في إشكالية البيان والتخوين
لا مكان لنسب أي مس بالموقف من اليهود الى حركة التحرر الوطني الفلسطيني في كل تاريخها. ولم تكفّ هذه الحركة يوما عن التمييز بالموقف ما بين اليهود وبين الصهيونية واسرائيل وذلك ضمن مناهضة المفهوم الصهيوني ورواية التبرير الاستعمارية في فلسطين. هذا الموقف متأصّل وثقافة شعب حصريا في مراحل النهضة الفلسطينية، لدرجة انضمت شخصيات يهودية اسرائيلية وغير اسرائيلية الى حركة التحرر الفلسطيني ودفعت الثمن اسرائيليا.
وإذ أن الحديث عن تصريحات الرئيس محمود عباس امام المجلس الثوري لحركة فتح، فهو جدير بالنقاش والحوار والاختلاف فلسطينيا، وكنت اتمنى لو تخلت القيادة الفلسطينية عن الخوض في موضوع تأريخ المحرقة النازية، والابتعاد عن تحليلات مسبباتها وحيثياتها، باستثناء أمرين وهما انه لم يصدر اي صوت فلسطيني يحمّل يهود اوروبا المسؤولية عن الابادة والكارثة التي حلت بهم وبغيرهم وكلام الرئيس عباس بعيد كل البعد ولا مكان لوصفه باللاسامية او التحريض على ابادة اليهود كما ادعت اوروبا الرسمية وهي تنصّب نفسها راعية الاخلاق العالمية بينما اللاسامية هي منتوج اوروبي مائة بالمائة وكل الاستعمار العالمي هو كذلك. وثانيا مواجهة الرواية الصهيونية التي تبرر احتلال فلسطين والنكبة بكل تجلياتها واقامة اسرائيل باسم ضحايا النازية من اليهود، وبهذا المفهوم اعتبر الفلسطينيون انفسهم وفي خطابهم التاريخي بأنهم ضحايا ضحايا النازية الذين تحدثت باسمهم الحركة الصهيونية ومارست ممارساتها باسمهم، ليتواطأ العالم الغربي مع هذه المفاهيم ويساندها. إن دور القيادة السياسية هو القيادة، وبلورة المشروع السياسي التحرري ومستجداته واساساً صنع الأفق الواعد وبرّ الامان والحرية والكرامة للشعب.
ثم أن الرواية الفلسطينية الاهم هي الحالة الفلسطينية بحد ذاتها، هي النكبة المتواصلة وهي حوارة والشيخ جراح واجتياح مخيم جنين وهبّة الكرامة وتطهير النقب من أهله ومشاريع الضم والاستيطان الاستعماريين والأسرى وكل تجليات القهر ويبقى أولها اللاجئون الفلسطينيون. ولسنا بالضرورة بحاجة الى اعتماد المقارنات ولا المقاربات لا مع اللاسامية ولا النازية ولا مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا الابرتهاد. فلا شيء من هذا يزيد من شرعية قضية فلسطين ولا من عدالتها ولا من الترويج لها. تحتاج الحركة الصهيوينة بكل تياراتها التبرير التوراتي واللا-سامي ومعادة العالم لليهود والعداء للعرب وللاسلام والى لعب دور الضحية كي تبرر ممارساتها في فلسطين حتى ولو استدعى الامر ان تمثل دور ضحية ضحاياها.
مسألة الدخول في إعادة تفسير التاريخ لا تميز فقط الحالة الفلسطينية بل يستخدمها المستعمرون، وفي هذا الصدد جدير التذكير بتصريحات نتنياهو في 20/10/2015 حين صرّح بأن “هتلر لم ينوٍ ابادة اليهود وانما طردهم” و “إن الحاج أمين الحسيني هو “من زرع الفكرة [الابادة] في راس هتلر”، وذلك كي يحيل تهمة الدفع لابادة اليهود على الحاج أمين الحسيني والموقف الفلسطيني سعيا لشيطنة الفلسطينيين وتشبيههم بالنازيين، بينما لاقى التصريح احتجاجات وانتقادات شاملة سياساً واكاديميا وتاريخيا ومن المنظمات المعنية بتخليد ضحايا النازية، واعتبروا ان نتنياهو سعى الى تبرير النازية وتقديم المساعدة الى منكري المحرقة الهولكوست. وهي اتهامات للفلسطينيين دحضها ايضا داني روبينشتاين في كتابه عن عبد القادر الحسيني “إما نحن أو هم”.
كان لافتا لكن غير مفاجئ الموقف الامريكي والاوروبي الرسمي المتواطيء مع دولة الاحتلال ومع الصهيوينة، وهو ادانته لتصريحات الرئيس الفلسطيني واعتبارها لا – سامية بالمستوى “الاخلاقي” الاوروبي، وباعتبارها “تعوّق حل الدولتين”، ليتواصل ذلك مع حملة منظمة لشيطنة المواقف الفلسطينية وعدالة قضية فلسطين وتحميل ضحايا الاحتلال مسؤولية “غياب حل الدولتين”، وللتذكير فقط فإن اللا-سامية كما الصهيونية هما حركتان عنصريتان اوروبيتا المنشأ الاستعماري. الخطاب الفلسطيني المأمول هو الثوابت الفلسطينية كما هي، بما فيه تحميل اوروبا والنظام الدولي مسؤولية مأساة فلسطين السياسية والاخلاقية والقانونية، والذين لم يقوموا بأية خطوة فعلية حتى تجاه مواجهة الحكومة الصهيو-دينية الفاشية الحالية او لتوفير العدالة لفلسطين، ثم يلبسون عباءة الواعظ لترسيخ نفاقهم وتحويله الى ثقافة تفوّق لصالح الصهيونية.
عن بيان الاكاديميين:
صدر هذا الاسبوع بيان الاكاديميين والمثقفين والفنانين الفلسطينيين المثير للجدل، وقد وقعته شخصيات مرموقة اكاديميا وثقافيا ووطنيا، وشخصيا العديد منهم اصدقاء وصديقات مقرّبين. يمكن تلخيص جوهر البيان بأنه اعلان براءة من اقوال محمود عباس واعلان براءة من الشخص واعتباره لا يمثّل وفاقد للشرعية، واعتبار تصريحاته لا- سامية، واعتبار السلطة الفلسطينية سلطة قمعية داخلياً. وجاء ايضا “ندين بشكل لا لبس فيه التصريحات المستهجنة أخلاقيا وسياسيا التي أدلى بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حول المحرقة”.
ان فتح النقاش فلسطينيا بشأن مسائل مثل المحرقة النازية والمسألة اليهودية تاريخيا هو شأن مهم على مستوى النخب الاكاديمية والثقافية اذا كان الغرض منه تفكيرا رؤيويا او اخلاقيا، كما جرى في “وثائق التصور المستقبلي” في العقد الاول من القرن الحالي وحصريا في “وثيقة حيفا” كتعبير عن موقف اخلاقي، او كما جرى في “المؤتمر الدولي ضد العنصرية” (مؤتمر ديربان 2001) كتعبير عن موقف سياسي واخلاقي في اعتبار الفلسطينيين ضحايا ضحايا النازية، والتأكيد على اعتبار اللا- سامية حركة اوروبية المنشأ والممارسة عنصرية استعمارية، واعتبار الموقف من جرائم النازية ومن المحرقة موقفا اخلاقيا انسانيا أولا، بالاضافة الى رفض متاجرة اسرائيل باللاسامية وبجرائم النازية لتبرير جرائمها ضد الشعب الفلسطيني ولتبرير النكبة واتخاذ قرار يرفض اعتبار ادانة اسرائيل وسياساتها والصهيونية جرائم عنصرية او ضمن اللا – سامية، بالاضافة الى شعار “الصهيونية عنصرية واسرائيل ابرتهايد” الذي أجمع المؤتمر غير الحكومي حوله.
لم يسع بيان الاكاديميين والمثقفين الى مخاطبة الراي العام الفلسطيني بل صدر باللغة الانجليزية وهذا بحد ذاته موقف، مع العلم بأنه كان بالامكان ان يصدر بالعربية ومن يريد ترجمته من وسائل الاعلام فليفعل. وهي نقطة ضعف كبيرة لان قيمة البيان ان اراد التأثير فلسطينيا كانت ممكنة في حال توجه للفلسطينيين بلغتهم العربية وبلهجة حوارية لا إلغائية، وعندها كان سيكسب اكثر شرعية ضمن التعددية والاختلافات، ومن باب الغيرة على الخطاب الفلسطيني، والقيمة الاضافية التي كان بالامكان للبيان ان يحملها هي في مخاطبة الفلسطينيين وليس التوجه الى العالم لتبيان التمايز عن موقف محمود عباس، وبلغة تنعم لأذن العالم الغربي دون اتهامه بأنه ليس اخلاقيا مثلا، وبانه لا يحظى بأية مصداقية اخلاقية كي يعظ للفلسطينيين ما هو المتاح وما هو غير المتاح لهم اخلاقيا، ولم يتصدى البيان لحملة التحريض الدولية الرسمية التي شيطنت الموقف الفلسطيني.
بتقديري فقد أخفق البيان في مخاطبة الشعب الفلسطيني وفي حماية روايته دوليا ولم يحقق اي انجاز امام حركات المناصرة العالمية التي يحركها النضال الفلسطيني وعدالة قضية فلسطين. وفي المقابل فإن التخوين وخطاب العار ليس في مكانه فمعظم الموقعين ذوي مصداقية كلّ في مجاله وكلهم في انتمائهم والتزامهم الوطني، ومهما كان الاختلاف فان لغة التخوين كما التكفير ونزع الشرعية كما كل صيغ الالغاء هي معايير تدميرية خطيرة للشعب وتشتته اكثر مما هو مشتّت.
يكفي شعب فلسطين الانقسام الاليم الذي تبني عليه اسرائيل استراتيجياتها، ولا حاجة الى انقسامات وطنية اخرى. ليكن المسعى هو اللحمة الفلسطيينة المبنية على ثقافة الحوار الوطني والانساني، ودور المثقفين الاهم في نهاية المطاف هو في مخاطبة شعبهم والمؤسسات والقيادات وفي التأثير والرقي بالمجتمع والقضية ولا يكفي النقد بحد ذاته، كما لا يستطيع اي شعب الاستغناء عن دورهم.
بالامكان تحويل هذا الاشكال الى فرصة لو تحول الى حوار حقيقي حول كيفية تطوير الخطاب الفلسطيني وعدالة القضية ومعاناة الشعب. وهذا مفيد فلسطينيا اكثر من اي بيان.