فلسطين والعودة مجددا لمحكمة العدل الدولية – القضية الثالثة

اختتمت محكمة العدل الدولية مساء الجمعة مرافعات 38 دولة وثلاث منظمات إقليمية وممثلة الأمين العام حول التزامات إسرائيل الإنسانية تجاه الفلسطينيين، بعد نحو شهرين على فرضها حصارا شاملا على دخول المساعدات لقطاع غزة منذ 2 آذار/مارس واستئناف عمليات القصف والقتل والتدمير منذ 18 آذار/مارس الماضي.
وبدأ ممثلو الدول مرافعات استمرت خمسة أيام (الإثنين 28 آذار/مارس – 2 أيار/مايو) أمام أعلى محكمة قانونية في منظومة الأمم المتحدة، من الساعة العاشرة صباح الإثنين حتى الخامسة من مساء الجمعة. وكانت وكيلة الأمين العام للشؤون القانونية، إلينور همرشولد، أول المرافعين، وألقت كلمة نيابة عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وتلا ذلك كلمة دولة فلسطين ألقاها عمار حجازي، ثم تتابعت المرافعات. وكان آخر المتدخلين كلمات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي.
ومن بين الكلمات المميزة التي ألقيت من غير الدول العربية كلمة أيرلندا ولوكسمبورغ وكولمبيا وجنوب أفريقيا وناميبيا وبوليفيا. إسرائيل من جهتها، لم تشارك في الجلسات، لكن الولايات المتحدة تصدرت مسألة الدفاع عن الموقف الإسرائيلي إضافة إلى دولة هنغاريا التي استقبلت أخيرا مجرم الحرب بنيامين نتنياهو ومنحته الدكتوراه الفخرية وانسحبت من المحكمة الجنائية الدولية من أجل حماية إسرائيل وتبني مواقفها الإجرامية.
المطلوب رأي استشاري قانوني
كانت الجمعية العامة قد اعتمدت بغالبية كبيرة قرارا أعدته النرويج في كانون الأول/ديسمبر 2024 يطلب من محكمة العدل الدولية توضيح ما يتعين على إسرائيل أن تفعله فيما يتصل بوجود الأمم المتحدة ووكالاتها والمنظمات الدولية أو الدول الثالثة «لضمان وتسهيل تسليم الإمدادات العاجلة الضرورية لبقاء السكان المدنيين الفلسطينيين، بلا عوائق». حيث يعاني سكان قطاع غزة أزمة إنسانية غير مسبوقة، بعد أن أوقفت إسرائيل كافة الإمدادات الإنسانية منذ 2 آذار/مارس. كما قامت إسرائيل بتعطيل عمل المنظمات الدولية التي تقدم المساعدات الإنسانية لسكان القطاع وخاصة وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين «الأونروا»، بالإضافة إلى المنظمات الإنسانية الأخرى مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية واليونسيف وغيرها.
وأكد المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني قبل بدء المداولات بأن في غزة «مجاعة من صنع الإنسان وذات دوافع سياسية». وقال عمار حجازي، نيابة عن فلسطين «لقد أُجبرت جميع المخابز التي تدعمها الأمم المتحدة في غزة على إغلاق أبوابها. وأن تسعة من كل عشرة فلسطينيين لا يحصلون على مياه شرب آمنة». وقال إن منشآت التخزين التابعة للأمم المتحدة والوكالات الدولية الأخرى فارغة. وإن إسرائيل تتحكم بكل معابر القطاع وتمنع دخول السلع وكذلك المساعدات الدولية في حين أن 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة بأمس الحاجة لها في ظل أزمة إنسانية غير مسبوقة. لقد أغلقت إسرائيل المعابر ومنعت دخول المساعدات قبل أيام فقط من خرقها وقف إطلاق نار بعد 15 شهرا من القتال المتواصل ووفقا للأمم المتحدة، فقد نزح حوالي 500 ألف فلسطيني منذ نهاية وقف إطلاق النار يوم 18 آذار/مارس».
وقالت الممثلة القانونية للأمين العام، إلينور همرشولد، في مرافعتها صباح الإثنين أمام المحكمة: «تقع على عاتق إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، التزامات عديدة تتعلق بوجود الأمم المتحدة وأنشطتها في الأرض الفلسطينية المحتلة. وتشمل هذه الالتزامات، بموجب القانون الدولي الإنساني، الالتزام الشامل بإدارة الأرض لصالح السكان المحليين، والالتزام بالموافقة على برامج الإغاثة وتسهيلها، والالتزام بتسهيل عمل جميع المؤسسات المخصصة لرعاية الأطفال وتعليمهم على نحو سليم، والالتزام بالحفاظ على المؤسسات والخدمات الطبية والمستشفيات، بما فيها تلك التي أنشأتها هيئات الأمم المتحدة». وأكدت همرشولد أنه بموجب المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة يجب على القوة المحتلة الموافقة على «خطط الإغاثة» وتسهيلها في حال نقص الإمدادات عن السكان. وأوضحت أن المادة 59 لا تقتصر على احتياجات البقاء العاجلة فحسب، بل ضرورة الالتزام المطلق والإلزامي باحترام حرمة مباني الأمم المتحدة وممتلكاتها وأصولها في جميع الأوقات، بما في ذلك أثناء النزاع المسلح.
كان موقف الولايات المتحدة هو الموقف النشاز الذي جاء فيه أنّ إسرائيل «وإن كانت ملزمة بتوفير المساعدات الإنسانية لكنها ليست ملزمة قانونيا بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة مثل الأونروا». وادعت الولايات المتحدة أن لإسرائيل مخاوف حقيقية من أن هذه المنظمات الدولية، وخاصة الأونروا، «لها علاقات أمنية مشبوهة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة». بينما تركزت الغالبية الساحقة من المداخلات بما فيها مداخلة ممثلة الأمين العام، على عدم جواز استخدام المساعدات الإنسانية سلاحا في الحرب، واعتبر ممثلو الدول في شبه إجماع أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في قيامها بإغلاق المعابر جميعها ومنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية لاستمرار الحياة مثل الماء والغذاء والدواء والمحروقات.
بعد انتهاء المرافعات سيعكف قضاة المحكمة الخمسة عشر للتداول في القضية قيد البحث لعدة أيام أو أسابيع أو أشهر ثم يصدرون رأيا قانونيا استشاريا حول تصرف إسرائيل حيال المنظمات الدولية وتعطيل عملها ومنع وصول المساعدات الإنسانية. والرأي الاستشاري يحمل وزنا قانونيا وأخلاقيا ومعنويا كبيرا. لكن المحكمة لا تملك أدوات الإلزام القانوني تجاه الدول المنتهكة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
لكن أهمية الرأي الاستشاري هذا بأنه سيزيد من عزلة إسرائيل ويضعها في حالة انتهاك للقانون الدولي أمام دول العالم ويحرج حفنة الدول القليلة التي تتبنى أو تدافع عن الموقف الإسرائيلي. كما أن هذا الرأي سيعزز من قانونية الاحتجاجات الدولية والمدنية والطلابية ضد الكيان وتصرفاته عبر أرجاء المعمورة.
ثلاث قضايا أمام المحكمة
وبهذه المسألة تكون المحكمة قد بدأت مداولات تتعلق بفلسطين للمرة الثالثة خلال أقل من سنيتن.
أمام قضاة المحكمة مسألة قيد البحث على قدر كبير من الأهمية منذ كانون الأول/ديسمبر 2023 عندما قدمت جنوب أفريقيا طلبا للمحكمة للنظر في ما إذا ما يرتكب في غزة يرقى إلى مستوى «جريمة الإبادة الجماعية». القضية هذه قد تأخذ وقتا طويلا وقد أمهلت المحكمة إسرائيل لغاية كانون الثاني/يناير 2026 للرد على المداولات التي انطلقت في المحكمة ابتداء من كانون الثاني/يناير 2024. ونحن نعرف أن هناك ضغوطا واسعة على المحكمة وقضاتها كي لا يصدروا موقفا حاسما بوصف ما يجري في غزة «إبادة جماعية». قد يضغطون باتجاه وصفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبعاد صفة «الإبادة» عن الكيان الصهيوني لأنها أخطر الجرائم وأعظمها.
وكانت المحكمة قد طلبت في كانون الثاني/يناير 2024، من إسرائيل عدم القيام بأي عمل محتمل من أعمال الإبادة الجماعية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وفي آذار/مارس 2024، وبناءً على طلب جنوب أفريقيا التي تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية، دعت المحكمة إلى اتخاذ تدابير إسرائيلية جديدة للتعامل مع «المجاعة» المنتشرة في قطاع غزة، لكن إسرائيل رمت بعرض الحائط كل تلك الإجراءات الاحترازية المستعجلة التي أمرت بها المحكمة.
أما القضية الأخرى التي حسمت فيها المحكمة الموقف بغالبية 12 قاضيا مقابل 3 ضد وصدرت في 19 تموز/يوليو 2024 وهو الرأي الاستشاري حول الاحتلال، بناء على قرار صدر عن الجمعية العامة بتاريخ 30 كانون الأول/ديسمبر 2022، حيث اعتبرت المحكمة أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية «غير قانوني» وطالبت بإنهائه والتعويض على الفلسطينيين وطلبت وقف الاستيطان فورا وترحيل المستوطنين. وطالبت الدول والمنظمات الدولية جميعها بالتعامل مع هذا القرار والتقيد به وتنفيذه. وقد اعتمد هذا الرأي الاستشاري الجمعية العامة في قرار صدر بغالبية كبيرة يدعو لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال عام. وبناء عليه سيعقد مؤتمر دولي في حزيران/يونيو برعاية فرنسية سعودية لتحويل ذلك القرار إلى جدول عملي لإنهاء الاحتلال وتطبيق حل الدوليتن.
المشكلة الكأداء التي يواجهها المجتمع الدولي وخاصة أبناء فلسطين أن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية لا يمكن تنفيذها بدون تعاون الدول المعنية، فليس للمحكمة أنياب ولا مخالب لتطبق قراراتها. وما دام القانون الدولي يطبق على البعض دون البعض الآخر، وما دام هناك دول مارقة لا تأبه للقانون الدولي وما دام هناك دول عظمى تحمي حلفاءها المنتهكين للقانون الدولي، فلا يتوقعنّ أحد أن تسود العدالة والسلام والمساواة وسيادة القانون في عالم اليوم بعد 80 سنة من إنشاء الأمم المتحدة من أجل «أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب».
عن القدس العربي