فيصل درّاج يروي سيرته وسيرة فلسطين

صدر حديثاً كتاب السيرة الذاتية للكاتب والناقد الفلسطيني المعروف د. فيصل دراج: ” كأن تكون فلسطينياً: شذرات من سيرة ذاتية”، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2024 بيروت/لبنان، ويشتمل الكتاب على 318 صفحة وُزِعت على “تقديم” وثمانية فصول و”ختام مجزوء”. وكل واحد من الفصول شمل عدداً من الفصول الفرعية. وقد جاء ترتيب الفصول على النحو التالي: “الفلسطينيون والمنفى”، “باريس”، “بيروت”، “وجوه مدينة دمشق”، “صديقان وكتاب جماعي قصير العمر”، “الفلسطينيون: عوالمهم وأصواتهم”، “أربع صداقات بين القاهرة وعمَّان” و”مرايا ذاتية”.

يفتتح درَّاج كتابه متسائلا هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ ويواصل قائلا: ” يبدو السؤال في البداية بسيطاً قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة، وقدرة على السرد بلغة أليفة تسعفها القواميس بقبضة من الكلمات لا تعتب عليها قواعد النحو والصرف إلا قليلا”. ولكنه يتابع ….” يأتي الجرح من سيرة لا تكتب بصيغة المفرد، ففي مآل المفرد الفلسطيني مآلات، وما أصابه وتقاسمه مع غيره هو أمرٌ عنوانه: نكبة جماعية قذفت بشعب خارج الوطن الذي انتمى إليه”.

يسرد الكاتب قصة تهجيره من بلدة الجاعونة قضاء صفد واللجوء إلى بلدة جويزة السورية التي يسكنها الشركس والتركمان وهو طفل في الخامسة من عمره وبعد ذلك إنتقلت العائلة إلى دمشق التي يبدع درّاج في وصف جمالها وتاريخها ومواقعها ويكتب عن المدارس التي درس بها والمعلمين الذين تأثر بهم والكتب التي قرأها والأفلام السينمائية التي شاهدها ومن ثم دراسته الجامعية في جامعة دمشق والثلاثة مدرسين الذين أثروا به والذين “سحبهم استبداد الأقدار إلى مآل آخر”. ويستعرض درّاج الأحزاب والأطر السياسية في تلك المرحلة والمرجعيات الفكرية التي كانت ترفدها. ومع ذلك ورغم الصداقات والفرص إلا أن الفلسطيني يبقى لاجئاً، منفياً، محط إستهزاء من قبل الكثيرين.

وقد لفت انتباهي الدرس الذي تعلمه من مدير المدرسه الذي كان يعيره الكتب ويحثه على القراءة مشدداً على أن القراءة تفيد في تجويد أسلوب الكتابة، وتسهم في تطوير عقل القارئ:” علمني ما حفظته من المدير المتديّن أن المعرفة والدين والقومية معاملة وسلوك حميد، وأن السلوك معيار الحقيقة، وأن القيم بلا سلوك أخلاقي معارف خاوية، وأن الثقافة بلا صدق كيس من رذائل. كان ذلك المدير، الذي لا تفارقه عكازه، أنيق اللباس، أناقته رسمية مع ربطة عنق، محاطاً بمعلمين لا يقلون عنه أناقةً ولا ترصّناً في الحركات واللغة”. ص 141.

وفي موقع آخر يقول: “كان أستاذنا يسألنا: من أين تأتي الأحزان، وكنا صغاراُ، ونجيب: من المرض والفقر وموت الأقرباء، فيسأل من جديد: إلى أين تذهب الأحزان؟ فلا نجيب. لم نكن آنذاك نعرف كلمة الذاكرة، ولا نعرف أن الأحزان تشبه بثوراً حمراء تنتشر حارقة فوق سطح الجلد وتتحوَّل، إن طالت، إلى بقع سوداء لا تزول، تستقر وتنغرس في الذاكرة، التي من دونها لا يوجد تاريخ” ص 129.

وقد وجدت في الفصل الذي يستعرض من خلاله الكاتب صداقاته مع كل من الروائي عبد الرحمن منيف والمسرحي سعد الله ونوس متعة كبيرة وفائدة جمّة لما يتخلله من معلومات وشهادات وحوارات عميقة حول قضايا أدبية ووطنية مهمة وراهنة حتى يومنا هذا ولما به من ثقافة وشغف وإتقان ومسؤولية ونباهة وقدرة على استكناه وتحليل نفسية الكاتب والمبدع والمثقف العربي الملتزم.

كما أشار درّاج إلى المبادرة الثقافية المشتركه التي أطلقها هو ومنيف وونوس والتي تجسدت بإصدار كتاب دوري سنوي حمل عنوان” قضايا وشهادات”، ظهر المجلد الأول منه في خريف 1989 وتوقف عن الصدور بعد أربعة أعوام.

ويقول دراج حول الكتاب أنه صوّر :” أبعاداً من جماليات الصداقة وإخلاص الأحياء للأموات وتكامل الثقافة الإنسانية، التي تعترف بوحدة العقل الإنساني وبتساوي البشر. حمل آثاراً من سعد الله ونوس الهاجس بالمُخضَعين الذين يعيشون أقل ولا يتاح لهم الكلام وبمظاليم الأدب، وعلامات من عند عبد الرحمن منيف المتطلع إلى عالم لا سجون فيه، والكاره لصناعة الإذعان واسترقاق الأرواح”.

وفي فصل “الفلسطينيون: عوالمهم وأصواتهم” يستعيد دراج معاناة الفلسطينيون وموتهم وما تعرضوا له من مجازر ومظالم ويورد قصص أناس حقيقيين تكبدوا من المعاناة ما يزعزع الضمير ويصعق الأنسان السوي ويهز القلب القوي ويُبقي فيه لوعة ويخنق الصوت وفي هذا السياق استوقفني مصطلح “تثقيف الذاكرة” الذي استخدمه درّاج والذي يعني” التعلم من آخرين تعلّموا بالمعاناة وتدريب الروح”، أو مصطلح ” الذاكرة المثقفة” التي تشير “إلى إنسان علّمته تجربته أن يسكن حبسه ويجعله متراساً”.

وقد أفرد الكاتب فصلاً فرعيا خصصه لطبيعة علاقته بمحمود درويش منذ بدأ قراءة شعره إبان دراسته للدكتوراه في تولوز في فرنسا ومن ثم حينما تعرف عليه وعملا معا في بيروت في مجلة شؤون فلسطينية وقد شهدت هذة العلاقة في البداية توجساً وبروداً وبُعداً إلى أن تعمقت المعرفة بينهما وتوطدت أواصر المحبة والتقدير والتعاون والعمل المشترك في مجلة الكرمل ومن ثم زيارته في بيته في عمّان عدة أيام قبل سفره إلى الولايات المتحدة من أجل إجراء العملية الجراحية والتي توفي على أثرها وكأنه كان لقاءً أخيراً. لقاء وداع لن يتكرر. يلخص درّاج هذة العلاقة بقوله:” الذي كان يبدو متغطرساً في شبابه تحّول في كهولته إلى إنسان من لطف وكرم واعتذار وعطف، يتجنب الخطأ ويعتذر، برقة، حتى لو أصاب، وكانت أحكامه في كهولته دائمة الصواب”.

وحول ناجي العلي رسام الكريكاتير الفلسطيني، الذي إغتيل في لندن يقول دراج بعد أن أورد تشكله، وظروف حياته، قناعاته وشجاعته وتنقلاته ومعرفته به:” تقرأ حياة ناجي العلي الكبيرة في نهاية جمعت بين الرفض والعصيان، والإبداع والكرامة ردّت على سياق مطاطئ الرأس مذاقه كالحنظل”.

كما خصص دراج حيزاً لشاعر فلسطيني متميز وكبير هو عز الدين المناصرة الذي قال عنه محمود درويش بالإضافة الى إبراهيم طوقان أنهما الشاعرين الكبيرين الذين أعطت فلسطين. وقد وصفه دراج بأنه صاحب عفوية متمردة ومتسائلة وصاحب قصيدة خضراء.

وفي تلخيص عرضه لعلاقته مع الناقد والكاتب والأديب والمحقق إحسان عباس يقول درّاج:” علّمنى إحسان عباس احترام اللغة، وفضيلة التواضع العارف، وأخلاق الكتابة، ولم أستطع تعلّم الهزل الجاد والجدّ الهازل، المكسويّن بالبصيرة وحقائق الحياة”. ويتابع:” حين توفي عام 2003، شعرت كَرَماً من هذا العالم قد نقص، وأن بيته في فلسطين سقط عليه سواد جديد”.

بواسطة هذا الفصل ومن خلال تسليط الأضواء على بعض الرموز الأدبية والفنية الفلسطينية التي عاشت المنفى واللجوء والترحال استطاع دراج بمعرفته الواسعة وحسه المرهف وصدقه المعهود وإتقانه المشهود أن يعود إلى جذور الحكاية ورصد تحقيبات تشكلها مقتفياً أثر التفاصيل والمواقف والمقولات والنتاجات والطبع البشري الفردي والجماعي في أزمنة وامكنة وظروف متعددة من تشكيل فيفساء جميلة ومحفزة تثير الشعور بالعز والفخر والكرامة والأمل.

ويستذكر دراج بكثير من التقدير بعض الأصدقاء والمبدعين المصرين ويخص بالذكر السينمائي المصري المجدد توفيق صالح والصديق المصري المختلف جمال الغيطاني، كما يذكر لقاءته مع نجيب محفوظ ويوسف القعيد وآخرين من أدباء ومخريجي أفلام مرصعاً تلك الصفحات بخلاصات صافية من التجربة الأصيلة والشذرات الحكيمة والمواقف العصية على النسيان.

إحدى الشخصيات التي ترافق السيرة من بداياتها وتعود لتحضر من حين إلى آخر بأناقة وبراءة وتمييز وطيبة هي الكاتب الأردني غالب هلسا الذي عاش في المنفى وتنقل بين أمكنة متعددة وأنتج أعمالاً روائية رائعة متعددة ومتنوعة المضامين والأشكال.

وقد حضر أيضا أبان محادثاته مع صديقه الكاتب الأردني ألياس فركوح صاحب دار أزمنة للطباعة والنشر والتي نشرت أعمال هلسا. لقد لفتتني مقولة فركوح حول الأديب الأخلاقي:” الكتابة فعل حميم، كالحب، يطلب لذاته، لا يلتفت إلى ثناء ولا يعبأ باستنكار. الأديب الحقيقي مسكون بمثال، لا فرق إن عرفه أو بقي مضمراً. والأخلاق رضا عن ذات تجتهد في الصواب، مأواه الروح ولا ينظر خارجاً”. ومن الجدير بالذكر، أنه علاقة وطيدة ربطت بين دراج وفركوح حتى آخر لحظة من حياته، ففي رحيله تكبد خسارة كبيرة وفقد ” صديقاً عزيزاً، عرفته عشرين عاماً وقاسمني لطفه واجتهاده ومكتبه وكلماته الأخيرة، وذكريات نظيفة موجعة”.

وعن د. فايز الصيّاغ عالم الإجتماع الأردني والمترجم والشاعر يقول درّاج:” كان شاعراً في أسلوب كلامه البهيج، وشاعراًوهو يحتفي بالاصدقاء، وشاعراً وهو يحتفل بجماليات الحياة الصغيرة والكبيرة. وكان في روحه الشاعرة يجمع بين العفوية والبساطة، وجه سموح لا يعرف الأقنعة، وسلوك بلا تكلّف ينشر الكلام كما اتفق، لا تعنيه الكلمات الجاهزة في شيء. آثر الصدق والتضامن والانفتاح على مشاكل الآخرين، وزامله الكرم كما لو كان صديقاً منذ الطفولة”. وفي موقع آخر وبعد أن أورد دراج تعريفات الصياغ للمثقف والثقافة ولأهمية ترجمته لكتب المؤرخ أريك هوبساوم يثني دراج على الصياغ مشيراً إلى أن في مساره ما “قدم صورة عن الإنسان الطريق المتعدد العوالم، الشغوف بما هو جماعي، الكاره للتقوقع الفرداني المريض. وفي حياته ما جسد صورة المثقف النقدي، الذي يكون مع البشر ومنهم طارداً صورة الأكاديمي الكاريكاتورية، الذي يعتبر ” المعرفة المختصة” مرتبة ومقاماً عالياً وسلطة ووسيلة ألى شهرة متكسّبة أو ارتزاق منشور…”.

ومن بودابست عاصمة هنغاريا التي إلتقى بها بمريد البرغوثي ورضوى عاشور واللقاء الأخير بناجي العلي قبل ذهابه إلى موته وصديقه العراقي علي الشوك وزيارته لبيت الفيلسوف جوروج لوكاتش، يذكر اليوم درّاج أحلامه وهو ذاهب أليها” وألوان الأحلام من دورة الفصول؟، وغرفة في” شارع العصافير” يحطّ على نافذتها حمام لا يخلف الميعاد، وطفل أسمر اللون يحاور عالم اجتماع شهيراً[ إمري مارتون]، وسيدة قرأت بريشت شغوفة بالتدخين والدفاع عن القيم، ونهراً يفرج عن مائه في فصل الربيع، وفيلسوف تعلّمت منه وتمّنيت لو أني لم أزر بيته[ جورج لوكاتش]، وقطع جليد يحملها ” الدانوب” في فصل الربيع كأنها أحلام ذاهبة إلى مصب”.

وقد استمتعت ودُهشت من المساهمة القيمة التي قدمها درّاج حول الكتابة وتعريفها وتكونها وتعزيزها وحول تأثره بثلاثة من الكتاب المعروفين وهم المنفلوطي وجبران وطه حسين ولكل واحد منهم أسلوبه الخاص. ويقول إذ لكل موضوع حياتي شكل كتابته، وإذ في الانتقال من اليقين إلى المساءلة دعوة إلى كتابة متحررة. أعادت المساءلة الذاتية بصوت مهموس تشكيل أسلوبي بوتائر مختلفة. برهنت الأيام أن الأسلوب من جملة أساليب، ويستمر في التكوّن ولا يصل إلى صيغة أخيرة. أدركت بعد زمن أن الأسلوب يتكون في عمليات الكتابة، وأن من لا أسلوب له لا شخصية له، وأن الكتابة موقع لعمل ونظر طويلين، لهما شبه بداية ولا نهاية لهما”.

ويشاركنا درّاج جزءً من سجالاته والنقد والإتهامات التي وُجهت إليه من قبل “رفاق في الحزب” جراء نشر نصوص نقدية لأعمال معينة لإميل حبيبي وحنا مينة، بخلاف الحوارات اللطيفة، التي جاءت على أثر نشر نصوص نقدية أيضا كتبها عن أعمال لمؤلفين لا ينتمون إلى “قبائل” مثل جبرا إبراهيم جبرا وإدار الخراط.

وقد ختم درّاج كتابه بأهمية الإصغاء إلى حكايات الناس العاديين والبسطاء وليس فقد إلى ذوي الأقلام والمعارف والتعليم فاللخباز حكايته ولعامل الرمل والإسمنت قصته وهكذا دواليك وكلهم يتكاملون في حكاية المجموعة. ولا يغلق الكاتب صفحات كتابه دون التطرق إلى ما يحصل الآن في غزة من عمليات إبادة وقتل ومجازر وإفقار ورعب في ظل خذلان وسقوط أخلاقي وإنساني عام. إن ما يحدث في غزة لدليل على أن النكبة مستمرة قائلاً:” أن يكون الإنسان فلسطينياً يعني أن يدرك أن نكبته الأخيرة ليست بأخيرة، وأن في أحزان غزة حكايات متداخلة تنتظر الكتابة”.

حكاية دراّج حكاية فلسطيني عاش في المنفى وواجه الذل والإهانة والشقاء والإغتراب والقهر وشاهد على ما واجههه الآخرين من اللاجئين. “ففي مبتدأ اللجوء استسلام إلى قادم مجهول، يميط اللثام عن وجهه بمقادير غير متوقعة. إنها لعنة المقارنة بين عوالم اللاجئين وعالم الآخرين الذين يرون فيه لاجئاً. يساوونه بصفة تفقده اسمه، يصبح اللاجئ أسمه الأول، دون أن يصبح أخيراًً”.

سيرة درّاج هي سيرة تقاطع حياة المثقف الفلسطيني الحقيقي واللاجئ المقهور مع الأمكنة والأشخاص والأزمنة والسياقات. هي سيرة تجترح المعاني وتستنبط الدلالات من تفاصيل الحياة اليومية ومن الصداقات الحقيقية. لا تُقتَصر شذرات درّاج على استذكار ما خبرته وعاشته الذات فقط وإنما ما عاشته وعانته الجماعة ككل وما شغلها من أحلام وأوهام ومن آمال وخيبات. إضف إلى ذلك، فدرّاج يستعرض وبأسلوب رشيق وعميق علاقاته مع المثقفين العرب والفلسطينين والأجانب في مواقع متنوعة وبذلك يشاركنا درّاج سيرٍ متعددة ومتوازية ومن بينها جوانب من سيرة ومسيرة وتشكل الثقافة والفكر العربي والفلسطيني وتحولاتهما.

لقد أحسن درَّاج حين منح الكتاب عنواناً فرعيا وأسماه شذرات من سيرة ذاتية لإن سيرة درَّاج أوسع وأشمل مما ورد في الكتاب فقد اقتصر الكتاب على اللجوء والغربة ودراسته وثلاثة مدن وعدد من الأصدقاء والمثقفين الذين رحلوا والأثر الذي تركوه في حياته وفكره وتشكله. فالكتاب عبارة عن محطات أو أبواب تفضي إلى رواق جماعي وليست مكتوبة بشكل خطي وتسلسلي كما هو مألوف عند غالبية كتاب السيرة الذاتية. ولذلك نتمنى الصحة والعمر الطويل للدكتور درّاج راجين من الله أن يوفقه في إكمال كتابة سيرته الذاتية الشخصية وأعماله النقدية والإبداعية.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *