لم ينتصر ليعيش
لم ينكسر ليموت
فخذ بيدينا معا ايها المستحيل
محمود درويش

حاولت ان اهتدي عبر قراءة ما كتبه الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسي الى تعريف محدد للوطن فزادت صورة الوطن ضبابية، هل هو المكان الذي ولدت ونشأت فيه ام هو شعورك اتجاه هذا المكان ؟!!! هل هو العلاقة التفاعلية بين المكان والانسان ام هو انعكاس تلك العلاقة على مشاعر الافراد والجماعات، وككثير من الاشياء هناك العديد من القضايا نحسها ولا نفهمها، وجماليتها في ذلك الاحساس الغامض وغير المعرف.
الصورة الاولى فلسطين هي الوطن الاصيل للفلسطينيين، كيف تشكلت تلك الصورة لا يهم، واي العناصر التي طغت في تشكيلها لا يهم ايضا، المهم ان الفلسطينيين مسكونون بتلك المشاعر والتي لا يمكن يطالها النسيان تحت غبار الزمن. ففلسطين تسكنهم أكثر من كونهم يسكنوها. هذا ليس تعبير جمالي عن العلاقة بل هذه هي العلاقة ذاتها.
الصورة الثانية، سبعة ملايين يهودي جزء منهم قدم الى فلسطين والجزء المتبقي ولد فيها، هناك خديعة في استقدام من قدم ؟!!! نعم انها خديعة كبرى، وهناك نوايا سيئة ايضا. لكنهم قدموا، حملوا معهم خطايا الغرب المستعمر والمعادي للسامية وألقوا تلك الخطايا في وجهنا واستقروا، بالنار والحديد وكيد المستعمرين استقروا، في النهايات تشكلت لديهم مشاعر من نوع خاص، تفاعلهم مع البنادق والطائرات شكلهم كمجتمع يتغذى على الاساطير ومنطق القوة، ولان التاريخ لا يحكمه منطق العدل فقد أصبحوا يمتلكون مشاعر اتجاه هذه الارض، اصبحت بالنسبة لهم وطن، او على الاقل اصبحت مشاعرهم اتجاه هذه البلاد على اعتبار انه وطن.
الصورة الثالثة، عدد شبه متساوي من الفلسطينيين واليهود في فلسطين التاريخية، كل حجر له رواية مختلفة عن رواية الطرف الاخر، كل ركن، كل زاوية، عبث التاريخ بلا أدني رحمة بمشاعر الطرفين، يافا برتقالها ايقونة الجمال الفلسطينية والخليل عمق الاسطورة اليهودية، لم يشترك الفلسطينيون واليهود في وطن بل اشتركوا في الانبياء والمقدس ايضا، هو التاريخ ايضا يضعنا امام المشترك مرة اخرى، قدسية ذات المكان للطرفين. ورغم حالك الانكار المتبادلة الا ان الاسطورة والواقع وضعا الشعبين في ذات المكان بطريقة التشارك القسري.
الصورة الرابعة: لم نكن ضعفاء كفاية لنهزم ولم يكونوا اقوياء كفاية لينتصروا، لم ننتصر عليهم ولكننا انتصرنا على الهزيمة، لم يهزموا امامنا ولكنهم هزموا امام حضورنا الطاغي. نصرهم لم يكن هزيمة لنا وهزيمتنا لم تجعلهم ينتصروا. مركبات الضعف والقوة والعدالة وموازين القوى والحق والتاريخي والمفروض بحكم الامر الواقع، جميعها اختلطت ببعض وانتجت حالك فريدة، وطن لشعبين، ينتصر فيها القوي ولا يهزم الضعيف، الضعيف بهزيمته واثق من المستقبل أكثر من القوي بانتصاراته، والاهم انه ليس بمقدور أحد الطرفين ان يحسم الصراع لصالحه مهما امتلك من اسباب القوة، بلاد يعمق الصراع فيها الشراكة ولا يضعفها.
الصورة الخامسة: في منتصف الطريق الى الحلم يستيقظ الواقع، الفلسطينيين لديهم الحضور الطاغي، اليهود لديهم القوة الطاغية. معادلة صفرية يهرب الطرفين من الاقرار بها، نهرب كفلسطينيين الى العالم الذي يعترف بنا ككينونة سياسية، ويهربون الى بعض الانظمة العربية ليتسللوا عبر شقوق الواقع العربي المتشظي. نجاحاتنا في العالم لا تكفي لتحقيق الحلم ونجاحاتهم في التسلل لا تكفي لهم ايضا.
هذه صور الصراع الفلسطيني من زوايا مختلفة، وإذا ما حاولنا ان نشكل مجسم استنادا لتلك الصور فإننا سنبني وطن متخيل لدى الشعبين، وطن تتداخل فيه كل عناصر الواقع والاسطورة والمقدس والتاريخ.
ننتقل الان من اللحظة الراهنة الى المستقبل، هنا نحتاج الى خيال واسع لتخيل المستقبل، وأكثر من الخيال نحتاج الى جرأة كبيرة لرسم معالم المستقبل بعيدا عن احلامنا او لنقل رغباتنا.
وطن واحد لشعبين، صورة تتأصل مع الوقت، ويزداد التعاطي معها مع فقدان القدرة على الحسم، ربما المكابرة ستبقى مهيمنة على الخطاب الفلسطيني والاسرائيلي الى الحد الذي يجعل الشعبين يدفعان ثمنا كافيا للتخلي عن تلك المكابرة. المكابرة لدى الطرف الاسرائيلي مصدرها طغيان القوة بينما لدى الطرف الفلسطيني فمصدرها طغيان القناعة بالحق، وبالمقدار الذي ترى القوة نفسها قادرة على الحسم فان الحق يرى ذاته قادرا على فرض سطوته في النهاية. لكن كلا الشعبين يقتربان مع الوقت من الاصطدام بالحقيقة وهي ان هناك شعبين على هذه الارض لا يمكن نفي أحدهما او تغيبه.
هذه الحقيقة لها استحقاقاتها ، وتبعاتها ، وتجلياتها ، وبعد ان اختفت خطوط العرض وخطوط الطول التي تفصل الشعبين عن بعض بقيت جدران من الخوف المتبادل وانعدام الثقة ، لن يكون بقدور الشعبين تجاوزهما في وقت قريب، والخوف وانعدام الثقة ليسا وليدا الصراع الحديث فقط بل لهما امتدادات في صلب التاريخ، والاهم ان الخوف تحول الى جزء من العقيدة اليهودية وذلك نتاج السياق التاريخي الذي مروا فيه، لذلك فالسلام بالنسبة لهم جوهره امن المستقبل اكثر من كونه استقرار الحاضر ، لهذا فان تجسيد فكرة وطن واحد لشعبين لن يأخذ مسارا سياسيا مستقيما، اما بالنسبة للفلسطينيين فان جوهر السلام بالنسبة لهما هو الكيانية السياسية المعبرة عن الشعب، وترجمتها السياسية الدولة ، وهي التي تضعهم على قدم المساواة مع العدو الشريك، هذه الكيانية الدولة ليست رغبة بقدر ما هي ضرورة للتعبير عن الذات الوطنية. هنا تلتقي مخاوف اليهود مع طموحات الفلسطينيين في ايجاد كيانين مستقلان تماما، ذو سيادة تامة، بذات الحقوق والامتيازات، في وطن مشترك.
بدأت الصورة في الاتضاح، وطن واحد، دولتين، توضحت الصورة نعم ولكن زاد الامر تعقيدا والى حد الارباك، النقائض تجتمع في رؤيا واحدة، المستقبل يستطيع فعل ذلك !!!!
يزول الارباك كلما اقتربنا من التفاصيل أكثر.
حدود الدولتين مفتوحة بمعنى حرية التنقل والعمل والاقامة لمواطني الدولتين كل في الدولة الاخرى بكامل الحقوق المدنية مع ممارسة كل شعب لحقوقه السياسية في دولته بغض النظر عن مكان اقامته.
فلسطيني الداخل -١٩٤٨ -هم مواطنين اسرائيليين لهم كامل الحقوق المدنية والسياسية في اسرائيل بدون تمييز.
اللاجئين الفلسطينيين اينما كانوا لهم حق حمل الجنسية الفلسطينية وهم مواطنين فلسطينيين ينطبق عليهم حق الاقامة والتنقل والعمل المنصوص عليه اعلاه. كما ان الاملاك الفردية للاجئين الفلسطينيين تعود لهم دون خلق مظالم جديدة.
القدس الغربية والشرقية مدينة موحدة مفتوحة بمجلس بلدي موحد متساوي الاعضاء والصلاحيات وتحت ادارة امنية خاصة -طرف ثالث -وهي عاصمة مشتركة للدولتين.
هناك مؤسسات مشتركة متساوية الاعضاء والصلاحيات للقضايا المشتركة، الامن، حقوق الانسان، البيئة، الاقتصاد …. الخ تنسق ما هو مشترك على قاعدة المساواة بين دولتين كاملتي السيادة.
من يود ان يبقى من اليهود في اراضي الدولة الفلسطينية سيبقى تحت الحكم والامن والادارة الفلسطينية ويسري عليه القانون الفلسطيني كأي مواطن اخر بدون تمييز. ويمارس حقوقه السياسية في اسرائيل.
وفي سياق هذه الرؤيا هناك الكثير الكثير من التفاصيل، وهي متروكة للمفاوضات ولكن الاهمية لا تكمن في التفاصيل الضرورية لهذا الحل فقط، بل تكمن في الاسئلة التي يثيرها هذا الحل، وتكاد تكون تلك الاسئلة اهم من الحل ذاته.
هل هذا الحل عادل؟
هل هو حل عملي ام مجرد احلام وطموحات؟
لماذا ليس دولة واحدة تتساوى فيها الحقوق والواجبات؟
هل يمتلك هذا الحل مقومات الاستدامة؟
ولا تنتهي الاسئلة عند حد، وكلما تعمقنا في هذا الحل تشرع امامنا اسئلة من نوع مختلف.
سنتوقف امام الاسئلة بما يسمح به المقال … الحل ليس عادلا بما يكفي، فهو لا بحقل مطلق العدالة، وفي نفس الوقت لا يترجم ميزان القوى، هو حل عادل نسبيا اخذا في الاعتبار ميزان القوى، لو ذهب باتجاه العدالة أكثر لسقط الحل بفعل ميزان القوى ولو ذهب باتجاه ترجمة ميزان القوى لسقط الحل امام التشبث بالعدالة، انه حل يحقق التوازن بين هذين المعطيين، توازن دقيق ولكنه ثابت.
هل هو حل عملي؟ حل يأخذ في الاعتبار خصوصية كل شعب القومية، ويعزز كل ما هو مشترك، ولا يفرض حواجز وحدود قسرية لا على واقعهما ولا حتى على احلامهما، حل كهذا أكثر عملية من اي حل اخر. والاهم انه لا يغير الواقع وانما يعيد ترتيبه بما يخدم الشعبين، انه حل يحقق التصالح بين التاريخي والوضع الراهن بدون صيغ قسرية. يضع الشعبين على قدم المساواة من طموحهما دون ان يكون طموح اي شعب على حساب الاخر.
لماذا ليس دولة واحدة تتساوى فيها الحقوق والواجبات؟ الدولة الواحدة هي حلم للشعب الفلسطيني وهي بالتأكيد الحل الاجمل، لكنها من جانب اخر هي كابوس للإسرائيليين، تثير لديهم المخاوف أكثر مما تقدم لهم الحلول، والدولة الواحدة لا تفرض بالقوة على أحد، فهي كالزواج تحتاج الى طرفين متفقان. لذلك فهي ليست الحل المنشود لكلا الشعبين، حل دولتين في وطن واحد منفتح على المستقبل بلا اشتراطات، إذا استطاع ان يزيل اوهام الخوف وعدم الثقافة قد يقود الى دولة واحدة ولكن بشرط ان تكون برغبة الشعبين. دولتين في وطن واحد لا يلغي الخصوصية للمجموعتين بما فيها حق تقرير المصير والخصوصيات الثقافية والدينية والتي هي شرط وضرورة لهما.
اما هل يمتلك هذا الحل مقومات الاستدامة ويحقق الامن للشعبين فذلك امر يمكن تخيله، عندما تضع للشعبين مصلحة متوازنة في الحل يصبح كلا الشعبين معنيان بالمحافظة على ديمومته، عبر التاريخ فان الاتفاقيات تنهار بتغيير موازين القوى لان تلك الاتفاقات استندت الى تلك الموازين، بينما حل دولتين في وطن واحد يستند الى العدالة النسبية والتي تجعل استدامته امرا يحقق مصلحة الشعبين. انه الحل الذي يخرج الطرفين من الصراع بشعور المشاركة في الربح وليس المشاركة في الخسارة، طرفان لا يخرج اي منهما خاسرا.
السؤال الاهم والذي سيبقى دائما مشرعا هو ان بعض بنود هذا الحل قد تبدو مجحفة بحق احد طرفي الصراع ، وهذا صحيح اذا اخذنا هذا الحل كبنود منفصلة ، ولكن اذا ما اخذنا الحل كرزمة كاملة ونظرنا اليه كسياق متكامل فانه سيبدو اكثر عدالة للطرفين ، فالنقص في جانب يتم تعديله في جانب اخر وهكذا لكلا الشعبين، اذا ما اردت حلا ” كامل الاوصاف ” لطرف فانك بالتأكيد ستخلق حلا ظالما بالكامل للطرف الاخر، وهنا في هذا الحل فان التوازن ليس كميا بل نوعيا ويحقق اقصى درجات العدالة للشعبين ، من يريد العدالة الكاملة فاتح يحتاج الى اجنحة ليحلق في السماء وليس الى ارجل على ليستقر على الارض .
هي ليست فلسطين المتخيلة فحسب، هي فلسطين الممكنة والتي لها من الاسماء المختلفة، الحدود النفاذة، المواطنة المتداخلة، والهوية المزدوجة التي تشبع الطموح، هي الارض المقدسة والتي يقدم لها هذا الحل استقرارا يليق بقداستها، واملا يعادل صلوات ابناءها.
في نهاية المطاف هي رؤية، نقاشها اغناء لها، لا يوجد قيود على العصف الذهني فيها وحولها، بالإمكان تطويرها كونها ليست مغلقة على الجديد الذي يعززها ولكن دون المس بتوازنها الدقيق، تحتاج الى أكثر من الالمام بالصراع وتعبيراته ومآلته، تحتاج الى إدراك عميق لاحتياجات الشعبين، تخوفاتهم، طموحاتهم. بدون ان تعرف نفسك جيدا وتعرف اعداءك جيدا لن تصل الى ما ترغب، فالمعرفة المجردة من المواقف النمطية ضرورة لفهم تلك الرؤية.
لم تنتهي الحكاية هنا ، فالطريق الى الحل هي جزء منه ، هذه الرؤية ليست هدف معزول عن سياق الكفاح من اجل تحقيقه، الصمود الوطني على الارض هو الركيزة الاهم، الصمود يكرس الحقائق التي يكابر الاسرائيليين ويتهربون من مواجهتها، الصمود والاصرار على حق تقرير المصير والذي يعبر عنه بدولة فلسطينية كاملة الاستقلال والسيادة، هذا الحل يستند او لحق شعبنا في السيادة والاستقلال لنصبح على قدم المساواة مع اعداءنا، الدخول الى اي حل دون هذه المساواة هو استيعابنا كمشكلة اسرائيلية داخلية، التعبير عن كينونتنا السياسية بدولتنا المستقلة وكاملة السيادة، هذا ليس ترفا سياسيا ولا شرطا قابلا للتفاوض، هذا هو المدخل الوحيد لهذه الرؤية . تعزيز علاقتنا بإقامة أكبر واوسع جبهة مؤيدة لهذه الرؤية، علاقتنا مع الاخرين اعداء او اصدقاء هي علاقة سياسية، من يتفق معنا بهذه الرؤية هو صديق وحليف ومن يختلف يفترض العمل لإقناعه، بالتأكيد الاقناع وحده لا يكفي لترجمة هذه الرؤيا الى واقع، فرفع كلفة استمرار الصراع وصولا الى حد الاقتناع باستحالة حسمه بالقوة شرط لتحقيق هذه الرؤيا، هذا يعني كفاحا فلسطينيا يبدأ بالصمود ويتوسع ويتعمق ويراكم منجزات. بالضبط نحن امام رؤيا الطريق اليها هي جزء منها وامام هذه الرؤيا يستحضرني قول برتولت بريشت ” عندما تكون الحقيقية عاجزة عن الدفاع عن نفسها عليها التحول الى الهجوم ” فالحقائق عنيدة وان بدت احيانا خجولة.