فعاليّة التقارير الدولية للحد من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأطفال

مقدمة

أصدرت الأمم المتحدة، في أيّار/مايو 2021، تقريرًا يرصد 1031 انتهاكًا جسيمًا ضدّ الأطفال في فلسطين في العام 2020.[1] وعلى الرغم من توالي التقارير الدوليّة بهذا الشّأن، واستخدام أدوات المراقبة الدوليّة على انتهاكات حقوق الإنسان، وحقوق الأطفال تحديدًا، إلّا أنّها لا تُشكّل أثرًا على ممارسات الاحتلال الذي ينتهك هذه الحقوق بشكل منهجيّ ومتصاعد.

وتثير هذه الحقيقة تساؤلًا حول فعاليّة هذه التقارير في الحدّ من انتهاكات الاحتلال، والآثار التراكميّة لها على المجتمع الفلسطينيّ.

يُعدّ الأطفال المكوّن الأساسيّ للمجتمع الفلسطينيّ، إذ يُشَكّلون، حاليًا، 44.2% من سكّان الأراضي الفلسطينية.[2] ومع أنّ التقارير الدوليّة أداة رقابيّة يستخدمها المجتمع الدوليّ في حماية حقوق الإنسان، وجزء من منظومة المساءلة والمحاسبة الدوليّة، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لدى دراسة انتهاكات حقوق الإنسان، فإنّ استمرار انتهاكات الاحتلال لحقوق الطفل الفلسطينيّ يقوّض صلاحيّة هذه الأدوات.

وعليه، فإن تقارير الأمم المتحدة تبقى موادَ توثيقيّة لاعتداءات ممنهجة ومنظمة ضد الأطفال الفلسطينيين تهدف إلى تقويض مستقبل المجتمع الفلسطيني، من خلال هدم ركائزه البشرية، بدلًا من أن تُستَخدَم فعليًا في المحافل الدولية أدلةً ضد الاحتلال من أجل محاسبته.

انتهاكات مستمرّة

تعود أول حادثة موثقة قتل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي أطفالًا فلسطينيين إلى تشرين الثاني/نوفمبر 1950، حين أطلق جنديّ النار على ثلاثة أطفال (أعمارهم 8 و10 و12 عامًا)، من قريبة يالو باللطرون، دون أن يتدخّل أحد من أفراد كتيبته.[3]

انتهاكات حقوق الأطفال الفلسطينيين على يد الاحتلال مستمرّة دون توقّف، فقد أورد تقرير الأمم المتحدة 1031 انتهاكًا بحق الأطفال في العام 2020، وجاءت بعد هذا التقرير العديد من الاعتقالات والتعنيف الميداني للأطفال، إضافة إلى تعريضهم للقتل والقصف خلال معركة القدس في أيار/مايو 2021. فمنذ بدء العام 2021 ولغاية منتصف آب/أغسطس من العام، استشهد 11 طفلًا في الضفة الغربية على يد قوات الاحتلال، فيما استشهد في قطاع غزة 67 طفلًا خلال معركة سيف القدس في أيار/مايو من العام ذاته.

قصور المجتمع الدولي

مع توالي انتهاكات الاحتلال ضد الأطفال الفلسطينيين، يتوالى صدور التقارير الأمميّة التي ترصدها، وتُعّدّ هذه التقارير أدوات رقابيّة على انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق الطفل، وتشكّل كذلك أدوات للمساءلة والمحاسبة في المحافل الدوليّة، إذ تُعَدّ وثائق يمكن الاستناد إليها لتعزيز احترام القانون الدوليّ. وتوفّر التقارير السنوية للأمين العام ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومحكمة العدل الدولية نقاط انطلاق للبحث في قانونيّة الأفعال التي ترتكبها جهة أو دولة ما.[4]

في ذات السياق، تنص ديباجة الأمم المتحدّة على أن “شعوب الأمم المتحدة آلت على أنفسها تبيان “الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي”، ولذا لم يزل تطوير القانون الدولي واحترامه جزءًا رئيسيًا من عمل المنظمة”، ويقنن ميثاق الأمم المتحدة المبادئ الرئيسية للعلاقات الدولية، ابتداء من السيادة المتساوية للدولة، وانتهاء بتجريم استخدام القوة في العلاقات الدولية.[5]

رغم ذلك، فإنه منذ العام 2010، لم يُذكَر اسم دولة الاحتلال “إسرائيل” في تقارير محكمة العدل الدوليّة سوى مرّتين اثنتين كلتيهما في تقرير 2013-2014، إحداهما للإشارة إلى زيارة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس، آنذاك، إلى المحكمة، والأخرى لقول إن ثمة طلبات، من جزر مارشال، لإقامة دَعَاوَى ضدّ ستّ دول، إسرائيل من ضمنها، متعلقة بوقف سباق التسلّح النوويّ، وقالت فيه المحكمة إن دولة الاحتلال ليست طرفًا في المعاهدة.[6] وذكر اسم دولة الاحتلال في تقارير انتهاكات حقوق الأطفال، منذ العام 2010 وحتى كتابة هذه الورقة، في 214 وثيقة من وثائق الأمم المتحدة، منها 59 تقريرًا، و29 مسودّة قرار، وفق محرك بحث مكتبة الأمم المتحدة الرقمية، ويُعَدّ هذا قصورًا في شموليّة عمل المنظومة الدوليّة التي ترصد وتوصي، ولا تُسائل عمّا رصدته.

القانون الإسرائيلي مقابل المواثيق الدوليّة

إلى جانب المواثيق الدوليّة التي تنصّ على كيفيّة التعامل مع الأطفال أثناء الصراع، تحظر مدوّنة قواعد السلوك لجيش الاحتلال الإسرائيلي، صراحةً، استهداف المدنيين غير المقاتلين، وتفرض استخدام القوة المتناسبة، إلا أن ذلك لا يطبق في الواقع، إذ قتل جيش الاحتلال آلاف الأطفال الفلسطينيين منذ العام 1948.

وفي هذا السياق، توصّلت دراسة أكاديمية، أعدها الباحث فيليب فيرمان وآخرون، إلى أن رد فعل الشرطة والجيش الإسرائيليَين تجاه التعامل مع الفلسطيني قوي للغاية، لدرجة أنه “يقضي عمليًا على أي فرصة لتقديم تدريب فعّال موجه لحماية الأطفال”[7]، وهذا يُفَسّر حجم الانتهاكات ضدّ الأطفال.

تتولى محكمة العدل الدوليّة، الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، الفصل طبقًا لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. وتقر اتفاقيات جنيف بأن “الأراضي التي يتم غزوها ولم تتم تسوية النزاع القائم على ملكيتها من خلال معاهدات سلام لاحقة تعد أراضٍ “محتلة”، وتخضع لقوانين الحرب الدولية، فيما يتعلق بالمقاتلين والمدنيين والقانون الدولي الإنساني.[8]

وبناء على ما سبق، فإن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل مسؤولية خاصة متعلقة بمعاملته للفلسطينيين وانتهاكات حقوقهم، لا سيما الأطفال المحميون بموجب اتفاقية حقوق الطفل، التي تسري على كل أطفال العالم، وتعرّف “الطفل” بأنه “كلّ إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب قانون الدولة التي يتبع لها”.[9]

صادقت دولة الاحتلال على اتفاقية حقوق الطفل في العام 1991، وصادق عليها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في العام 1995، ورغم أن دولة الاحتلال تطبّق الاتفاقية على حملة الجنسية الإسرائيلية إلا أنها تتعامل مع الأطفال الفلسطينيين باعتبارهم من لم يبلغوا السادسة عشرة فقط، وبحسب قانون الشباب الإسرائيلي، تقع المسؤولية الجنائية على من أتمّ الثانية عشرة من الفلسطينيين. ورغم أنّ هذا القانون ينصّ على عدم جواز توقيف الأطفال دون عمر الثانية عشرة، ولا يمكن استجوابهم إلا بحضور الوالدين أو المحامي، إلا أن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة “بتسيلم” أوضح أن الاحتلال لا يطبّق هذا القانون على الأطفال الفلسطينيين، فيخضعهم للمحاكمات العسكرية بموجب القانون العسكري الإسرائيلي.[10]

ورغم هذا كلّه، تتعدّد أنواع انتهاكات الاحتلال بحق الأطفال، فبحسب إحصائية أصدرتها مؤسسات الأسرى ونشرتها هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإنّه حتى أيّار/مايو 2021 يستمر الاحتلال باعتقال 471 طفلًا في سجونه.[11] كما أن هناك أطفالًا تشرّدوا نتيجة قصف مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) بغزّة، وهناك من شهدوا ترحيل عائلاتهم وهدم منازلهم في القدس والضفة الغربية، ومن تعرّضوا لحالات هلع، وصدمات نفسيّة حادّة نتيجة كلّ هذه الاعتداءات. وهو ما أكّده تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) بالقول “إن سوء معاملة الأطفال الفلسطينيين في نظام الاعتقال العسكري الإسرائيلي يبدو منتشرًا ومنظمًا وممنهجًا”، وأنه “لا يُحاكم الأطفال بشكل منهجي أمام محاكم عسكرية للقاصرين في أي بلد آخر”.[12]

ضعف الأداء الفلسطينيّ

القصور في الأداء مركّب بين قصور المؤسسات الفلسطينية الرسميّة ومؤسسات المجتمع المدنيّ، ففضلًا عن ازدواجيّة المعايير لدى المنظومة الدوليّة، لا تستثمر السلطة الفلسطينية هذه التقارير بشكل كافٍ في المحافل الدولية، وتكتفي بالرسائل المتطابقة والمخاطبات والمطالبات، وهذا قد يكون جزئيًا بسبب عضويتها غير المكتملة في المنظمات الدولية، وأيضًا لأن دولة الاحتلال ليست طرفًا ملتزمًا بالاتفاقيات الدولية، وبهذا فإنها لا تنطبق عليها، إضافة إلى أنها  تمارس ضغوطًا كبيرة سياسية واقتصادية على السلطة لا تمكّنها من التحرك بحرية في المحافل الدولية.

أمّا مؤسسات المجتمع المدنيّ الفلسطينية التي تعمل مع الأطفال، ومن أجل حقوقهم، فإن عملها يقتصر على معالجة آثار الانتهاكات ضد الأطفال، دون السعي لمعالجة أسبابها جذريًا من أجل إنهائها.

تفيد كلّ هذه المعطيات بأن تقارير الأمم المتحدة حول انتهاكات الاحتلال لحقوق الأطفال لا تتجاوز كونها موادّ توثيقيّة، ليست لها أيّ فعاليّة واقعيّة على الأصعدة العمليّة تجاه المساءلة والمحاسبة، ووقف الانتهاكات التي تخالف القانون الدولي، ومواثيق حقوق الطفل، وحقوق الإنسان.

أبعاد استمرار الانتهاكات

يعرّض استمرار هذه الانتهاكات مستقبل الأطفال الفلسطينيين والمجتمع لمخاطر نمائية وتنموية، إذ يعاني الأطفال المحررون من اضطراب ما بعد الصدمة[13]، التي تؤدّي إلى آثار نفسية اجتماعية على صعيد الأفراد، فيواجه ضحايا الأحداث الصادمة مثل الحروب والاعتقالات والاعتداءات الجسدية والجنسية خلال الاعتقال وغيره صعوبات في الانغمار في الحياة بشكل طبيعي، إذ يعيشون حالة من الإنذار المستمرّ، لذا فإنهم معرضون لاضطرابات الاكتئاب والقلق والهوس القهري ومتلازمة الشخصية الحدية.

وفي حالة الأطفال تحديدّا، فإن نماءهم وازدهارهم وأفقهم في التعليم والتفوّق يضمحلّ، لأن الأحداث الصادمة تؤثر على معدّلات ذكائهم وتحصيلهم وقدرتهم على الانسجام في بيئات التعليم والعمل، وبناء العلاقات مع الآخرين بشكل صحّي.[14]

خاتمة

تتراكم الاضطرابات النفسية الناجمة عن تراكم وتزايد الاعتداءات والانتهاكات بحقّ الأطفال الفلسطينيين، نتيجة ازدواجية المنظومة القانونية الدولية، وضعف أداء الجهات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية في مجال الدفاع عن الأطفال الفلسطينيين وردّ الاعتداءات عنهم.

ومن هنا نستنتج أن الاعتداء على الأطفال ممارسة منهجيّة ينتهجها الاحتلال لتكون لها آثار بعيدة المدى، وأنّ هَدْمَ هذا الجيل معنويًّا من خلال الإيذاء المُتَعَمَّد والمُمَنْهَج والمُكَثَّف هو هَدْمٌ، ليس لصحّته النّفسيًة فحسب، بل لصحّة المجتمع الفلسطينيّ وتطوّره العضويّ الطبيعيّ في المستقبل. وهذا يتطلب من الجهات الفلسطينية الرسمية العمل على صعيدين، هما:

أولًا: تدعيم نظام خدمات الدعم النفسيّ الطارئ والمستدام للمجتمع الفلسطيني، أطفالًا ومراهقين وبالغين، من أجل تخفيف حدّة الضرر الحاصل عليهم نتيجة الانتهاكات التي تعرضوا لها في طفولتهم، وإدخالها في المنظومات التعليمية والصحيّة بشكل ناجع.

ثانيًا: العمل على السّاحة الدوليّة من أجل الانتفاع ممّا توفّره المنظومة الدوليّة من وسائل مساءلة ومحاسبة، وربّما ردع، لانتهاكات الاحتلال تجاه الأطفال، دون حساب للمضايقات التي قد يوقعها الاحتلال عليها، لأنّ ردع الاحتلال يعني وقف هذه المضايقات بكل الأحوال.

الهوامش

** ما يرد في هذه الورقة من آراء تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز مسارات.

[1] تقرير تعزيز حقوق الطفل وحمايتها، تقرير الأمين العام رقم A/75/873–S/2021/437، موقع وثائق الأمم المتحدة، 6/5/2021: bit.ly/3lDJCVM

[2] عوض تستعرض أوضاع أطفال فلسطين بمناسبة يوم الطفل الفلسطيني، الجهاز المركزي للإحصاء المركزي، 5/4/2021: bit.ly/3kdcKEk

[3] Benny Morris, Israel’s Border Wars 1949-1956, Oxford University, 1993, P 181.

[4] وثائق الأمم المتحدة: الجمعية العامة، مكتبة داغ همرشولد: bit.ly/3gshgMr

[5] احترام القانون الدوليّ، الأمم المتحدة: bit.ly/3t1FbHq

[6] تقرير محكمة العدل الدولية A/69/4، الأمم المتحدة، 2014: bit.ly/3D6us3n

[7] Protection of children during armed political conflict: a multidisciplinary perspective, Charles W Greenbaum et all, Intersentia ,2006.

[8] اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها.

[9] اتفاقية حقوق الطفل 1990.

[10] Mass arrest of Palestinian children on their way to school in Hebron – at least 5 under the age of criminal responsibility, B’Tselem, 20/3/2013: bit.ly/3gIUL6c

[11] مؤسسات الأسرى: الاحتلال اعتقل 3100 فلسطيني خلال أيّار/مايو 2021، هيئة شؤون الأسرى والمحررين،  13/6/2021: bit.ly/3zxAac7

[12]تقرير حماية الطفل، منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) – دولة فلسطين: uni.cf/3mIoKil

[13] الأثر الناتج عن اعتقال الأطفال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مؤسسة إنقاذ الطفل، السويد، 2012، ص 54.

[14] Rachel Lev-Wiesel, Mahmud Sehwail & Alean Al-Krenawi, Psychological Symptomatology Among Palestinian Adolescents Living with Political Violencve, Child and Adolescent Mental Health, 2007, P 28.

عن مركز مسارات

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *