

من هو الفلسطيني حقاً؟ هل هو الفدائي المنذور للشهادة أو الموت أو السجن؟ أم هو الذي يشتغل في إسرائيل والمهموم بلقمة عيشه وعيش أسرته؟ أم هو رجل الأمن لدى السلطة في الضفة وغزة؟ أم هو الشاب الذي يدرس في جامعة بيرزيت أو النجاح أو في الجامعة العبرية أو التخنيون (في إسرائيل) أو في جامعات أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية؟ أيضاً، هل هو اللاجئ المشرد الذي يعيش في المخيمات المزرية، طوال 74 عاماً على اللجوء، داخل الأرض المحتلة وخارجها؟ أم هو الفلسطيني الذي يعيش كمواطن في هذه الدولة أو تلك (عربية أو اجنبية)، وكل هاجسه الاهتمام بتحسين مستوى عيشه وارتقاء مكانته؟
القصد أن كل صورة من تلك الصور تحاول اختزال الفلسطيني، فالفصائل تقدم صورة الفدائي فقط، وتتبجح بها، لتبرير وجودها، وتغطية قصورها وأفول دورها ومكانتها، وضمن ذلك حجب حقيقة افتقادها استراتيجية كفاحية يمكن المراكمة والبناء عليها، بمعنى استراتيجية تستنزف العدو وتوجعه، بدل أن تستنزف وتوجع وتضعف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، على نحو ما شهدنا في حفلة التصفيق الفصائلية لشباب فلسطينيين، قرروا أخذ زمام المبادرة، في عمليات فدائية باتت الأراضي الفلسطينية المحتلة تشهدها بين فترة وأخرى.
لكن تلك الصورة، على أهميتها، وكردة فعل طبيعية ومشروعة على الاحتلال، وظلمه وامتهانه كرامة الفلسطينيين، هي ردة فعل على الفراغ السياسي، وخواء الفصائل، لكنها لا تحجب الصور الأخرى، فثمة أكثر من مئة ضحية من الشباب، من فلسطينيي غزة فقط، ابتلعتهم مياه البحر، بين تركيا واليونان، وهم ينشدون حياة خارج غزة “المقاومة”، للتحرر من الفقر والبؤس وانعدام الأمل والتسلط، فيها، في وضع حُمّل فيه مليونا فلسطيني في غزة، يقبعون تحت حصار مشدد منذ 15 عاماً، عبء تحرير فلسطين، أو عبء مقاومة إسرائيل، بالصواريخ، التي ترعب الإسرائيليين، فقط، لكنها تستدرج ردات فعل مدمرة لعيش فلسطينيي غزة؟
الفكرة أن هؤلاء الشباب الضحايا فلسطينيون أيضاً، ولا يقلون وطنية عن غيرهم، وربما كثر منهم كان له شأن في الانتفاضة الثانية. ويمكن أن نزيد عليهم صور الشهداء الذين قتلوا بالرصاص الإسرائيلي بدم بارد على الحدود مع غزة (حوالى 330 شهيداً)، فيما عرف بمسيرات “العودة” (بدأت في آذار (مارس) 2018 لثلاثة أعوام تقريباً كل يوم جمعة)، كضحايا لعملية نضالية مفترضة، لا أحد يعرف ما الذي تم إنجازه بها، ولا أحد يعرف كيف توقفت!
ضمن تلك الصور، أيضاً، ثمة صورة أكثر من مئتي ألف من الشباب الفلسطينيين يعملون في إسرائيل، منهم حوالى 20 ألفاً من شباب غزة، وكلنا يتذكر الصورة المأساوية التي بدا فيها ألوف الشباب المتجمعين أمام مكاتب التسجيل في غزة للعمل في إسرائيل؟ ثم ماذا عن رجال الأمن “للسلطتين” مع الهراوات، لفض التظاهرات في الضفة وغزة، وتعزيز أمن السلطة القائمة، وضمنه الحفاظ على أمن إسرائيل (في الضفة وفقاً لاعتبارات التنسيق الأمني)؟
هذه الأسئلة، الموجعة، والمحزنة، هي الأكثر التصاقاً بالوضع الجمعي المأساوي للفلسطينيين، في نكباتهم المتجددة، لذا هي مشروعة، وضرورية، ويفترض التمعن بتلك الصور لمعرفة حقيقة الوضع بتعقيداته، وصعوباته، لا سيما أنها مكشوفة، ويراها العالم كلّه، إلا الفصائل التي لم يعد لديها ما تقدمه، أو تنجزه، على أي صعيد، سوى الحفاظ على وجودها وامتيازاتها، وادعاءاتها، وضمنه إضفاء قداسة على الكفاح المسلح، على حساب اشكال النضال الشعبية الأخرى، وعلى حساب سلامة المجتمع الفلسطيني.
ومعلوم أن تلك الفصائل باتت عاجزة عن أي جهد جدي، باستثناء التصفيق لمبادرات شاب هنا، ومجموعة هناك، ودعوة الشعب إلى النفير، وإصدار البيانات، وترديد شعارات من نوع “سنزلزل الأرض تحت أقدامهم”، وسنلقنهم درساً لن ينسوه، على رغم أن كل الديباجات التي روجت لها، من نوع فرض “قواعد اشتباك” معينة على إسرائيل، و”توازن الرعب”، و”وحدة الساحات”، تبينت عن مجرد ادعاءات، ولم تثبت ولا مرة، لا مع قيام المستوطنين الإسرائيليين بتدنيس المقدسات الإسلامية في القدس، ولا مع قيام الجيش الإسرائيلي بشن هجمات وحشية على الفلسطينيين في أي منطقة، لا سيما في غزة وجنين ونابلس، كما شهدنا.
القصد أن الحديث عن الفلسطيني المتخيل، أو المنمط، أو المفترض، في صورة متعينة، أو في إطار محدد، ومرسوم مسبقاً، لم يعد يكفي، ولا يطابق الواقع، خصوصاً مع تغييب، أو حجب، الفلسطيني الواقعي، الذي يولد، ويحيا، ويموت. ففي الحقيقة لا توجد صورة نمطية للفلسطينيين، وهذا لا علاقة له بالتفاوت الطبقي، أو بمستوى العيش، أو التعليم، أو اختلاف المهنة، أو الثقافة، أو النفسية، أو مكان الإقامة، فتلك أمور عادية ومن طبيعة الحياة.
مشكلة الفلسطينيين أن الفصائل تتعاطى مع هويتهم الوطنية كأنها معطى أبدياً، ومطلقاً، وأنها لا تدرك أن الهوية يمكن أن تضعف وأن تتفكك، وأن وظيفة القوى السياسية هي تعزيز الهوية الجمعية، وتوطيد أسسها، خصوصاً إذا كان الشعب يتعرض لتهديد يستهدف وجوده.
واضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بكل كياناتها (المنظمة والسلطة والفصائل) لا تقوم بما عليها من أجل حماية الهوية الوطنية الفلسطينية، وتطويرها، عبر تطوير كياناتها، وتعزيز مؤسساتها، وعلاقاته الداخلية، وفق معايير وطنية ومؤسسية وتمثيلية وديموقراطية،خصوصاً مع افتقاد الفلسطينيين لرؤية وطنية جامعة، بعد الانزياح من الرواية المؤسسة على النكبة (1948)، والقائمة على التطابق بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، لصالح رواية تتأسس على إنهاء الاحتلال (1967) وإقامة دولة فلسطينية لجزء من شعب في جزء من أرض، وهذا يختلف عن فكرة إقامة سلام متكافئ، لأن ذلك يتطلب توافر عنصري الحقيقة والعدالة، وهذا ما ترفضه إسرائيل جملة وتفصيلاً، بدليل تأكيد ذاتها كدولة يهودية، وإصرارها على مصارعة الفلسطينيين، على كل فلسطين، أي حتى في الضفة الغربية.
أيضاً، المشكلة الأخرى تتمثل بعجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن ابتداع استراتيجية كفاحية ملائمة وممكنة في ظروف الفلسطينيين الخاصة، وتقديسها الكفاح المسلح، والتعامل معه كشكل وحيد، خارج المساءلة والمراجعة والنقد، مع أنها تفتقد إمكاناته، ورغم أنه المربع الذي تتفوق فيه إسرائيل، ويتيح لها التوحش ضد الفلسطينيين، لتدمير مقومات عيشهم.
وهكذا بدلاً من الكفاح وفقاً لشكل الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ 1993) تم أخذ الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004) نحو مواجهات مسلحة غير محسوبة، ما أطلق يد الجيش الإسرائيلي، بدل تحييده ما أمكن، وبدلاً من الانتفاضة الشعبية في الدفاع عن حي الشيخ جراح (2021)، التي عمت فلسطين التاريخية بأكملها ووحدت الشعب بأكمله، وأدخلت فلسطينيي 48 في قلب المعادلة الوطنية الفلسطينية، تم الذهاب إلى حرب صاروخية فصائلية لم توصل إلى شيء، لا إلى قواعد اشتباك ولا إلى توازن رعب ولا إلى وحدة ساحات.
على ذلك فإن المسؤولية، الأخلاقية والكفاحية والسياسية، إزاء هؤلاء الشباب، مثل رعد حازم وإبراهيم النابلسي وعدي التميمي ووديع الحوح، الذين صنعوا أسطورتهم، ومع التقدير لروح الحرية والصمود والتضحية عندهم، تقتضي تأكيد أن بطولاتهم الفردية ليست بديلاً للكفاح الجمعي للشعب الفلسطيني، بل هي نتاج الفراغ الكفاحي، بعد أن باتت الفصائل عاجزة أو فاقدة للأهلية النضالية، كما هي نتاج افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية لاستراتيجية كفاحية ملائمة، وفاعلة، ومستدامة، تمكنهم من مراكمة تضحياتهم وبطولاتهم، واستثمارها في إنجازات سياسية معينة.
عن النهار العربي