في أربعين ربحي الشويكي: الأديب المناضل الذي تشبّث حتى الرمق الأخير بقدسه وبحق شعبه في الحرية
قبل أسابيع قليلة، رحل بهدوءٍ وصمت، كما عاش، أحد أبناء القدس الأوفياء وأحد رموزها الثقافية والصحافية، المناضل ربحي الشويكي. وكان الراحل، إبن حي الثوري المتاخم لقلب القدس التاريخية، طوال حياته، متشبثاً بوجوده ووجود أهله وشعبه في المدينة المحتلة، التي تتعرّض منذ احتلال العام 1967 لمحاولة تغيير هويتها وتغييب سكانها العرب الفلسطينيين، الذين عاشوا فيها جيلاً بعد جيل، لقرونٍ طويلة، وحتى لآلاف السنين. فقد أظهر العديد من المؤرّخين الجادين، بمن فيهم مؤرّخون يهود، ويهود إسرائيليون كذلك، بأن جذور السكان العرب الفلسطينيين أبعد حتى من تاريخ ظهور كافة الأديان التوحيدية في هذه المنطقة.
ربحي الشويكي لم يكن من أصحاب الصوت العالي أو من الذين سعَوا الى تصدّر المشهد والواجهات الإعلامية. فإيمانه بحقه وحق شعبه في القدس وفي فلسطين كان إيماناً داخلياً قوياً وعميقاً. وهذا الإيمان هو الذي جعله يبقى حتى النفس الأخير يعمل في الدفاع المستميت عن هذا الحق، بدون هوادة وبدون مساومة أو كلل، ولكن بهدوءٍ وصمت، عبر الإنتاج الثقافي والأدبي والكتابة الصحافية، كما والعمل التضامني مع كل المستهدَفين بأعمال التعسف الإسرائيلية في القدس، كما في كل فلسطين.
وهو نفسه كان مستهدفاً، ومنزله المتواضع والمكتظ في حي الثوري الشعبي كاد يتعرّض، كما العديد من المنازل في هذا الحي، وفي سلوان والشيخ جراح وفي أحياء القدس الشرقية المحتلة الأخرى وضواحيها، للهدم، نظراً لرفض سلطات الإحتلال لأي توسّعٍ في البناء لتلبية احتياجات النمو السكاني في حيٍ يصعب التوسّع الأفقي فيه، كما هو الحال في العديد من الأحياء الشعبية في القدس. ولكن السكان يتزايدون، ويحتاجون بالتالي الى إسكاناتٍ أرحب وغرفٍ أكثر، وهو ما لا تريد سلطات الإحتلال السماح به، لهدفٍ خبيث ولكنه مكشوف، وهو دفع سكان المدينة العرب الفلسطينيين الى الهجرة خارجها، سعياً لمزيدٍ من تغيير تركيبتها الديمغرافية لصالح المستوطنين اليهود الطارئين.
وفي حين تواصل سلطات الإحتلال اليوم سعيها للسيطرة على منازل المواطنين الفلسطينيين في أحياء القدس القديمة (داخل الأسوار) وفي محيطها المباشر، والمحيط الأبعد، بحجة الملكية القديمة لمواطنين يهود أو بغيرها من الحجج، لا تقبل بأن يُثار من جانبٍ آخر حق الفلسطينيين الذين صُودرت واحتُلّت منازلهم في القدس الغربية وفي عددٍ من البلدات المحيطة بها والتي أصبحت جزءً من المدينة الموسّعة، مثل بلدة لفتا المدمرة، في استعادة هذه المنازل والممتلكات. فالمستعمرون لا يفهمون لغة الحقوق، ويعتبرون لغتهم، لغة البطش والقوة الطاغية ولغة التعالي الإثني والتفوق العنصري، اللغة الوحيدة للتعامل مع شعب البلد الأصيل.
ربحي الشويكي كان يعيش هذا الظلم الرهيب يوما بعد يوم، ويساهم مع جيرانه وأصدقائه وزملائه في الدفاع بشتى السبل المتاحة عن الحق المستباح. وهو تعرّض كما الآلاف غيره من أبناء المدينة، ومئات الآلاف من أبناء وبنات فلسطين، للسجن والملاحقة والمضايقات اليومية. لكن “ورطة” المحتلين كبيرةٌ مع شعبٍ لا يرضخ للإرهاب والترويع، ولا يقبل بالظلم التاريخي الذي وقع عليه، ويواصل نضاله اليومي، الدؤوب والصبور، برؤيةٍ تاريخية وطول نفسٍ مثير، كما نرى اليوم في أحياء الشيخ جراح وسلوان وفي أنحاء الضفة الغربية المحتلة، ولا تحبطه النتائج غير المرئية في الأمد القصير لنضاله هذا. فالناس هنا تدرك أن القضايا الكبيرة تحتاج أحياناً لعملٍ صبورٍ ودؤوب ومتواصل وطويل الأمد لتحقيق النتائج المرجوة. ومنطقتنا التي تعرّضت لغزواتٍ سابقة عديدة، ارتدت في حينها أيضاً أُثواب إدّعاءات دينية وتاريخية زائفة لتغطي على طابعها الإستعماري النهبي، شاهدةٌ على مصير مثل هذه التجارب، على الأمد الأطول.
قبل زهاء العشرين عاماً، أقدم عددٌ من كبار الفنانين المصريين الوطنيين، إثر اغتيال الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلية، على إنتاج عملٍ غنائي وطني باهر حمل عنوان “القدس حترجع لنا”، في تعبيرٍ بليغٍ عن مشاعر الشعب المصري، كما وشعوب المنطقة العربية كلها، بمعزلٍ عن مساومات وتخاذل بعض حكامها. وفي هذه الأيام التي ينتفض فيها شعب القدس من جديد، وينتفض معه كل شعب فلسطين بكل تجمعاته، بما في ذلك في مناطق 48، وفي أنحاء المهاجر وبلدان الشتات، يتّضح من جديد بأن النضال يتواصل من أجل تحقيق هذا الهدف، ولن يتوقف مهما طال الزمن ومهما بلغت الكلفة، وهي القناعة التي كانت تحرّك المناضل الراحل إبن القدس وفلسطين ربحي الشويكي، كما تحرّك ملايين الفلسطينيين في القدس وفي مناطق فلسطين الأخرى.
في أربعين ربحي الشويكي، كل التحية لهذا النفَس النضالي المثابر والدؤوب وهذا العطاء غير المحدود لقضية مدينته الغالية وقضية كل وطنه وشعبه، وكل التحية عبره لكل المناضلين وأصحاب القلم المؤمنين بقضية شعبهم وحقه في الحياة الحرة الكريمة على أرض وطنه، أولئك منهم الذين رحلوا وهم مرفوعو الرأس، وأولئك الذين ما زالوا مثابرين يواصلون المسيرة. والتحية لكل الأجيال المتعاقبة التي تعاهدت على مواصلة الكفاح حتى إنهاء هذا الظلم البغيض، وحتى استعادة الشعب الفلسطيني لقدسه ولوطنه ولحريته وكرامته على أرض هذا الوطن، مهما طال الزمن، ومهما تراكمت المصاعب.