فلسطين وسؤال الهوية والعشيرة والقبيلة…

من هو الفلسطيني ؟

سؤال الهوية لدى الفلسطينيين ولد بولادة قضيتهم الوطنية، وتأثرت بتحولاتها السياسية منذ بدايات القرن العشرين، ويستحيل تصور حاضر هذه الهوية ومصيرها بمعزل عن واقع القضية الوطنية ومستقبلها والحلول السياسية التي تطرح عليها. وهذا الارتباط لا يعني أن لا وجود لهوية فلسطينية قبل بدء الصراع مع الصهيونية، بل هو تبلور طبيعي لهوية أي مجتمع يتم ضمن صيرورة طويلة ومعقدة، فالهوية ليست ابنة اللحظة، بل نتاج تفاعل مع التاريخ، وهي ملازمة للسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يمر به المجتمع.

ما قبل نكبة فلسطين 1948، عانى المجتمع الفلسطيني الذي خرج لتوه من السيطرة العثمانية إلى سيطرة الانتداب البريطاني، من تفكك سياسي ناتج عن غياب مفهوم جامع للهوية الفلسطينية، وعجزت زعامات العائلات والعشائر والزعامات السياسية في تلك الفترة عن بلورة مشروع جامع للهوية الفلسطينية او الكيانية الفلسطينية فيما بعد، فطغت الهويات القبلية والاقطاعية والزعامة السياسية التي خرجت من هذه الإقطاعات والعائلات، لتكون محور التنافس والتناحر حول تمثيل الشعب الفلسطيني. فكان صراع الحسيني – النشاشبيبي معبرا عن هذا التناحر حول الزعامة الدينية والسياسية. وبرز في هذه المرحلة ثنائية – فلاح / اقطاعي – قرية / مدينة، وانعكس هذه الثنائيات على فشل الثورة الفلسطينية الكبرى فيما بعد، وصولا الي نكبة فلسطين 48 وتفكك المفكك لهوية فلسطينية لم تكن قد تبلورت قبل النكبة بشكلها الصحيح.

شكلت مرحلة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في مايو 1964، بدأت ملامح بلورة هوية فلسطينية جمعاء تجمع الكل الفلسطيني في الداخل والشتات حول قيادة ومؤسسة تستطيع تمثيل الشعب الفلسطيني والتعبير عن هويته السياسية والثقافية والمجتمعية. واعادة القضية الفلسطينية والكينونة الفلسطينية للواجهه بعد محاولات طمسها عربيا ودوليا .   واخذ الفلسطينيين زمام المبادرة بعد هزيمة الانظمة العربية القومية في حرب النكسة 1967 لبلورة الهوية الفلسطينية.

الانجاز التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية بإعادة تشكيل واحياء الهوية الفلسطينية بشكلها الجمعي والشامل تعرض لنكسة قوية مع بدء عملية السلام وتوقيع اتفاقيات أوسلو، وصعود مؤسسة السلطة الوطنية الفلسطينية لاخذ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية وحصرها داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي إخراج فلسطيني الشتات من المنظومة السياسية لصالح مؤسسة السلطة في الداخل.

سياسة السلطة الفلسطينية في ادارة شؤون المجتمع :

منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، سعي الرئيس الراحل ياسر عرفات الي الموائمة في الحكم مع العشائر والقبائل الفلسطينية، وإعطاء دور كبير للمخاتير ورجال الإصلاح والعرف العشائري، ولهذا عدة أهداف منها الحصول على شرعية لرئاسة السلطة والسلطة بحد ذاتها من كبار هذه العشائر والقبائل وكان دائم الزيارة والدعم لهم لدواوين العشائر. واصبحت للعشائر والقبائل دور كبير في المجال القضائي والصلح العشائري في الفصل بين المواطنيين وبدعم كامل من اجهزة السلطة الفلسطينية الامنية والسياسية.

هذه السياسة اوجدت ما يعرف بالنظام الزبائني، وهو نظام قائم على المحسوبية وتقريب المقربين من العائلات والعشائر ، مما أوجد فيما بعد ما يعرف بالهويات العائلية والمناطقية والعشائرية، وزاد هذا التفكك بعد الانقلاب العسكري التي قامت به حركة حماس ضد مؤسسة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، هذا الواقع الذي اعاد انتاج النظام الفصائلي والهوية الفصائلية ، وبرز هذا بوضوح في سياسة التحشيد الكبير لمهرجانات الانطلاقة الفصائلية وتحديدا بين حركتي فتح وحماس ، حيث اصبح العدد في المهرجانات هو الحكم على شرعية كلا الفصيلين في الساحة الفلسطينية .

وبالعودة إلى سطوة العشائر التي شرعنتها السلطة الفلسطينية في الأساس ، نجد أمامنا مشهد رفض العشائر والقبائل في مدينة الخليل لقرار السلطة اعتماد اتفاقية سيداو لحقوق المرأة وقانون الحماية الأسرية ، وبالفعل قامت هذه العشائر بالضغط الكبير على السلطة الفلسطينية للتراجع عن قراراتها، هذه السطوة للعشيرة والقبيلة جعلت المنتمي للسلطة امام خيارين : الاصطفاف مع العشيرة أو السلطة والتنظيم ، ورأينا عدد كبير من منتمي حركة فتح للسلطة الفلسطينية يتخذ موقف العشيرة ضد التنظيم والسلطة ، لقناعته أن العشيرة هي الاهم والاكثر ضمانا له من المؤسسة الرسمية التي يعمل بها.

الا أن السلطة الفلسطينية هنا هي من تدفع الثمن الاكبر لهذه السياسة اليوم . حيث صاغت السلطة سياستها لفرض سيطرتها على الواقع الفلسطيني من خلال ثلاثة قوي أساسية وهي: أولا: قوانين قاصرة تحكمها منظومة قضائية مرتهنة بالكامل للأجهزة الأمن، وثانيا: قوة التنظيم الذي تماهي بالكامل ضمن منظومة السلطة ولم نعد نستطيع التفريق بين التنظيم والسلطة، وثالثا: قوة العشائر والقبائل في ظل غياب قانون عشائري متفق عليه.

هذه المرتكزات الثلاث التي قامت السلطة بصياغتها منذ زمن الرئيس عرفات والتي استمرت بالعمل بها حتى اليوم، أعادت حركة حماس إنتاجها حرفيا في سيطرتها على قطاع غزة. واعطت سلطة اكبر لرجال العشائر والقبائل للحل والربط في عديد القضايا في ظل بطئ عمل المنظومة القضائية وعدم التعاطي معها من قبل شرائح واسعة من المجتمع.

ومن الامثلة الأخيرة معالجة قضايا قتل النساء في غزة بالعرف العشائري واعادة ترويج ما يعرف بولاة الدم والقتل من غير عمد وغيرها الكثير من القضايا الاخلاقية بحجة حماية السلم الأهلي. فأصبح ابن العشيرة مطمئن لعدم العقاب في حال ارتكب جريمة قتل او اعتداء طالما أن قضيته تحل بفنجان قهوة وورقة صلح عشائري ومبلغ من المال، في ظل تعطيل القانون والمنظومة القضائية في معالجة هذه القضايا.

وكذلك ما شاهدناه اليوم في رام الله من جلسات عشائرية ورجال اصلاح لمعالجة قضية مقتل رزان مقبل على يد خطيبها.

هذا الواقع أوصلنا الي تفكك المجتمع والانتماء للهوية، من الهوية الجمعية للشعب الي الهوية الفصائلية وجعل الانتماء للفصيل مقدم على الانتماء للهوية الوطنية الفلسطينية والمفترض ان يكون العكس هو الصحيح، الي الانتماء أخيرا الي القبيلة والعشيرة والعائلة.

ومن الامثلة على ذلك ما ظهر مؤخرا من احياء بعض العائلات لمهرجانات تكريم لاولادها المتفوقين في الثانوية العامة والجامعات، الي ظاهرة إصدار العائلات لبيانات للرأي العام حول قضايا تتعلق بالعائلة أو العشيرة. واصدق مثال على ذلك ما حدث مؤخرا من قبل عشائر الترابين البدوية في قطاع غزة عندما اصدرت سيل من البيانات للرأي العام ولحكومة حماس تهدد وتتوعد بها، وارتفاع صوت الانتماء للعشيرة ظالما او مظلوماً.

اليوم القبيلة تصنع قوانينها وتحالفاتها واقتصادياتها ومداخيلها وهي تتقوى بأبنائها الذين احتلوا مواقع المسؤولية ووصلوا الي مناصب رفيعة لكي تتقوي القبيلة بهم وبصلاحياتها في اعطاء القبيلة الاولوية . إنها أنساق اجتماعية تضرب البنية العميقة للدولة، أنساق تتخذ لنفسها مسارات خاصة لا تتناسب مع اتجاه السلطة ودورها، ولا سيما وان السلطة بسبب النظرة التقليدية هي سلطة قبائل لا سلطة أفراد متساوين في الحقوق والواجبات والفرد رقم مهمل ما لم تذد عنه القبيلة وتدافع عنه.

الدولة ( السلطة ) – القبيلة أوجدت توصيفاً للسلطة وتوزيع مناصبها غنائم على القبيلة وأفرادها وابناء العمومة ثم تأتي الذيول والفلول والناعقين مع كل ناعق.!

ما يجرى اليوم في الساحة الفلسطينية بعد هذا السرد لواقع المجتمع اليوم، هو صورة مصغرة لواقع ما بعد السلطة الفلسطينية وشكل المجتمع الفلسطيني، فروابط القرى النموذج المفضل إسرائيليا هو بالأساس هي نتاج مجتمع العشائر والقبائل، واليوم نري قيادات من الجيش الإسرائيلي الميدانية تجتمع مع زعماء عشائر فلسطينية لمعالجة قضايا امنية دون أي اعتبار لمؤسسة السلطة الفلسطينية ودون أي اعتبار لتهمة التخوين من قبل هؤلاء الزعامات.

كان الحلم كبيراً بوطن ودولة وحرية وحقوق وواجبات، إذ بنا نعيد واقع ما قبل نكبة 1948، الواقع الذي ساهم في ضياع فلسطين نراه اليوم يتكرر بصورة أو بأخرى في المجتمع الفلسطيني مما له من تداعيات سلبية على مستقبل السلطة والمجتمع بشكل عام.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *