فلسطينيو 48 والانتخابات الإسرائيلية: “الاندماج” أو”المواجهة” بدلاً من الوسطية

النص الكامل: 

لقد تفككت القائمة المشتركة على مرحلتين: الأولى مع انسحاب “القائمة الموحدة – الحركة الإسلامية الجنوبية” في سنة 2019؛ الثانية مع خوض “التجمع الوطني الديمقراطي” الانتخابات منفرداً في سنة 2022.

وتكمن أزمة هذه القائمة في الأسباب السياسية – أو بكلمات أكثر دقة – عدم وجود الضوابط السياسية التي كان يمكنها تحويل الوحدة الانتخابية التي انتظمت في سنة 2015 تزامناً مع رفع نسبة الحسم، وبهدف اجتياز الانتخابات، إلى مشروع سياسي استراتيجي شامل له عمود فقري قادر على الحفاظ على هذا المشروع، ونظام يضمن استمرار التجربة، بغضّ النظر عن الأشخاص وتبدّلهم.

لقد كانت انتخابات 2015، والتي حصلت فيها القائمة المشتركة على 13 مقعداً، بمثابة شرعية أولية من المجتمع للوحدة، ذلك بأن الحملة الانتخابية جاءت تحت عنوان “توحدنا”، والذي ثبت لاحقاً أنه كان مجرد شعار لم يتم البناء عليه استراتيجياً لتعميق هذه الوحدة لما هو أبعد من خوض الانتخابات.

يعيش الفلسطينيون في أراضي 48 حالة فريدة: فهم، تاريخياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً، فلسطينيون، لكنهم ليسوا جزءاً من النظام السياسي الفلسطيني، ولا يتمثلون في “منظمة التحرير الفلسطينية”، ولا يؤثرون في السياسة الفلسطينية واتجاهات المشروع الوطني، وهم علاوة على ذلك، “مواطنون” إسرائيليون قانونياً، إلّا إن إسرائيل ليست “دولة المواطنين”، وإنما “دولة اليهود” التي تعيش تحت سقف الإجماع الصهيوني، ولذلك فإنهم لا يملكون تأثيراً في السياسة الإسرائيلية أيضاً.

بكلمات أكثر وضوحاً: الفلسطينيون في أراضي 48 يعيشون عملياً على طرفَي حالة صراع، من دون أي قدرة في التأثير في أي منهما، في الوقت الذي يتأثرون بأي تغيير يحدث عند أي من هذين الطرفين. إنهم يعيشون في هامشَين سياسيين: إسرائيلي وفلسطيني، كما أنه في فترة “ما بعد أوسلو”، راج وهم فلسطيني رأى في هذه “الأقلية” الفلسطينية عاملاً مساعداً على “تحقيق السلام”، وجزءاً من التوازنات الداخلية الإسرائيلية.[1] وهذا الوضع يشكل مدخلاً لفهم كيف تحول مصطلح “التأثير” إلى النواة التي كانت تدور حولها الحملات الانتخابية، والتي استناداً إليها تتوزع الخارطة السياسية.

الصراع يتقدم بين طرفَي الصراع اللذين يقع فلسطينيو 48 في وسطهما: فإسرائيل تحولت إلى “قوة إقليمية” مأزومة داخلياً، وتعيش صراعاً بشأن هويتها السياسية، وهي في الوقت ذاته تتصرف على أنها حسمت الصراع مع الفلسطينيين، بل إنها تدفع هذا الصراع معهم إلى صراع ديني؛ أمّا الحالة الفلسطينية التي يستمد منها الفلسطينيون داخل “الخط الأخضر” بُعدهم القومي والتاريخي والثقافي، وخصوصاً العلمانية منها ممثلة في “منظمة التحرير”، فتعيش أزمة استراتيجية حقيقية بين الانقسام السياسي وفشل المسار السياسي الذي راهنت عليه كلياً. وكنتاج لهذا التحول يعيش الصراع مرحلة انتقالية لم يعد “حل الدولتين” فيها ممكناً، بل باتت “الدولة الفلسطينية” محصورة في الضفة وغزة، وبعيدة كل البعد عن الحاضر السياسي، بعد أن أعدمتها إسرائيل بحسم الصراع على الضفة لمصلحة مشروعها الاستيطاني. 

2019: إسرائيل تدخل في أزمة

مع بدء الأزمة السياسية في إسرائيل في سنة 2019، والتي لا يمكن الزعم أنها انتهت، حسم اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو انتخابات 2022 لمصلحته، بينما كانت “القائمة المشتركة” لا تزال في مرحلة استبدال الأشخاص. وخلال ذلك، التقى عاملان غاية في الأهمية يقود تشخيصهما إلى فهم ما سيحدث لاحقاً: أولاً، تبدلت قيادة “الجبهة” مع تشكيل القائمة، وفي الجولة الثانية للانتخابات تبدلت قيادات “التجمع” وقيادات الحركة الإسلامية الجنوبية، لتتبدل بذلك أيضاً القيادات ذات الخبرة التقليدية بقيادات شابة جديدة نشأت في واقع ما بعد الانتفاضة الثانية وليس خلالها؛ ثانياً، دخلت السياسة الإسرائيلية في حالة من عدم القدرة على الحسم، جرّاء تغيرات عميقة في السياسة والمجتمع والمرحلة الاستعمارية، إذ لم تعد تنقسم استناداً إلى الموقف السياسي من القضية الفلسطينية، وإنما إلى قضايا “الدين والدولة”، و”مؤسسة القضاء” و”الحيّز العام”، باعتبار أن “الدولة” و”المجتمع” تخطيا فلسطين بعد عقود من الأزمة والانقسام وانعدام الأفق السياسي، وحكم نتنياهو الذي حاول نقل إسرائيل إلى مرحلة “قوة إقليمية” بدلاً من مستعمرة تعيش صراعاً محلياً.

هذان العاملان تفاعلا بشكل مثير للاهتمام: فالقيادات الشابة أرادت طرح رؤية “تغيير” و”تأثير” تقود إلى تجديد يرفض القديم الذي يتأثر ولا يؤثر، لكن من دون دراسة حقيقية؛ أمّا إسرائيل المنغلقة على يهوديتها، ففتحت الباب أمام استخدام الفلسطينيين بشكل انتهازي، قبيح وأداتي، بهدف استبدال نتنياهو فقط، وذلك من دون أي تغيير جوهري على واقعهم كفلسطينيين، أو على واقع فلسطين ذاته، مشددة على أن الصراع حُسم.

مسألة أن إسرائيل تمر بتغيرات، هي حقيقة يجب عدم غضّ النظر عنها للحظة، لكن السؤال هو كيفية التعامل مع هذه التغييرات فلسطينياً؟ وإذا كان هناك ما يمكن قوله بثقة عن تعامل القيادات الفلسطينية، ومن ضمنها تلك الموجودة في أراضي 48، مع التغييرات الإسرائيلية الداخلية، فهي أنه كان تعاملاً بمنطق “التمني” بدلاً من إجراء قراءة عقلانية وموضوعية. وهذا، ما بدا واضحاً جداً، مع الخطاب الذي حدد الهدف الوحيد بـ “تغيير نتنياهو”، والذي تبنّته القائمة المشتركة خلال الجولات الانتخابية الثلاث الأولى في سنة 2019، وكذلك في سنة 2020، تحت عنوان “التأثير”. فتوجه أيمن عودة بداية إلى غانتس يطالبه بأن يتبنّى نهج رابين ليكون عودة هو “الكتلة المانعة”، ويتبنّى نهج توفيق زياد.[2]

دعمت قيادة السلطة الفلسطينية هذا التوجه عبر التمويل والتنسيق بهدف استبدال نتنياهو، على اعتبار أن الأزمة تتلخص في شخص نتنياهو الذي ما إن يُستبدل حتى تعود الأمور 20 عاماً إلى الوراء وينطلق المسار السياسي من جديد. وسيطر خطاب “التأثير” على أساس أنه الخطاب السائد، إلى جانب “القوة الثالثة”، وتحويل المعركة إلى معركة ضد نتنياهو الشخص، وتقرير مَن يكون رئيس الحكومة. أمّا إسرائيل، فكانت تتجه إلى مكان آخر كلياً، وكان لها رؤيتها المنطقية إلى مفهوم “التأثير”، وأي دور تريد للعرب أن يؤدوه فيها.

ووصل هذا المسار إلى ذروته في: أولاً، انتخابات 2020، ووصول خطاب “التأثير” و”استبدال نتنياهو” و”الوحدة” إلى أقصاه، توازياً مع ذروة تحريض نتنياهو على العرب بعد أن حالوا دون تشكيله حكومة في الجولات السابقة، الأمر الذي دفعهم أكثر من السابق إلى الخروج والتصويت؛ ثانياً، إعادة توحيد القائمة المشتركة بعد أن تفككت إلى قائمتين عشية انتخابات 2019؛ ثالثاً، القيام بحملة انتخابية واسعة فحواها أن “التأثير” بات قاب قوسين أو أدنى.

ضمن هذه الظروف، حصلت القائمة المشتركة على 15 مقعداً، ووصلت نسبة التصويت العربي إلى 80%.[3] لكن الأزمة الحقيقية كانت في عدم تقدير ما يمكن أن يقدمه الجانب الإسرائيلي، على الرغم من محاولات النخب السياسية الأساسية، وعلى رأسها بني غانتس زعيم تحالف “أزرق – أبيض” آنذاك، إيضاح حدود هذا الانفتاح وشروطه بالقول: إن الاتفاق مع القائمة المشتركة، هو اتفاق على قضايا مدنية، وأنه لا يوجد أي مفاوضات بشأن القضايا القومية،[4] وإن غانتس رفض في نهاية المطاف الاستناد إلى “القائمة المشتركة” في تشكيل حكومة، وفضّل الذهاب إلى حكومة “وحدة وطنية” مع نتنياهو، بدلاً من التعاون مع القائمة المشتركة. وفيما بدا أنه نجاح، ذهبت إسرائيل إلى انتخابات إضافية مرة أُخرى – لكن النجاح كان على مستوى تكتيكي، بينما كان الفشل استراتيجياً، وتمثلت نتائجه في تشكيل منصور عباس “القائمة الموحدة” التي أخذت الموضوع إلى أقصى مداه، ودخلت إلى الائتلاف الحكومي. 

منصور عباس يمنح إسرائيل ما تريد

في الوقت الذي شكلت التمنيات أساس السياسة الفلسطينية في مناطق السلطة وفي أراضي 48، بأن يكون غانتس رابين 2020، فإن إسرائيل كانت واضحة بصورة مؤكدة أن المطروح هو فقط “القضايا المدنية”، وأن أي بحث في “القضايا القومية” مرفوض تماماً.

وبالعودة إلى أراضي 48، فإن النخب “الليبرالية” هناك طالبت الفلسطينيين بأن يتنازلوا عن الشقّ التاريخي الثقافي والقومي، لتحقيق الشقّ القانوني و”المواطنة”، أي أنها أعادت السؤال إلى طرفَي المعادلة الرئيسية: إمّا فلسطين؛ وإمّا القضايا المدنية. وبذلك، كانت تفتح الباب عملياً أمام الفلسطيني، بشرط القبول بالمرحلة التي وصلت إليها، وهي التسليم بأن الصراع على فلسطين والضفة انتهى، وفي اللغة الاستعمارية – لغة الحرب، فإن إسرائيل تطالب الفلسطينيين بالاستسلام القومي، كشرط لتحصيل الحق المدني.

الأزمة الإسرائيلية في جوهرها كانت أزمة انتقال أفيغدور ليبرمان وحزب “إسرائيل بتينو” إلى المعسكر المضاد لنتنياهو على أساس أنه لم يعد هناك يمين ولا يسار، بما أن هناك إجماعاً على مفاهيم اليمين أصلاً في إسرائيل في كل ما يتعلق بالصراع. ولذلك، فإن المتوقع هو أن يركز فلسطينيو 48 حالياً على القضايا المعيشية، ولا سيما بعد التطبيع العربي والضعف الذي يسيطر على الحالة الفلسطينية.[5] أمّا الشخص الذي تعامل مع هذه المعادلة جيداً، فهو منصور عباس الذي انفصل عن القائمة المشتركة، وشكّل “القائمة الموحدة” التي تنازلت كلياً عن البعد الوطني والقومي، مركزة على قضيتين: القضايا اليومية – المدنية كعنوان التعامل مع إسرائيل، والدين الإسلامي من دون بُعد كفاحي.

وظهرت في هذه المرحلة كارثية النصر التكتيكي في سنة 2020: نتنياهو فهم أن تحريضه على العرب يدفعهم إلى التكتل والتصويت، وهو ما جعله يطلق في انتخابات 2021 حملة “أبو يائير” لتنويم الشارع العربي؛[6] “القائمة الموحدة” فهمت المعادلة وقرأت أن الموضوع القومي وفلسطين يشكلان عائقاً أمام أن يكون فلسطينيو 48 مؤثرين، فانفصلت عن “القائمة المشتركة” وأعلنت أنها على استعداد للدخول في أي ائتلاف حكومي متبنّية شعار “بيضة القبان”، وأنها ستمنح كلَ مَن يقبلها الشرعيةَ، بغضّ النظر عن شخصه أو أيديولوجيته.[7] أمّا “القائمة المشتركة” فبقيت في دائرة الأزمة: لا تستطيع الذهاب إلى حد الاعتراف بـ “يهودية الدولة” مثلما فعل منصور عباس، ولا تستطيع العودة إلى الوراء والتخلي عن فكرة “التأثير” بعد أن بنت 4 حملات انتخابية على هذا الشعار.

لقد تخلى منصور عباس عن الشعارات السابقة كلها حين وقّع اتفاقاً حكومياً ينصّ على “يهودية الدولة”، وعلى دعم الميزانية ومن ضمنها ميزانية الأمن الموجهة ضد الشعب الفلسطنيي، وتبرأ من كل علاقة مع النظام السياسي الفلسطيني حتى الإسلامي منه، ولم يتدخل قط في السياسة الأمنية أو القومية للحكومة، بل إنه أعلن في مقابلة صحافية أن “إسرائيل وُجدت كدولة يهودية، وستبقى كذلك”،[8] في تسليم واضح بالواقع الاستعماري.

وبموافقة منصور عباس على شروط النخب الليبرالية الإسرائيلية، ومنها الاعتراف بيهودية الدولة وبقطعه العلاقة مع القضية الفلسطينية، لم يعد من مانع لدى هذه النخب من أن يشارك في الحكومة، بينما هو مرفوض في جميع الأحوال من “المعسكر اليهودي المتدين”، من منطلق ديني أكثر ممّا هو منطلق قومي.

أمّا “القائمة المشتركة”، فعادت إلى المعارضة بعد انسحاب “الموحدة” منها، وبعد أن رفض غانتس تشكيل حكومة بمشاركتها لأنها لم تتنازل عن البعد القومي، شعاراتياً على الأقل، وأغلق الباب من دون أن يغدو “رابين” ومن دون أن يلتزم بأي مسار سياسي مع القيادة الفلسطينية. بل على العكس من ذلك، فإن “حكومة التغيير” مثلما سُميت، عملت كل شيء مخالف للمسار الذي اتّبعه رابين، بدءاً من العدوان على غزة، مروراً بدعم الاستيطان وإعلان مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية “منظمات إرهابية”، ووصولاً إلى العدوان على جنين ونابلس، لتثبت أنها لا تزال تحت سقف الصهيونية واليمين الصهيوني، حتى لو لم تكن داعمة لنتنياهو. 

الوسطية لم تعد ممكنة في إسرائيل

ربما تكون انتخابات 2022 ذات دلالات هي الأهم بالنسبة إلى الفلسطينيين في أراضي 48. ولعل أفضل من شخّص أداء القوائم العربية في الانتخابات هو رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة، بتصنيفه 3 أطراف: الأول يريد التأثير من دون كرامة؛ الثاني يريد التأثير بكرامة؛ أمّا الثالث فيريد فقط الكرامة من دون تأثير.[9] وهذه الأطراف هي: “القائمة الموحدة” برئاسة منصور عباس، والتي أخذت خطاب “التأثير” إلى أقصى مدى ممكن متجاوزة مسألة الكرامة؛ تحالف “الجبهة – العربية للتغيير” الذي قاد التغيير سابقاً، وأراد أن يُبقي على الشعار الوطني، ويحذو في الوقت ذاته، حذو منصور عباس عملياً وسياسياً؛ ثالثاً “التجمع” الذي طُرد / أو انسحب من القائمة المشتركة وقاد حملته على مبدأ الكرامة حتى من دون تأثير.

بعد هذا كله، هل ما زالت الوسطية التي تريد “الجبهة” حملها ممكنة، في واقع تتهافت فيه دول عربية على التطبيع مع إسرائيل، ويبرز تيار من فلسطينيي 48 يمثله منصور عباس هدفه أن يتمثل في الحكومة الإسرائيلية، وفي واقع تتغير فيه الحالة الفلسطينية، وتتخطى الإطار التقليدي للصراع بعد أن أفشلت إسرائيل “حل الدولتين”، ودفعت الصراع برمّته إلى صراع ديني؟

لعل هذا الواقع هو سر نجاح “التجمع” الذي مع أنه كان يُعَدّ الحزب الأصغر ولم يعبر نسبة الحسم في نهاية المطاف، إلّا إنه حصل على 138,617 صوتاً، واقترب كثيراً من عبور نسبة الحسم، بينما حصل تحالف “الجبهة – العربية للتغيير” على 178,735، مع أنه تحالف حزبَين بينهما “الجبهة” التي تُعتبر حزباً تاريخياً.[10]

لقد كان “التجمع” أبرز القوى في هذه الانتخابات، وذلك لسببين: الأول هو فشل الرهان على إنهائه سياسياً بعد إخراجه من “القائمة المشتركة”؛ الثاني حصوله على دعم قوي جداً من جمهور المصوّتين له، بغضّ النظر عن النتيجة النهائية، الأمر الذي يشير إلى أهمية وجوده كخطاب سياسي. ويمكن تقسيم الذين صوّتوا للتجمع إلى 4 أقسام: الأول، هو كوادر الحزب الناشطين؛ الثاني، هو كوادر الحزب الذين تركوه بعد توصية “القائمة المشتركة” عندما كان التجمع جزءاً منها، بالتصويت لمصلحة غانتس والانخراط في لعبة المعسكرات السياسية؛ الثالث، هو الجمهور الذي صوّت احتجاجاً على سياسة “التأثير” الجديدة؛ الرابع، هو جمهور مَن كانوا يقاطعون الانتخابات سابقاً، وصوّتوا له من أجل العودة إلى شعارات ما قبل “التأثير” على الأقل. لذلك، يجب قراءة التصويت للتجمع ليس كتصويت تنظيمي حزبي – ولا سيما أن الحزب تراجع كثيراً في الأعوام الماضية خلال وجوده في المشتركة – وإنما كتصويت على نهج سياسي، أو بصورة أدق ضد نهج سياسي.

أمّا “القائمة الموحدة” فأثبتت خلال هذه الانتخابات أن لديها جمهوراً ثابتاً من المصوّتين يمنحها المقاعد الخمسة، وهو جمهور يريد الاندماج في المؤسسة الإسرائيلية، ويعرف بصورة واعية ماذا يريد، ويوافق على ما يطرحه منصور عباس، وهو التفسير الوحيد بعد أن حافظت “الموحدة” على قوتها على الرغم من جميع تصريحات منصور عباس التي تناقضت مع البعد الوطني. وقد أثبت هذا الأمرَ استطلاعٌ للرأي أجراه مركز “مدى الكرمل” في سنة 2019 بشأن اتجاهات التصويت، والذي يشير إلى أن نسبة المصوّتين للنمط “الاندماجي” هي 70%، بينما نسبة المصوّتين للنمط “الجمعي – الوطني” هي 67%.[11] ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نسبة التصويت في الوسط العربي لم تتعدَّ 60% في الانتخابات الأخيرة.

جوهر الأزمة أن جمهور المصوّتين للنمط “الجمعي – الوطني” غير متصالح مع ذاته ولا يعرف ماذا يريد فعلاً، ولا يملك خطة استراتيجية ولا هدفاً واقعياً أو نظرة مستقبلية في واقع متغير بشكل جذري.

أمّا مبدأ “التأثير” بـ “كرامة” فمرفوض إسرائيلياً، وقد برز ذلك من خلال رفض الكتلتين الإسرائيليتين الرئيسيتين المشاركتين في الانتخابات التعاون مع أيمن عودة ونهجه، علماً بأن هذا “التأثير” بكرامة غير واضح كيف يمكنه أن يتم أصلاً. وباب “التأثير” لم يُفتح أصلاً إلّا لمَن يريد التنازل عن الكرامة الوطنية.

ما سبق كان توصيفاً للمجتمع الفلسطيني، أمّا بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، فإن حملة نتنياهو الأساسية لتجييش اليمين قامت على شعار “حكومة بدعم الإخوان المسلمين”، في إشارة إلى قائمة منصور عباس،[12] بينما لم يعد “المعسكر الليبرالي” بعد هزيمته محتاجاً إلى العرب. وها هو نتنياهو قد شكل حكومة يمين – ديني استيطاني حسمت هذا الجانب من الصراع، وأغلقت باب “التأثير” كلياً، للأعوام الأربعة المقبلة على الأقل، وعاد الكل إلى زاويته، وبات فلسطينيو 48 خارج الحسابات. 

“هبّة الكرامة”… الصورة الأشمل خارج الصندوق

لقد تمركزت القوى السياسية التقليدية في أراضي 48 عند معادلة متناقضة، فهي تريد هوية وطنية ودعماً لحقوق الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق مطالبه الرسمية مثلما رأتها منظمة التحرير، وفي الوقت ذاته تريد مواطنة كاملة إسرائيلية. وربما أفضل مَن عبّر عن هذه المعادلة كان شعار “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي تبنّاها حرفياً برفعه الشعارَين: هوية وطنية.. ومواطنة كاملة. إلّا إن هذه المعادلة تقوم أساساً على معادلة الصراع التقليدية: دولة فلسطينية في الضفة والقطاع؛ وإسرائيل دولة لجميع المواطنين مع تفريغ الهوية اليهودية من بُعدها الاستعماري. لكن الواقع الآن، هو انهيار فكرة “الدولة” الفلسطينية” تقريباً، وأن كل ما تطلبه إسرائيل هو الاستسلام الكامل الذي استجابت له “القائمة الموحدة” وجمهورها الثابت. وفي المقابل تبرز صورة “هبّة الكرامة” في سنة 2021، والتصويت المرتفع جداً في سنة 2022 لـ “التجمع” الذي يطالب بالعودة إلى ما قبل مرحلة “التأثير”.

وتبقى القوى التقليدية التي يشبه وضعها ما تمر به منظمة التحرير، والتي تحاول من دون منطق حقيقي، الحفاظ على طرح سياسي يبدو مستحيلاً، في واقع تؤجج فيه إسرائيل الصراع بثقله الديني والثقافي والجغرافي والسياسي كافة.

وفي هذا السياق تبدو “الجبهة – العربية للتغيير” الطرف الوحيد الخاسر في الانتخابات الأخيرة، فهي فقدت مكانتها كقوة أولى وتاريخية، وباتت تتساوى مع قوة “الموحدة” بـ 5 مقاعد لكل منهما.

تبدو الصورة مظلمة عندما تظهر “القائمة الموحدة” كأنها هي الرابح الوحيد في الوسط العربي، لكن الصورة أقل سوداوية عندما يتم التعامل مع الصندوق الانتخابي كأحد أشكالها فقط، إذ لم يشارك سوى 53% من مجمل الفلسطينيين أصحاب الحقّ في الاقتراع بعد حملات تمويل واستغاثة لرفع نسبة التصويت،[13] وهو ما يبدو واضحاً حين يتم النظر إلى الحالة العامة. إذ في الوقت الذي دخلت “القائمة الموحدة” إلى الائتلاف الحكومي، اندلعت “هبّة الكرامة” في أيار / مايو 2021، والتي كانت إحدى أهم لحظات اشتباك الفلسطيني في اللد وعكا ويافا وحيفا، بمشاركة إخوانه في القدس وفي الضفة الغربية، عبر إضراب الكرامة الذي عمّ فلسطين التاريخية، وقادتها ودعمتها حركات شبابية مستقلة لم يكن لها علاقة بالبُنى السياسية التقليدية، وهو أهم ما ميز الهبّة من غيرها من الهبّات، إلى جانب أنها كانت الأولى التي لم يصدّرها الداخل كيوم الأرض، ولم يستقبلها كالانتفاضة الثانية.

يشير الواقع إلى أن وضع فلسطينيي 48، مع التحولات التي تفرضها إسرائيل، بات أكثر من أي وقت مضى، شبيهاً بالحالة الفلسطينية العامة: القوى السياسية العلمانية التقليدية والتاريخية تعيش أزمة تمتد على امتداد فلسطين التاريخية، وتمثلها أزمة “منظمة التحرير”؛ أمّا اليسار الأقرب إلى “التجمع” فتأثيره محدود على الرغم من الدعم المعنوي، وذلك بسبب افتقاده بُنى قادرة على تأطير هذا الدعم وتنظيمه.

مرة أُخرى، يسبق المجتمع القوى السياسية وينقسم في قراءة تبدو منطقية بين مَن “استسلم” ويريد أن يندمج كمنصور عباس، وبين مَن تخطى ما هو قائم وانتفض جنباً إلى جنب مع القدس وغزة، معمِّماً الإضراب ومشتبكاً مع “حارس الأسوار” الإسرائيلي في اللد والشيخ جرّاح.

المصادر:

[1] للتوسع في الموضوع، انظر: هنيدة غانم، “الفلسطينيون في إسرائيل بعد صدور وثائق الرؤى: من العبثية إلى القدرة على التأثير”، في: مهند مصطفى (محرر)، “الفلسطينيون في إسرائيل: تحولات المشاركة السياسية في العقدين الأخيرين ورؤية نحو المستقبل” (القدس: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية / مدى الكرمل، 2019)، ص 50 – 67؛ عزمي بشارة، “الخطاب السياسي المبتور ودراسات أُخرى” (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 1998).

[2] مقابلة على القناة “13” الإسرائيلية، بعنوان: “أيمن عودة: إذا سار غانتس بطريق رابين، فسأكون رئيس الكتلة المانعة” (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.

[3] انظر ورقة تقدير موقف صادرة في تشرين الثاني / نوفمبر 2020، عن “وحدة السياسات –  مدى الكرمل”، بعنوان: “القائمة المشتركة: الواقع ومستقبلها”، في الرابط الإلكتروني.

[4] انظر: “غانتس: خلافنا مع القائمة المشتركة على القضايا القومية”، موقع “عرب 48″، 12 / 2 / 2020، في الرابط الإلكتروني.

[5] للتوسع أكثر، انظر: رازي نابلسي، “أزمة إسرائيل… حين يتصارع اليمين واليمين”، “المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات”، 19 / 11 / 2019، في الرابط الإلكتروني.

[6] بشأن حملة نتنياهو في المجتمع العربي خلال انتخابات 2021، انظر: ميرون رابوروت وأمير فاخوري، ” ‘هجمة حب’ من نتنياهو: معانقة العربي، ومسح الفلسطيني”، موقع “سيحا ميكوميت”، 7 / 1 / 2021 (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.

[7] وديع عواودة، “منصور عباس… ‘بيضة القبان’ العربية الإسلامية والرحلة في مناطق الألغام الإسرائيلية”، “القدس العربي”، 2 / 4 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[8] غاد بيرتس، “منصور عباس: دولة إسرائيل دولة يهودية، وهكذا ستبقى؛ السؤال هو عن مكانة العربي فيها” (بالعبرية)، “غلوبس”، 21 / 12 / 2021، في الرابط الإلكتروني.

[9] مقابلة أجراها أيمن عودة مع “راديو الناس”، منشورة في صفحة الراديو في موقع “فايسبوك”، ومتوفرة في الرابط الإلكتروني.

[10] انظر نتائج انتخابات الكنيست الـ 25 لسنة 2022، في موقع “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.

[11] المعلومات واردة في ورقة بحثية قدمها عميد صعابنة بعنوان “تحليل مواقف الفلسطينيين في إسرائيل من أنماط التصويت”، في مؤتمر المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية / مدى الكرمل، “مقاربات أكاديمية وسياسية في مؤتمر مدى الكرمل حول تحولات المشاركة السياسية في المجتمع الفلسطيني”، 17 / 7 / 2019.

[12] انظر: رازي نابلسي، “الانتخابات الإسرائيلية: يهودية الدولة أولاً؛ والقتل بعقلانية لم يعد كافياً”، مدونة “فلسطين الميدان” في موقع “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، 7 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.

[13] انظر: وديع عواودة، “أنماط تصويت العرب في انتخابات الكنيست الإسرائيلي.. قراءات وتحذيرات وتوصيات”، “القدس العربي”، 15 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.

السيرة الشخصية: 

رازي نابلسي: كاتب وباحث فلسطيني.

عن مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 133، شتاء 2023

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *