثنائي القومية”، أو أمام نوع من الدولة الديمقراطية الواحدة القائمة على أساس فدرالي، وهكذا. كما قد تنشأ ظروف اخرى في المستقبل تفتح أمام خلق اتحاد فدرالي او كونفدرالي في الإطار الشرق اوسطي، او في المشرق العربي (طبعا على أساس تقويض الصهيونية).

وتبقى الملاحظة الثالثة، وتفيد بأن حل الدولة الديمقراطية الواحدة يبقى مشروعاً، ومطروحاً، بغض النظر عن السيناريوهات المتوقعة للمفاوضات، أي في حال بقي الوضع على حاله، أو تعثرت المفاوضات، أو تقدمت، لسبب بسيط مفاده أن الأسئلة المطروحة في كل الأحوال، مازالت هي نفسها، رغم تغير الظروف.

هكذا ففي إطار هذه الرؤية يمكن تجديد معنى المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره لا يختصر القضية في مجرّد الصراع على جزء من أرض، وإنما باعتباره مشروعاً تحرّرياً وديمقرطياً، يستهدف الفلسطينيين والإسرائيليين، ويسير مع حركة التاريخ، كونه النقيض لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية، وكونه المشروع الذي يطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، والذي يمكّن الحركة الوطنية الفلسطينية من استعادة طابعها كحركة تحرّر وطني.

 ثانيا: الميثاق والأهداف الإستراتيجية

ـ أعتقد بوجوب الحاجة إلى ميثاق وطني جديد، أولاً، لتطوير الميثاق القديم، وإغناء مضامينه، بما يتلاءم مع المشروع الوطني المطروح. وثانيا، كي يتلاءم مع الدروس المستنبطة من التجربة الوطنية الفلسطينية. وثالثاً، كي يراعي المتغيرات الاجتماعية والسياسية عند طرفي الصراع، وعلى الصعيدين العربي والدولي.

ـ أيضاً، ينبغي التمييز بين الميثاق الوطني، الذي يخص قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وبين الدستور، الذي يخصّ الكيان الفلسطيني، في علاقة السلطة بمؤسساتها، وعلاقتها بالمجتمع، وبالمواطن.

ـ وبالنسبة لكل من المشروع الوطني والميثاق والبرنامج السياسي، فلكل منها حقله الخاص، لكن المهم أن تتأسس الصلة بينها على التكامل، لا التعارض او التناقض.

ـ بخصوص ايهما اسبق المشروع الوطني والميثاق وبناء المؤسسة التمثيلية، فأعتقد أن الأولوية هي لتحديد الرؤية، او لتحديد المشروع الوطني، لأنه على أساس ذلك يمكن تقرير شكل البنية التي ستحمل هذا المشروع.

ـ في الحالة الطبيعية من البديهي أن بلورة المشروع الوطني، والميثاق الوطني، تسبقان بناء المؤسسة التمثيلية، لكن في حالتنا، وبعد كل هذه التجربة، ربما الظروف تفرض تشكيل هيئة تمثيلية، تراعي مختلف خصائص “المجتمعات” الفلسطينية، وحاجاتها ومطالبها، على أن يكون مفهوما  ان المطلوب الاشتغال على توليد رؤية وطنية جديدة.

 ثالثا: المشروع الوطني في ظل سيناريوهات مختلفة

على الأرجح فإن خيار إقامة دولة فلسطينية، في الضفة والقطاع المحتلين (1967)، بات يواجه انسداداً حقيقياً، بسبب السياسات التي تنتهجها حكومات إسرائيل، ومع نصف مليون مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية، يعيشون في 144 مستوطنة، عدا عن النقاط الاستيطانية العشوائية، ناهيك عن الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، وكلها تحد من حركة الفلسطينيين، ومن التواصل الجغرافي بين مدن الضفة، وتحول دون قيام دولة طبيعية وقابلة للحياة.

وعلى أية حال فليس من قبيل الصدف تضاعف أعداد المستوطنين مع قيام السلطة الفلسطينية، التي نشأت بعد توقيع اتفاق اوسلو (1993)، وبناء الجدار للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة، وبهدف ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة إليها. وما ينبغي ملاحظته، أيضاً، أن إسرائيل لا تتعامل مع فلسطينيي الضفة باعتبارها سلطة احتلال فحسب، إذ هي تتعاطى معهم، أيضاً، باعتبارهم مجرد سكان مقيمين، لا يمتلكون اية حقوق، إلا ما تمنحهم إياه، كما تتعاطى مع سلطتهم باعتبارها مجرد سلطة على السكان، ووفق ما تتيحه لها.

واضح أن الإسرائيليين استمرءوا هذه الحال كونهم باتوا يعيشون في واقع من الاحتلال المريح والمربح، مع قيام السلطة، إذ لم يعد ثمة ثمن للاحتلال ولا للاستيطان، ولم يعودوا يشعرون بالفلسطينيين، ولا بعذاباتهم، الأمر الذي خفّف من حافزيتهم لإنهاء الاحتلال، بالقياس الى السابق، بل إن ذلك شجّعهم على مصارعة الفلسطينيين، بزيادة الاستيطان، وطرح مزيد من الاشتراطات على سعيهم لإقامة دولة مستقلة لهم، وهو ما يمكن ملاحظته بازدياد نفوذ التيارات اليمينية المتشددة، الدينية والقومية.

المعنى أن كل المؤشرات تؤكد بأن إسرائيل لن تسمح بإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، على النحو الذي يدور في مخيلتهم، رغم التنازلات التي قدمتها قيادتهم، بدليل طرحها عليهم مطالب تعجيزية، وغير مسبوقة، كمثل موافقتهم على الاعتراف بها دولة يهودية، وتواجد جيشها في الأغوار، على الحدود مع الأردن، وإجراء تبادل أراضي بحسب مصالحها، وبقاء القدس موحدة تحت سيادتها، والتخلي عن حق العودة للاجئين، واعتبار اقامة هكذا دولة نهاية للمطالب الفلسطينية.

هذا يوضّح أن إسرائيل تنتهج سياستين متناقضتين، فهي توافق على إقامة دولة فلسطينية، لكنها في المقابل تعمل على تجويف معنى ومبنى هذه الدولة، بحصرها في نوع من كيان سياسي، تحت هيمنتها، في أجزاء من الضفة (مع او بدون القطاع)، ووفق ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية معها، فهذا هو مفهوم إسرائيل للدولة الفلسطينية، حتى لو كان اسمها امبراطورية، وحتى لو اخذت العضوية في الأمم المتحدة. ويستنتج من ذلك أن إسرائيل لا تريد من الفلسطينيين التنازل عن 77 أو 78 بالمئة (مع التبادل) من حقهم في أرضهم التاريخية، فقط، بل إنها تريد منهم، أيضاً، التخلي عن روايتهم التاريخية، وعن رؤيتهم لذاتهم كشعب، وبالتالي الموافقة على الإقرار بهزيمتهم، أو الإقرار بانتصار مشروعها وروايتها، عن حقها “التاريخي” و”الشرعي” و”الرباني” بفلسطين.

على أية حال فإن انسداد خيار الدولة المستقلة، كما تخيلها الفلسطينيون منذ أربعة عقود (1974)، ليس مجرد تقييم فلسطيني فحسب، إذ أن بعض المراقبين الدوليين وصل إلى هذا الاستنتاج. فهنري سيغمان، مثلاً، يحيل تعثّر التسوية إلى سعي إسرائيل إلى السيطرة “على كلّ فلسطين” وهو يرى أن إسرائيل “تتحوّل تدريجياً من دولة ديمقراطية إلى دولة ذات ديمقراطية عرقية”. (“الحياة”، 22/11/3102) وبرأي سيغمان فإن لا احد يمكنه ان يقتنع أن “مشروع إسرائيل الاستيطاني في الضفة الغربية..لا يهدف إلى تأمين سيطرة إسرائيل الدائمة على فلسطين من البحر المتوسط حتى الحدود الأردنية”. (“الحياة”، 29/3/2011) ويلاحظ إيان لوستيك أن”رؤية متطلّعة لدولتين فلسطينية وإسرائيلية خرجت من كونها معقولة إلى شبه مستحيلة”. (“نيويورك تايمز”، 14/9/2013، ترجمة أحمد القاروط http://www.nytimes.com/2013/09/15/opinion/sunday/two-state -illusion.html?_r=0)

أما أبراهام بورغ، الرئيس الاسبق “للكنيست” فيرى أن “اتفاق أوسلو مات، وإن السلطة الفلسطينية تحولت إلى “مقاول ثانوي للاحتلال”. (“الخليج”، الشارقة، 2/7/2013)

جدير بالذكر أنه في اليمين الإسرائيلي باتت تبرز أصوات تدعو إلى نبذ حل الدولتين، وعدم التخلي عن أراض في الضفة، ولو بثمن ضم الفلسطينيين إلى إسرائيل، للحفاظ على مبدأ “تكامل أرض إسرائيل”، لأسباب دينية وأيدلوجية وأمنية ونفعية. وهذه الأصوات تقلل من شأن مايسمى “الخطر الديمغرافي، ومن تداعيات منح الفلسطينيين المواطنة الإسرائيلية، باعتبار ذلك تحدياً على إسرائيل الديمقراطية أن تخوضه. وهذا ما طرحه، مثلاً، القياديين في ليكود روبي ريفلين، رئيس كنيست سابق، وداني أيالون نائب وزير الخارجية، وموشي أرينز، وزير الدفاع الأسبق، الذي يقول صراحة: “أصبحت إسرائيل دولة ثنائية القومية يحيا فيها مواطنون يهود وعرب..التحدي الماثل أمامنا هو إدماج المواطنين العرب في المجتمع الاسرائيلي. إن اضافة أراضٍ من أرض إسرائيل إلى دولة إسرائيل ليست تحدياً لا تستطيع الديمقراطية الإسرائيلية مجابهته.” (“هآرتس”، 13/8/2013) وهذا ما طرحه، مؤخّراً، عضو الكنيست زبولون كالفا، من حزب “البيت اليهودي” المتطرف، الذي يحاول استصدار قرار من الكنيست يعترف فيه بدولة واحدة بين نهر الأردن والبحر، وهي دولة إسرائيل، ومنح المواطنة للفلسطينيين في الضفة وإعطاءهم الحقّ في التصويت بالكنيست.” (“الحياة الجديدة”، رام الله، 12/2/2014)

طبعاً ثمة فرق بين طرح اليمين الديني والقومي، الذي يرى الدولة الواحدة شكلا لضم الاراضي المحتلة والهيمنة على الشعب الفلسطيني، وبين طرح القوى اليسارية، او المتعاطفة مع حقوق الفلسطينيين. فهذا إبراهام بورغ، مثلا، يعتقد بأن “معادلة دولتين لشعبين لفظت أنفاسها”. والبديل عنده يكمن في “طرح نموذج لا يبدأ من حل القضايا القومية وإنما من الالتزام بالقضايا الاجتماعية، حيث لا فرق بين اليهود والعرب، أي بمساواة كاملة. وهذا يستلزم أن إسرائيل ليست دولة يهودية ديمقراطية وإنما دولة ديمقراطية..وجميع المواطنين متساوون أمام الديمقراطية..لكل إنسان يعيش… بين نهر الأردن والبحر المتوسط الحق نفسه والمساواة نفسها…إذا كنت يهوديا أو عربيا، رجلا أو امرأة، حريدياً أو علمانياً. لكل إنسان الحق نفسه، أن يَنتخب ويُنتخب، الحق في الحياة…في التنظيم…في التعبير عن الرأي وما إلى ذلك…في دولة جميع مواطنيها…الخلاص هو في الاندماج في الشرق الأوسط.”

أيضاً، يقول يوري افنيري: “أنا على قناعة بانه حتى نهاية هذا القرن – حين لن يكون بعضنا على قيد الحياة – سيقوم حكم عالمي، بهذا الشكل أو ذاك. ومنذ الآن لا يمكن حل المشاكل الوجودية للبشرية بدون قوة عالمية ملزمة، ذات قدرة على اتخاذ القرار والتنفيذ. فمهام مثل انقاذ الكرة الارضية، تنظيم الاقتصاد العالمي، منع الحروب والحروب الأهلية، ضمان حقوق الانسان، مساواة النساء، حماية الاقليات، القضاء على الجوع والمرض – كل هذا يستوجب نظاما عالميا جديداً..يجدر بنا ان نفكر منذ اليوم في هذه الإمكانيات، حتى عندما تكون لا تزال تبدو خيالية.” (“هآرتس” 11/8/2013) أما إيان لوستيك فيقول: “لم تعد المسألة كيف يتم رسم حدود سياسية بين اليهود والعرب على خريطة بل أصبحت كيف يمكن تحقيق المساواة في الحقوق السياسية..للبعض، التخلي عن حل الدولتين قد يبدو كنهاية العالم. ولكن هو ليس كذلك.” (مصدر سبق ذكره)

ـ على ضوء ذلك فإن انهيار المفاوضات واستمرار الأمر الواقع أو نجاح المفاوضات لا يبدو أنه سيغير من الواقع كثيراً، إذ أن القضايا الأساسية ستبقى على حالها تقريباً، وكذا واقع الهيمنة الإسرائيلية، وواقع إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية ودينية، وواقع الفلسطينيين، داخل الأرض المحتلة، أو خارجها.

لكن ذلك لا يعني انه لن تحصل تغيرات بالمطلق، فما سيتغير في حال تقدم المفاوضات هو واقع الطبقة السياسية الفلسطينية المهيمنة في علاقتها مع إسرائيل، وفي علاقتها مع شعبها، كذلك ففي حال تقدمت المفاوضات فإن علاقة إسرائيل بالسلطة الفلسطينية ستتغير لصالح منحها هامش سلطة اكبر.

وبالمعنى العام فإن الواقع لن يتغير كثيرا، إلا بمدى استعداد الدول الأوروبية والولايات المتحدة لتمرير مفاعيل المقاطعة وسحب الاستثمارات ومعاقبة إسرائيل، في حال تعثرت المفاوضات، لأنه من دون ذلك لن تتأثر اسرائيل بأي ضغط، لاسيما اننا نتحدث في واقع لا تستطيع فيه السلطة الفلسطينية ان تفعل شيئا، مع ارتهانها لخيار المفاوضات، والتنسيق الامني والاقتصادي مع اسرائيل، ومع اعتمادها على دعم الدول المانحة.

في هذا الوضع، أي عدم التقدم في المفاوضات، سيحصل السيناريو المعروف والمتمثل بذهاب إسرائيل نحو انتهاج مزيد من سياسات الفصل العنصري إزاء الفلسطينيين، مع منحهم مواطنة، او من دون ذلك، لأنها حصنت نفسها باعتبارها دولة يهودية، وباعتبار قوانين الأساس فيها انطلقت من هذا الاعتبار.

ولعل النص التالي الذي كتبه ايان لوستيك يرسم بشكل افضل التحولات التي يمكن ان تحصل في إسرائيل. يقول لوستيك: “الافتراضات الضرورية للحفاظ على شعار حل الدولتين أعمتنا عن سيناريوهات أخرى أكثر احتمالا..ما هو متبقي من السلطة الفلسطينية سيختفي. إسرائيل ستواجه التحدي القاسي وهو التحكم بالأنشطة السياسية والاقتصادية وأيضا كل الأراضي والموارد المائية بين نهر الأردن والبحر المتوسط. المسرح سيكون خاليا لاضطهاد عنيف وحشد جماهيري وأعمال شغب وعنف وإرهاب وهجرة عربية وإسرائيلية وارتفاع في الضغوطات واستنكار المجتمع الدولي لإسرائيل. ومواجهة بغضب متصاعد، الولايات المتحدة ستصبح غير قادرة على تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل. بمجرد أن ينتهي وهم الحل السائغ الجميل للصراع، القادة الإسرائيليين قد يبدؤون برؤية – كما القادة البيض في جنوب افريقيا رأوا في نهايات الثمانينيات- أن تصرفاتهم تخلق عزلة وهجرة ويأس. فكر جديد بإمكانه وقتها أن يبدأ عن موقع إسرائيل في منطقة متسارعة التغير..لعل الاعتراف العلني بالأخطاء الاسرائيلية وتحمل المسئولية عن معاناة الفلسطينيين قد يجعل الجانب العربي يتقبل ما هو أقل من العدالة الكاملة..مثل هذه الفكرة لا يمكن إثارتها طالما وهم مفاوضات حل الدولتين يحتكر كل الاهتمام..يمكن للفلسطينيين العلمانيين في إسرائيل والضفة الغربية في هذه البيئة الجديدة بشكل جذري, أن يتحالفوا مع جماعة ما بعد الصهيونية في تل أبيب ومهاجرين غير يهود ناطقين بالروسية وعمال أجانب ورواد أعمال إسرائيليين من القرية العالمية. قد يشترك اليهود المتطرفون المعادون للقومية في نفس القضية مع المسلمين التقليديين. بمعزل عن صهيونية الدولة في شرق أوسط سريع التغير، قد يجد الاسرائيليون من أصول عربية أسباباً جديدة تدفعهم للتفكير بأنفسهم كعرب وليس غربيين. قد يرى عدد كبير من اللاجئين العرب والمسلمين المضطهدين والذين يتم استغلالهم في غزة والضفة الغربية وفي اسرائيل نفسها، أن الديمقراطية وليس الاسلام هي الحل لترجمة ما هم عليه (أعداد) إلى ما يريدونه (حقوق و موارد). اليهود الاسرائيليين الملتزمين قبل كل شيء بالعيش في دولة اسرائيل العظمى، قد يفضلون التسوية القائمة على الكونفدرالية أو المعادلة الاقليمية أكثر من القومية الاسرائيلية المحدودة. ولا يزال ممكناً أن تظهر يوما ما دولتان حقيقيتان، لكن يجب التخلي عن حجة أن المفاوضات تحت شعار “دولتين لشعبين” قد تفضي إلى هذا الحل. فالوقت كفيل بعمل أشياء لا يستطيع فعلها السياسيون. فكما استقلت ايرلندا عن طريق الانفصال بعد 120 سنة من انضمامها للمملكة المتحدة، قد تكون الدولة الواحدة الطريق الى استقلال فلسطيني لاحقاً. لكن هذه النتائج تتطور تدريجيا وليس فجأة..صناعة السلام و بناء دولة ديمقراطية يتطلب دماء ومعجزات. ليس السؤال هو إذا ما كان المستقبل يحمل صراعا ينتظر إسرائيل و فلسطين, فهذا مؤكد. وليس السؤال ايضا اذا ما كان يمكن تجنب الصراع، فذلك غير ممكن. لكن لتجنب تغير كارثي حقيقي لابد من تخليص المنطقة المخنوقة من فكرة قديمة والسماح لكلا الطرفين أن يروا الواقع ويتكيّفوا معه كما هو”. (مصدر سبق ذكره)

 رابعا: البرنامج الوطني (إستراتيجية التحرر) والبرنامج السياسي

ـ لاشك ان العلاقة ينبغي ان تكون وثيقة، فليس من المعقول أن يكون المشروع الوطني يقوم على تحرير فلسطين، وتقويض المشروع الصهيوني، في حين يقول البرنامج الوطني على اقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، باعتبار ذلك هو المشروع الوطني كله، كما جرى في التناقض بين الميثاق الوطني ومقررات المجال الوطنية بعد الدورة 11 (1974). أيضا، ليس من المعقول ان يتوخى المشروع الوطني خيار الدولة الديمقراطية الواحدة، التي يتعايش فيها الفلسطينيون واليهود، بمساواة كمواطنين احرار، في حين ان البرنامج السياسي يتحدث عن اعتبار المقاومة المسلحة الشكل الوحيد للنضال، او انتهاج نمط العمليات التفجيرية، في المجمعات المدنية الإسرائيلية. وفي تجربتنا، في الانتفاضة الثانية، مثلا، انتهجت كتائب الأقصى التابعة لفتح، نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، بدل ان تركز على حصر المقاومة المسلحة ضد العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة والقطاع، كأنها كانت في ذلك تتماثل مع “حماس”، في إطار المنافسة معها، بدل أن تشد حماس إليها. وقد بدت فتح حينها في تناقض مع رؤيتها المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، بما يعنني ان ثمة فجوة حتى في برنامجها السياسي، بين رؤيتها السياسية وبين اشكال النضال التي تعتمدها.

القصد هنا أن المشروع الوطني هو الذي يحدد أشكال النضال المناسبة، فليس من المعقول ان تتبنى مشروع الدولة الواحدة، وان تخاطب الإسرائيليين لتحريرهم من العقيدة الصهيونية، ومن فكرة “الحرب الوجودية”، التي تروجها إسرائيل لطمس تناقضاتها الداخلية، وأن تساهم الحركة الوطنية الفلسطينية في تكريس هذه الفكرة عبر انتهاج نمط “العمليات التفجيرية”، فهذا ينم عن تناقض، ويضر بصدقية وعدالة الكفاح الفلسطيني، فضلا عن انه أفاد إسرائيل وغطى على بطشها بالفلسطينيين.

طبعاً، هذه ليست دعوة للانتهاء من المقاومة المسلحة، وإنما هي دعوة لوضع هذه المقاومة في إطارها الصحيح، ضمن منظومة المقاومة الشعبية، أي أن المقاومة المسلحة ينبغي ان تصدر عن حاجات الكفاح الفلسطيني، ووفق امكانياته الذاتية، وبحسب قدرة الفلسطينيين على التحمل، فضلا عن ان المقاومة المسلحة ليست عملا مزاجيا، بمعنى انها ينبغي ان تأتي وفق حسابات الجدوى، والكلفة والمردود، ناهيك انتقاء الاهداف، وتاريخ ومكان العمليات. وفي كل الأحوال، ينبغي ان لا يطغى العمل المسلح على المقاومة الشعبية، وان لا تكون بديلا عنها.

 خامسا: الحامل الوطني (المنظمة، السلطة، مكونات الحركة الوطنية)

ثمة نوع من اجماع بأن الأزمة الوطنية الفلسطينية، لها وجهين، الأول،  ويتمثل بضياع المشروع الوطني الفلسطيني، والثاني يتمثل بتآكل الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.

وفي الحقيقة فإن الحركة الوطنية الفلسطينية باتت جد متقادمة ومستهلكة، ببناها وخطاباتها وعلاقاتها وأشكال عملها، كما باتت فاقدة لأهليتها وطاقتها الكفاحية، بحيث لم يعد لديها ما تضيفه. وهذا ليس مجرد رأي، وإنما هو واقع تؤكده أحوال المنظمة والفصائل والمنظمات الشعبية، التي لم تعد هي ذاتها التي تعرّفنا عليها من الستينيات إلى الثمانينات، إذ أنها بعد قيام السلطة، باتت شيئاً أخر. وفوق ذلك، فقد اختفى الكفاح المسلح، الذي وسم الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعه، وغاب هدف التحرير، ولم تعد فلسطين المنشودة، عند معظم هذه الفصائل، هي ذاتها التي تعرفنا عليها في ادبياتها الأولية، كما في الخرائط ودروس التاريخ، وقصائد الشعراء وأغاني المغنين، إذ باتت تقتصر على الضفة وغزة، وحتى تعريف الفلسطينيين أضحى ملتبساً، بعد اخراج اللاجئين من المعادلات السياسية الفلسطينية، باقتصار المواطنة الفلسطينية على سكان الضفة والقطاع، وهو ليس أمراً شكلياً، ولا تفصيلاً ثانوياً.

وكما ذكرت، فإن تقرير الوضع على هذا النحو لايتأتّى من رغبة او مزاج ذاتيين، إذ أن الفصائل المعنية هي التي قطعت مع تراثها وتجربتها وشعاراتها بتحولها من حركة تحرر إلى سلطة، في جزء من الأرض لجزء من الشعب، في ظل الاحتلال، وفي إطار من اتفاقات التنسيق الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، والاعتمادية على الخارج في الموارد المالية، بدلا من الاعتماد على الشعب.

ولا ننس ان هذه الفصائل لم تعد تمارس الكفاح المسلح، لا في الضفة ولا على حدود غزة، ولا حتى المقاومة الشعبية، وأغلبها لم يعد يعنيه شعار التحرير إلا لأغراض الاستهلاك. وفي المحصلة فإن أغلب هذه الفصائل لم يعد لها دور في مواجهة عدوها، ولا مكانة تمثيلية عند شعبها (بدلالة نتائج انتخابات المجلس التشريعي 2006)، ولا هوية سياسية او فكرية تميزها عن بعضها، والأنكى أنها هي ذاتها لم تعد قادرة على التطور، بسبب عدم تجديدها لشبابها، بحكم ضعف الحراك السياسي والعلاقات الديمقراطية داخلها.

ويتضح من ذلك أن النظام الفصائلي، والقائم على المحاصصة الفصائلية، هو الذي يؤبّد النظام السياسي الفلسطيني القديم، ويعوق تطوره، وهو الذي يحرس الطبقة السياسية المسيطرة في كل الفصائل، من خلال منحها حصتها في التمثل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وفي موارد المنظمة المالية، بغض النظر عن دورها وعن مكانتها التمثيلية عند شعبها.

هذا يعني أن ثمة شبكة من القياديين والمتنفّذين في كل هذه الكيانات باتت بمثابة طبقة سياسية قائمة في ذاتها ولذاتها، وأضحت من الرسوخ بحيث تستطيع فرض مفاهيمها وعلاقاتها وأشكال عملها على الحقل السياسي بمجمله، أي على المنظمة والسلطة والفصائل، وأصبحت من القدرة بحيث تستطيع إعادة إنتاج نفسها بنفسها، ضمن منظومة من علاقات ووسائط السيطرة السياسية والمالية والأمنية وبفضل ما تحوزه من فائض قوّة تستمدّه من علاقاتها الإقليمية.

وبديهي ان هذا كله يجعل من هذه الطبقة المهيمنة، والتي تقف وراء هذا المشروع، حريصة على استمراره، بل وإعادة انتاجه، من موقعها في السلطة، وبأي ثمن، للحفاظ على مكانتها القيادية وعلى امتيازاتها، الأمر الذي يجعلها عبئا على شعب فلسطين، وقيدا على اية محاولة لتطوير العمل الفلسطيني، وعقبة كأداء امام اية محاولة لتوليد خيارات وطنية بديلة أو حتى موازية.

طبعاً ثمة عوامل تسهّل لهذه «الطبقة»، التي باتت بمثابة «جيش»، تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين، والسيطرة على حراكاتهم الشعبية. وهذه تكمن في: أولاً، تمزّق المجتمع الفلسطيني، الذي يتوزّع على بلدان عديدة، ويخضع لسلطات وظروف متباينة، ما يضعف الحراكات المجتمعية ويشتّت قوّتها وفاعليتها. ثانياً، عدم اعتماد الكيانات السائدة على موارد شعبها، بقدر ما أن قطاعات من شعبها تعتمد في مواردها عليها (لا سيما في الأراضي المحتلة وإلى حدّ أقل في مخيمات لبنان). وبديهي أن الارتهان المعيشي ينجم عنه نوع من ارتهان سياسي. ثالثاً، لم تعد الشرعية السياسية الفلسطينية، منذ زمن، تتحدّد بعلاقات الإقناع، وبالدور الوطني، وبصناديق الاقتراع، بقدر ما باتت تخضع لوسائط السيطرة المباشرة عبر الأجهزة الأمنية، والتحكّم بمورد العيش، والنفوذ السياسي. رابعاً، غلبة الروح الأبوية، وعلاقات المحسوبية والزبائنية في الكيانات السياسية بمجملها، على حساب الطابع المؤسّساتي والعلاقات الديمقراطية والروح النقدية. خامساً، تستمد الطبقة السائدة بعضاً من شرعيتها من ماضيها النضالي، بسبب انتمائها إلى جيل الآباء المؤسّسين للثورة، لا سيما في ظل سيادة نزعة عاطفية بين الفلسطينيين تقدّس التضحيات من دون السؤال عن الانجازات أو حسابات الجدوى.

وقد يجدر التذكير هنا، أيضاً، أن هذه «الطبقة»، التي تشكّل في حدّ ذاتها جسماً وازناً في الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، لديها عشرات الألوف من المتفرّغين في الأجهزة السياسية والأمنية والخدمية التابعة لفصائلها، كما يدخل في حسبان مصادر قوّتها موظفو السلطة، من العاملين في السلكين المدني والأمني، والذين يناهز عددهم حوالى 160 ألفاً، ثلثهم وربما أكثر في الأجهزة الأمنية، ما يفيد بأن ثلث الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة والقطاع إنما يعتمدون في دخلهم على الموارد المتأتّية من عملهم في السلطة والفصائل.

عن هذا الوضع يقول الخبير السياسي والأمني الستر كروك: “يعدّ العمل الأمني ضد “المتمردين” مجرد عنصر صغير في مجمل عناصر العقيدة الأمريكية المتعلقة بالانتفاضة المضادة..ومبادئها تتضمن بناء نخبة حاكمة لتعمل وفق خطة أمريكية وتأسيس خدمات أمنية مسؤولة فقط أمام هذه النخبة، وتركيز السيطرة الاقتصادية في أيدي هذه النخبة لإضفاء اعتماد مادي (وسكون) لدى الناس وسياسة مساعدات كريمة تضمن “تسرب الشرعية” إلى تلك النخبة. والفكرة المتكررة في هذه العقيدة من الفلبين إلى فيتنام كانت نشر الخضوع، وفي السياق الفلسطيني فإن مكونات هذه العقيدة استخدمت لتوفير التعاون الفاعل والوطيد مع “إسرائيل” وتفكيك المقاومة الفلسطينية…وجوهرها نظرياً هو التبادل القائم على زيادة النزعة الاستهلاكية، التي يتم توصيلها عبر الليبرالية الجديدة مقابل الهدوء غير السياسي…ربما ضمن هذا التأطير الخاطئ “للدولة” فإن الطبقة الوسطى الفلسطينية الجديدة قد تعيش براحة أكثر، وربما سيكون هناك حرص على إخفاء الأدوات الظاهرة للاحتلال والتحكم بالحياة الفلسطينية ولكن مثل هذه “الدولة” لن تكون دولة استقلال وسيادة بل ستكون احتلالاً…من المستبعد أن تقوم الدولة الفلسطينية من خلال التفاوض بغياب قوة مساومة بأيدي الفلسطينيين، لأن إنشاء دولة شرعية ذات سيادة يتطلب من الفلسطينيين أن يجبروا “إسرائيل” على إعطاء شيء ليس من مصلحتها إعطاؤه وهو التخلي عن الصهيونية. وبالتالي، فإنه المناسب أكثر بالنسبة لـ”إسرائيل” أن يكون لديها “دولة” بدون حدود بحيث يمكنهم الاستمرار في التفاوض على الحدود والاعتماد على نشر الشك لإبقاء الخضوع. (تصور دولتين: تسهيل الدولة الواحدة الإقصائية.. مركز الزيتونة1/4/2011 http://www.alzaytouna.net/permalink/4851.html)

هذا يفيد بأن الزمن الفصائلي انتهى، بما له وما عليه، ليس لأن أحداً ما قرّر أن يقول ذلك، وإنما لأن معظم الفصائل لم يعد لها وجود، لا في ميدان الصراع ضد عدوها، ولا عند شعبها، ناهيك عن تقادمها واستهلاكها. فمن الواضح أن القيادة الفلسطينية، والطبقة السياسية التي تقف خلفها، وصلا إلى نهاية طريقهما، ولم يعد في جعبتهما ما يقدمانه، على صعيد تجديد المشروع الوطني الفلسطيني، برؤاه وبناه وأشكال عمله.

ويستنتج من ذلك أن الفلسطينيين وهم يبحثون عن مشروعهم الوطني معنيون أيضا بإعادة صياغة بناهم الوطنية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية، كي تتناسب مع هذا المشروع، وكي تكون قادرة على حمله.

وربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى الغياب الملحوظ للبرجوازية الفلسطينية التي يبدو أنها استقالت من لعب أي دور، منذ هيمنت فصائل المقاومة على الحقل السياسي الفلسطيني. هكذا، حتى الآن، لا توجد جريدة فلسطينية مستقلة، ولا محطة إذاعة، ولا قناة تلفزيونية، ولا جامعة، ولا مركز أبحاث، علماً أن ثمة رجال أعمال فلسطينيين كثر يملكون الإمكانيات ولا يعوزهم الخيال ولا الوطنية لتقديم بعض إمكاناتهم في سبيل استنهاض أحوال شعبهم. ومع تفهم صعوبة بروز دور مستقل لها، لأسباب ذاتية وموضوعية، بخاصة أنها لا تشتغل في إقليم خاص، أو في إطار تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة، فإنها معنية بمراجعة دورها، وبلورة حالات معينة تشتغل في العمل العام أو لمصلحته.

 سادسا: أشكال وأساليب النضال

بديهي أن الأساس في أية مقاومة، ان تكون مقاومة الشعب بكل فئاته، بحيث تعبر عنه، وتصدر بما يتناسب مع إمكانياته الخاصة، ومع ظروفه، وأن تراعي قدرته على التحمل، وأن يكون جدواها على مجتمع العدو، أو جيش العدو، اكبر من أثرها على المجتمع المقاوم. وعليه، فإن مختلف أشكال النضال مشروعة، على أن تتناسب، أيضا، مع المشروع الوطني، مع التأكيد أن بعض المراحل قد تشهد تصعيدا في هذا الشكل او ذاك، بحسب الظروف والإمكانيات وحسابات الجدوى، كما أن بعض الأشكال قد تكون مناسبة في مكان ما وغير مناسبة في مكان أخر.

وبحسب هذه القواعد ليس ثمة تعارض بين المقاومة الشعبية والسلمية والمقاومة المسلحة، ولا بينها وبين المقاومة المتمثلة بحملات نزع الشرعية عن إسرائيل، والمقاطعة السياسية والاقتصادية والأكاديمية لدولة الاحتلال، والمؤسسات المنبثقة عنها، والمهم ان تخدم جميعها المشروع الوطني، وأن تسهم في هزيمة المشروع الصهيوني.

الآن، بفرض تقدم المفاوضات، وحتى بفرض قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، فإن هذا الأمر لا يعني انتفاء مشروعية مواصلة النضال من أجل نزع الشرعية عن إسرائيل، وعزلها ومقاطعتها، باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية، وباعتبارها مسؤولة عن مأساة اللاجئين، على خلاف ما تتصرف القيادة الفلسطينية اليوم، التي تقدم نفسها باعتبارها جسرا لتطبيع علاقات اسرائيل مع الدول العربية والإسلامية في حال قام الدولة الفلسطينية، كأن قيام هذه الدولة ينهي القضية (كما جاء في خطاب الرئيس امام الطلبة الإسرائيليين في رام الله في فبراير).

في هذا الإطار، من المفيد ان تدرك الحركة الوطنية الفلسطينية، أن ثمة إسرائيليين كإبراهام بورغ وعميرة هس وجدعون ليفي وأيلا شوحط وإيلان بابي يعتبرون دولتهم عنصرية إزاء الفلسطينيين، لاسيما أن إسرائيل تميّز حتى ضد يهود من الشرقيين، والأفارقة، كما ثمة اسرائيليين يكافحون ضد اعتبار اسرائيل دولة دينية، ويهودية، وهذين أي الكفاح ضد العنصرية وضد اسرائيل كدولة دينية، هما مجالين للعمل المشترك مع قطاعات من اليهود، يفترض الاستثمار فيها.

على أية حال، من الواضح أنه لم يعد  ممكناً الحديث عن مقاومة مسلحة، لا في الضفة ولا في القطاع، لا بعمليات تفجيرية ولا بقذائف صاروخية، ولا حتى بعمليات مقاومة مسلحة ضد المستوطنين والعسكريين، لا من قبل «فتح» ولا من قبل «حماس»، وذلك بسبب ضعف الإمكانيات الذاتية، واختفاء الظروف المحيطة (العربية) التي كانت تسمح بذلك، وأيضا بسبب الدروس المستنبطة من التجربة السابقة.

اللافت أن هذه النقلات، والتحولات، لم تحظ باهتمام، أو تفسير، أو تنظير في معظم الأدبيات الصادرة عن الفصائل، بل على العكس ثمة فصائل لا تمارس المقاومة المسلحة منذ عقود، بسبب ضعف إمكاناتها (البشرية والمادية)، ومع ذلك، فإنها تصرّ على التمسك بالكفاح المسلح و «البندقية الفلسطينية»، من دون توضيح كيف تترجم ذلك عملياً.

بناء على ذلك فإن المرحلة المقبلة، التي تفترض استنهاض الشعب الفلسطيني، وفقا لظروفه وإمكانياته الخاصة، قد تشهد توسعا في أشكال المقاومة الشعبية، ضد الأنشطة الاستيطانية وسياسية التمييز الإسرائيلية، بالتوازي مع تعزيز حملات نزع الشرعية عن اسرائيل ومقاطعتها وفرض العقوبات عليها، باعتبارها الأشكال المتاحة في هذه الظروف، من دون استبعاد لعمليات المقاومة المسلحة.

ولنتأمل الوضع الحاصل، فإسرائيل تخسر محيطها والعالم بات مختلفاً بالنسبة لها، لذا فهي التي يجب أن تخاف من المتغيرات الجارية، والتي يجب أن تخشى من كسر الفلسطينيين للقواعد التي تم العمل عليها طوال العقود الماضية، وهي التي ينبغي أن تقلق من تحولها الى ظاهرة رجعية في المنطقة بنظر العالم.

(في الأصل ورقة قدمت إلى مؤتمر مركز مسارات في 2014)

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *